الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٥٣ مساءً

القلم عوضاً عن الزناد

حسن العديني
الثلاثاء ، ٠٦ يناير ٢٠١٥ الساعة ١١:٣٥ صباحاً
يوم أصدرت حكومة محمد سالم باسندوة قراراً بتكريس تعز عاصمة للثقافة في اليمن، كتبت في صحيفة الثورة متسائلاً ومندهشاً وربما بدا الحديث لاذع النبرة، لأن الازدهار الثقافي في أي بلد لا يصطفي مدينة بعينها ولا يتحقق بمرسوم مكتوب دون أن يسنده توجه جاد لبناء حضاري شامل ومتكامل تكون الثقافة إحدى دعائمه ثم يتولد عن التراكم تمايز يضفي على كل مدينة طابعها المميز وشخصيتها المتفردة. ولقد تراءت لي تعز ذلك الوقت عاصمة للرعب من شدة اكتظاظها بمسلحين، لم يكفوا عن قطع السبيل لسلب الناس مراكبهم وما في جيوبهم وأحياناً عقاراتهم، كان أولئك المسلحون نبتاً خبيثاً، سهر على إنمائه اللواء علي محسن الأحمر بصورة خاصة بعد ثورة فبراير 2011 ضمن أعمال كثيرة غير محمود رعاها في أرجاء اليمن من البحر إلى البحر ومن الجبل إلى الصحراء.

عدا السلاح فلم تكن تعز معافاة من لوثة المخدرات والضجيج والقمامة ومن كل ما يؤذي العين والأذن ويدمي القلب. ولم تزل تعز بعد قرار حكومة باسندوة كما رأيتها منذ أسابيع غير تعز سنوات الصبا عندما كانت عامرة بما يطفئ الشهوة إلى المعرفة ومفاهيمها، ضاجة بالنقاشات الفكرية ومدارسها، مصانع لثورة الآمال والتطلعات، وما عادت تلك المدينة التي أبهرت الفتى الذي سيصير طائراً مجنحاً في فضاء الشعر العربي ليرى معها الدكتور عبدالعزيز المقالح «أن للمدن الرائعات من الحسن ما لوجوه النساء الجميلات». لقد أنزل فيها علي عبدالله صالح من الويلات في ثلث قرن ما أملته عليه نفسه المريضة بعقدة “أوديب”، ذلك أنه رضع من حليبها وتنعم فيها بخيرات الدنيا ومنها نط بوثبة سريعة إلى كرسي الحكم.

إن محمد باسندوة الذي حاول شراء سكوت أهالي تعز على خطايا حكومته بعملة مزيفة، ما لبث أن وعدهم بلوازم الموتى، فبعد أشهر قليلة من قرار حكومته المسلي، نزل تعز في سيارة وتحدث مخاطباً أهلها واعداً ببناء المزيد من المقابر. وحيال هذا سخر الناس من المغزى، ولم يتبادر إلى ذهن أحد أن القول يأتي في سياق القرار السالف وأنه قصد بناء أحد الصروح التي تمثل شاهد نضج ثقافي أو حضاري على غرار «مقبرة عظماء فرنسا في باريس البانثيون». لا أحد على الاطلاق تصور ذلك بالأخص الذين عرفوا باسندوة عن قرب وعرفوا أن مخزونه الثقافي لا يتعدى بعض المحفوظات من الشعر الكلاسيكي، وقليلاً من الموروث الديني، لكن هؤلاء أيضاً يعرفون ولعه بتنبؤات المنجمين، إذ هو يجاهر بأنه زائر مواظب لضاربات الودع وقارئات الفنجان.

ومن هنا، من هنا بالضبط ربما كان رئيس الوزراء السابق على علم سابق بأن إشارات السلاح ستتطور بقانون التداعي إلى عنف متبادل وحرب فتاكة، وها هي تعز في مرمى التهديد، ولئن لم يكن فإن رائحة الدم والدوي المسموع من بعيد يؤذي هذه البقعة من البلاد التي توزع الربيع لليمنيين جميعهم بحسب التعبير البليغ للدكتور عبدالعزيز المقالح، فهكذا قال “هذه أرض العشب والعسل والثورات، أرض الصلوات والمسرات والتضحيات، أرض لا تدور على نفسها ولا تحتكر الربيع لأطفالها وجدهم، أرض تمتلك ذاكرة لا تنطفئ أضواؤها.”

