الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٠١ مساءً

الرحلة (605) موت وظلام

محمد النظاري
الثلاثاء ، ٢٥ سبتمبر ٢٠١٢ الساعة ٠٤:٤٠ مساءً
لم تكن الرحلة التي أقلتني وأسرتي في الجزء الثاني من عودتي الى وطني عادية على الإطلاق، فقد مر الجزء الأول منها من الجزائر نحو قاهرة المعز اعتيادياً، غير أن رحلة اليمنية رقم 605 والتي كان من المفترض أن تطير بنا من مطار القاهرة فجر 11 من سبتمبر الجاري نحو اليمن الحبيب، لم تكن ظروفها طبيعية لا في إقلاعها أو هبوطها.

كنت قد آليت على نفسي ألا أكتب ما جرى في تلك الرحلة، حتى لا يقال أننا نشوه بصورة طيراننا الوطني، غير أن بعضاً من الذين رافقوني على نفس الرحلة أصروا في اتصالات متكررة بي بعد يومين من وصولنا بإيصال ما حدث الى المسئولين في طيران اليمنية عسى أن يتلافوه حتى لا تحدث كارثة أكبر.
كلنا يعلم أن الظلام أصبح ملازماً لنا في اليمن فما إن تنطفأ الكهرباء، حتى يلحقها انطفاء آخر، وقد يكون هذا مقبولاً على الأرض اليمنية نتيجة الأضرار التي تتعرض لها المنظومة الكهربائية، أما أن يحدث ذلك على إحدى طائراتنا الوطنية في إحدى المطارات الشقيقة، فهذا هو العجب العجاب.

ما إن وطئت أقدامنا سلم الطائرة حتى حلت الظلمة التامة على المحيط الخارجي وداخل الطائرة، مما جعلنا ندرك خصوصاً نحن المقيمون في المهجر أننا فعلاً متجهون الى بلاد الشمع، وحينها طلب مضيفو الطائرة منا إشعال هواتفنا لأننا بكل تأكيد لم نكن نحمل شمعاً، والحمد لله اننا كنا في القاهرة وإلا لكانت منطفئة، ظلت الطائرة في ظلام دامس زهاء العشرين دقيقة، والكل متألم والأطفال متضايقون والمرضى في حالة يرثى لها، حتى منّ الله علينا بعودة الكهرباء.

في حقيقة الامر ما حدث في طائرتنا شيئ خطير، ولو كان في طائرة أخرى لما سُمح لها بالإقلاع، فالخلل الذي جرى على الأرض يمكن أن يعود ونحن في الجو، وفعلاً وبعد إقلاع الطائرة بعشر دقائق شرعت أجهزة العرض باستعراض خطوات السلامة المعتادة في كل رحلة، غير أن الانطفاء عاد مجدداً ولكنه اقتصر هذه المرة على أجهزة العرض، مما جعل المضيفين يكملون عملية الشرح يدوياً، تماشياً مع نشرة الصم والبكم.

بعدها سمعنا كابتن الرحلة جلال خليل يعتذر عما حدث، معللاً ذلك بالمعدات الارضية بمطار القاهرة، وظلننا طوال الرحلة محرومين من شاشات العرض، سواء للاستمتاع أو لمعرفة الارتفاعات والخريطة الجوية التي نسير عليها، وفي الحقيقة لم يكن همنا سوى الوصول سالمين قبل يعاود الظلام إلينا ونحو في الجو.

ما زاد الرحلة سوءً أننا قبل ساعة من الهبوط في مطار عدن قبل الإقلاع مجدداً الى صنعاء، استغاثت الاخت (د،ع،أ،ص) بنت 28 عاماً ومعها زوجها (س،أ،ع) بن 32 عاماً –وكلاهما من أبناء الضالع-بطاقم الطائرة كي يسعفوها بالأكسجين، وعندها سمعنا قائد الرحلة يطلب العون بأي طبيب في الطائرة، ولكن المصيبة أنه لم يتواجد معنا أي طبيب، ولم يسمحوا لها بالأكسجين بداعي عدم وجود طبيب، ولم تفلح جهود أحد المضيفين في تنشيط قلب المسافرة يدوياً، لتفارق الحياة وهي بين أيدينا، مما خلق الرعب في نفوس جميع الركاب.

بدأنا الرحلة بظلام وأنهيناها بموت، وبين الحالتين تسلل الى قلوبنا شعور مخيف كيف بنا إذا احتجنا جميعاً للأكسجين، هل سيطلبون طبيباً لكل راكب، فإذا كانت الأخت المريضة لم تحصل على الرعاية الكافية مما جعلها تدفع حياتها ثمناً لذلك، مع أن زوجها بقلب الرجل المؤمن اكتفى بالقول انه قضاء وقدر.

لم يكلف قائد الرحلة تهدئتنا أو تعزية اسرة المرحومة عبر مكبر الصوت، وكأن التي أسلمت روحها ليست بشراً، وهذا ما زاد من سخط المسافرين، فهل أصبحت الأرواح رخيصة لهذه الدرجة خاصة لأولئك القادمين من مصر والذين يكونون في الغالب عائدين من رحلة علاج يحتاجون خلالها للعناية الفائقة.
ما جرى من أحداث مؤسفة في رحلة اليمنية رقم 605 يدعونا جميعاً لمناشدة رئيس مجلس إدارة اليمنية اتخاذ كافة الإجراءات التي تُشعر المسافرين أنهم أناس من لحم ودم، وليسوا حيوانات، وأن مبدأ الأمن والسلامة ينبغي أن يكون متوفراً، ولعلنا نتذكر كيف عادت طائرة اليمنية المتجهة من عدن الى الأردن بعد نصف ساعة من تحليقها... فهل بدأ اسطول اليمنية بالتهالك؟، لا بد من تفسير لما حدث.

لو كنت في مكان زوج المتوفية لرفعت قضية على اليمنية، لعدم توفيرها متطلبات المسافرين المرضى، صحيح أن الموت بيد الله، ولكن الإهمال قد يكون سبباً للموت، ولا يُعاني المسافرون فقط وهم في الجو، بل في المطارات أيضاً فاليمنية وللأسف الشديد لا تُعامل ركابها كباقي الشركات، فالمسافر يضل ترانزيت في مطار القاهرة لأكثر من عشر ساعات، ولا يقدم له أي وجبة، ولا ينقل لأي فندق مع أن سعرها هو الأعلى، فالمسافر من صنعاء للجزائر يضطر للبقاء في المطار عشرون ساعة، بدون أي خدمة تقدمها له اليمنية أو الشركة المصرية التي تعاقدت معها لنقل المسافرين للجزائر.

المغرب العربي يحتاج على الأقل لرحلة واحدة تقل اليمنيين الى إحدى دوله، ولتكن الجزائر لأنها تتوسط دول تلك المنطقة، فمن المعيب أن تذهب اليمنية شرقاً وغرباً وتتحاشى أن تنسق رحلة ولو اسبوعية لدول المغرب العربي.
المهم أن المسافرين في رحلة الموت والظلام 605 هبطوا بحمد الله وسلامته في مطار عدن، بعد سفرة شاهدوا فيها ما لا يصدق، فهل سيقتصر ما حدث علينا فقط، أم أنها عادة رحلات كثيرة يغيب عنها الإعلام، وتبقى أسيرة في صدور من عايشوها، ولهذا أردت أن اروي ما حدث لنا حتى يمكن تلافيها في الرحلات القادمة.