ذكرياتي في مصر العربية أوسع من أن يضمها كتاب بمئات الصفحات، ومع ذلك أجد نفسي بين حين وآخر مدفوعاً إلى إلقاء الضوء على جزئية صغيرة من سفر تلك الذكريات. وتحضرني منها الآن إحدى تلك الجزئيات في رحيل الصديق الشاعر حلمي سالم وهي عن اللقاءات الأدبية والشعرية التي جمعتني به وامتدت إلى أكثر من سبع سنوات ومكانها القاهرة، أما زمان الجزء الأكبر منها فعقد السبعينيات، والتي تواصلت بعد ذلك منذ مغادرتي القاهرة إلى صنعاء، حتى يوم رحيله في الثامن والعشرين من يوليو المنصرم منذ أيام، تخللتها لقاءات قصيرة ونادرة في صنعاء التي أحبها حلمي وأبدى إعجاباً هائلاً بمناخها الشتوي والصيفي ورأى فيها أنموذجاً للمدن الأسطورية التي يتعانق فيها الواقع مع الخيال في حالة لذيذة من التناغم والانسجام.
حلمي سالم شاعر ومفكر وإنسان يندر وجوده في هذا الزمان البخيل بالنماذج العالية من البشر: شجاع، صريح، صادق، لا يساوم على ما يعتقده حقاً، ولا ينطق بالسوء، يختلف مع الآخرين بسمو، ويحرص بصدق موضوعي على أن لا تكون ساحة الحياة خالية من الرأي والرأي الآخر لتستقيم الأمور ويتعايش الناس وتسلم حياتهم من الاهتزازات ولا تتحول الأحلام إلى حطام. كان لقائي به الأول في صباحية شعرية نظمتها كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تواصلت وتعددت لقاءاتنا الأدبية التي كان أبرزها وأخلدها لقاء الثلاثاء من كل أسبوع في شقتي المتواضعة بالقرب من نادي الصيد، والتي جمعت في ذلك الحين كوكبة لا تنسى من شعراء المستقبل في مصر واليمن وغيرهما من الأقطار العربية واستمرت على مدى سبع سنوات أو أكثر لم تنقطع أسبوعاً واحداً.
من بين الحضور في لقاء الثلاثاء إضافة إلى حلمي الذي كان من أبرز نجومه وواحداً من فرسان المغامرة الشعرية الجديدة: الشاعر حسن طلب، والشاعر أمجد ريان، والشاعر رفعت سلام، والشاعر محمد صالح، والشاعر علي قنديل الذي رحل عن الحياة باكراً. ومن البحرين علوي الهاشمي، وخالد القسام، وقاسم حداد، عند زيارته إلى القاهرة، ومن ليبيا زياد علي، ومحمد الفقيه صالح، ومن عُمان عيسى حمد الطائي، ومن اليمن حسن اللوزي، ومحمد علي الشامي، وزكي بركات، وعبدالرحمن إبراهيم.
كان حلمي الشاعر والإنسان يشعر دائماً أنه مسؤول عن تصحيح كل الانحرافات التي تحدث في الوطن العربي، وأن عليه أن يحارب الظلم الذي يحدث على وجه الأرض العربية، كما كانت مأساة فلسطين تؤرق روحه وتجعله يرى في حلها وتخليص أهلها من ربقة الاحتلال الاستيطاني مفتاحاً لحل بقية المشكلات التي يعاني منها العرب في كل أقطارهم، لذلك فقد انتدب نفسه ليكون واحداً من فدائييها، وذهب إلى بيروت ليشارك المقاومة الفلسطينية الحصار والقصف والمعاناة، يحرر يومياً في نشراتها، ويكتب القصائد من وحي الواقع الحي والساخن:
لو شَحَّ الخبز
سنأكلُ عشبَ حدائقنا ونقاتلْ
لو شحَّ الماء سنشرب عرقَ سواعدنا ونواصلْ
لو قلَّ الحبر سنكتب برصاص بنادقنا
أنقى كلمات قصائدنا
نضرب، ونغازلْ.
في اليوم الأخير من حياة حلمي كان في غرفة غسيل الكلى عندما اتصلت به أطمئن على صحته، كان التليفون في يد العزيز الأستاذ قادري أحمد حيدر، وكان المتحدث الشاعر عبدالمنعم رمضان، ناولني قادري التليفون لأسمع عبدالمنعم وهو يقول: «البقية في حياتك يا دكتور، حلمي مات الآن...» توقف الاتصال دخلت وقادري في لحظات صمت هي من أثقل ما مرّ بي في حياتي كان حلمي قد طلب قبل ساعات أن نتصل به إلى المستشفى بعد أن تتم عملية الغسيل اليومي، لكن الموت كان أسبق إليه وكانت صدمتنا أكبر من أن تستوعبها الكلمات أو تعكس فجيعتها المفاجئة ما يتجسد في الصدر من مشاعر اللوعة والأسى المرير، وعلى اللسان من أسئلة أقربها إلى تلك اللحظة السؤال الآتي: كيف تختفي تلك الحيوية المدهشة، ويتوقف نبض المشاعر المتدفقة في غمضة عين؟
تأملات شعرية:
لماذا الكآبة تتبعني حيثما سرت
تقفو خطاي كظلي
وتأبى مفارقتي؟
هل دمي من هواة الكآبة
أم أنها عرفت كيف تختار حزني
ولون أسايْ؟
أتساءل: لا قلقاً من مصيري
ولا خوفاً مما يخبئه زمنٌ بات يغدر بالأصدقاء
ولكنني خائف من غبار الكآبة
يقفو خطاي؟!