وهي في مرمى التهديد يجرى تحذير تعز من أن تستجيب لدعاة الطائفية والمناطقية، فلا تفتح أبوابها لحملة البنادق والمدافع، وكذلك كان علي عبدالله صالح وإعلامه قبل وبعد حرب 1994م يلقي تهمة الطائفية على من ينتقد ممارساته حتى لم يكن معدّياً الحقيقة من اختصر تلك السياسة في عبارة «ما لم توافق على أن أدوس أنفك فلست ابن عمي» وربما ارتدى القول لغة مسرفة في الابتذال ، لكن هكذا كان الحال، وقد أحسست بمدى ما كان يكنه علي عبدالله صالح من ضغينة لتعز عندما اشتد بيننا الكلام على الهاتف يوم اتصل بي غاضباً من عبدالله سلام الحكيمي العام 2000 على حديث له مع قناة الجزيرة طالباً إبلاغه رسالة رأيت أنها لا تليق بمقام الرئيس فقال بعد إصرار «هذا وطن، ليست سنحان ولا تعز» واضعاً قريته في كفة محافظة حملته فقيراً ووضعته رئيساً.

وإنما جئت الموضوع من تعز لكي أقرر أن المخاوف من حرب في اليمن تلبس عباءة الطائفية لا تستند إلى حقائق، ولا تعززها معطيات، لأن الطائفية يستدعيها تعصب على جانبين، وليس الأمر على هذا النحو في تعز أو مارب أو سواهما، ثم إنه ليس كذلك على الناحية المقابلة. وإذا كان الرئيس السابق والمتحالفون معه استدعوا الجرثومة القديمة، فقد وجدوا مقاومة شديدة وسط البيئة الاجتماعية التي راهنوا على جهلها. بعبارة مباشرة تواجه الدعوة إلى فرض واقع سياسي ذي طابع مذهبي، مقاومة من أبناء الطائفة الزيدية واستهجاناً من الهاشميين أو أغلبهم. ويوماً بعد آخر يتبلور الصراع المسلح لينحصر في جماعات قليلة من المتعصبين على الناحيتين، ومع ذلك يبقى القرار في أيدي جماعة الحوثي، إذ بيدها الاكتفاء بما حققت من انتصارات لتعزيز وجودها كحزب سياسي لا بد أن يتخلى عن السلاح. ومن غير ذلك فهي لا تصيب القاعدة بمقتل بقدر ما تهيء مناخاً للانتشار والتوسع، ذلك إذا رغبت في المشاركة بهزيمة نبوءة عرافات باسندوة.

سوف يكون عليها أن تحمي نفسها من حمأة الانتقام المسيطرة على علي عبدالله صالح وأن تتخلص من شبح الموت الذي يطل من يافطاتها، لأن بناء اليمن لن يتحقق بالدعوة على امريكا بالموت وحتى على إسرائيل، كما لا يكون استقطاب الماضي إلى المستقبل، وإنما تبنى اليمن بإحياء الإنسان فيها، ذلك الإحياء الذي لا تنجزه البنادق أو المقابر، بل الثقافة الخلاقة والاتصال الوثيق بالعلم.

ولقد تدخلت حركة الحوثي منذ دخول صنعاء في أعمال أجهزة الدولة الرسمية ولم تهتم بنصيحة تسديها للحكومة بإلغاء مصلحة شئون القبائل وتوجيه مخصصاتها لوزارة الثقافة أو مراكز البحث. إن اليمن أشد حاجة لفنانين وعلماء، أعني علماء في الطبيعيات والإنسانيات، وليس بالمعنى المتداول في وصف الوعاظ، فالأصابع التي تمسك بالريشة أو القلم خير للحياة من تلك الضاغطة على الزناد.

الحياة بدل الموت والقلم عوضاً عن البندقية.

" الجمهورية نت "