قال لي أحد الأشقاء وهو في طريق عودته إلى بلاده بعد أن أمضى أيامًا في صنعاء وأيامًا في عدن: إن الانطباع المهم الذي خرج به من زيارته لبلادنا جعله يدرك أن اليمنيين وهم على أبواب مرحلة جديدة «مُتشائلون» أي أنهم يجمعون بين التفاؤل والتشاؤم، وأنه لم يجد مواطنًا واحدًا ممن التقاهم، مسؤولاً كان هذا المواطن أو إنسانًا عاديًا،
في حالة من التفاؤل العادي أو التشاؤم العادي، وأن الجمع بين الصفتين كان هو السمة السائدة والجامعة بينهم جميعًا، وإذا كانت نسبة التشاؤم تفوق نسبة التفاؤل من خلال النظر إلى اللحظة الراهنة فإن نسبة التفاؤل تزيد من خلال النظر إلى المستقبل، انطلاقًا من الشعور بأنه بعد المخاض الطويل والمعاناة القاسية التي وصلت حدها الأقصى في العام الماضي، وما نتج عن ذلك المخاض من الأمل في التغيير وتجاوز الظواهر السلبية المترحلة عن حالة الانقسام في المواقف والآراء وفي الطروحات المتناقضة حول الاستحقاقات العاجلة.
ولا أخفي أن انطباع ذلك الشقيق، وهو انطباع قائم على الملاحظة العميقة قد أعاد إلى نفسي كثيرًا من الطمأنينة وشيئًا من الشعور بالرضا عن أحوالنا التي لم تكن إلى وقت قريب تبشر بالخير أو تشير إلى إمكانية الوصول إلى بَرّ الأمان، فقد كانت الوحوش المنتشرة في بعض شوارع العاصمة وشوارع بعض المدن الأخرى تجعل الرؤية إلى المستقبل قاتمة بل شديدة القتامة، وكثير هم الذين تخلوا عن تفاؤلهم وسارعوا إلى إعلان اليأس من إعادة الحياة الطبيعية إلى العاصمة والمدن التي شهدت التوترات العاصفة وأظن أن هؤلاء الآن في طريقهم إلى التشاؤل إن لم يكن إلى التفاؤل، وصار بإمكانهم أن يخففوا من حدة يأسهم، فالأبواب التي كانت موصدة وجه الأمل بدأت تنفتح ولو ببطء، والمدفوعون للاقتتال المجاني بدأوا يدركون أن الوطن أبقى وأن الاستمرار في تحقيق أهداف الآخرين لن يحقق لهم وللوطن سوى الخسران والندم.
ولعل الأقطار التي مرت بمثل ما مرت به بلادنا وتعافت بعد فترة تطول أو تقصر، لم تخرج من أزماتها الطاحنة إلا بفضل التفاؤل المسؤول، المصحوب بالإرادة الواعية والحاسمة، وأعني بهذا النوع المسؤول من التفاؤل ألا يكون تفاؤلاً اعتباطيًا، أي مع وقف العمل أو أن يقوم على الأحلام بل على ما يتم إنجازه في الواقع مع الإصرار على تنفيذ المقدمات الأولى من المشروع النهضوي الجامع للآراء والموحد لوجهات النظر، ونحن في بلادنا ضحية غياب مثل هذا المشروع الذي ينضوي تحت لوائه بالضرورة كل المُواطنين الصادقين الشرفاء، ومن أسوأ ما رصده المُراقبون المُحايدون عن واقعنا العربي أنه في الوقت الذي كانت فيه الشعوب ذات المشاريع المحددة لمعالم النهوض تحقق أرقامًا قياسية في الصعود فقد كنا على العكس من ذلك نحقق أرقامًا قياسية ولكن في الهبوط، وكان التفاؤل الساذج القائم على غير أساس يتحكم في تقديراتنا وحساباتنا الخاطئة.
وما من شك في أن التفاؤل البنّاء المصحوب بالعمل هو الركيزة الأولى والأساسية في تقدم الشعوب وإعمارها. وكما هو نقيض التشاؤم فهو في الوقت ذاته نقيض التفاؤل الساذج الذي تتحول معه إرادة الناس إلى مواقف سلبية وانتظار بلا معنى للمخلِّص الذي سيأتي من العدم لكي يصنع بلمسة واحدة من يديه النهضة الشاملة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ومن هنا فقد أراحتني الصورة التي نقلها شقيقنا العربي حين أكدت أن نوعًا من التوازن في المشاعر والمواقف والخطاب، قد بدأ في الظهور بين مواطنينا، فلا التفاؤل الساذج الذي يخدعهم يعود بهم إلى الركون على أن كل شيء على ما يرام، ولا التشاؤم المغرق في السوداوية يذهب بهم إلى حالة من اليأس والإحباط.
والتشاؤل خُطوة على الطريق الصحيح بما يمثله من وسطية في الرؤية والموقف.
تأملات شعرية:
نصف إغماضةٍ
في البلاد التي لم تعد
تعرف النوم
تكفي لنحلم أنّا وصلنا
إلى ما تريد الشعوبْ
نصف كوبٍ من الماء
في التيه،
يكفي ليطفي ما حفر الجدبُ
من ظماءٍ حارقٍ في القلوبْ!