الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٥٣ مساءً

ويحَ قلبها..

سعدية مفرح
الخميس ، ٣٠ يونيو ٢٠١٦ الساعة ٠١:١٠ مساءً
باغت الشابان المتطرفان التوأمان أمهما بالموت غدراً بطعنها عدة طعناتٍ تناوبا عليها، تقاسماً للأجر الإلهي بينهما، كما صور لهما شيطانهما الرجيم، بعد أن هدّدتهما بالإبلاغ عنهما لدى السلطات إن أصرّا على إكمال مشروعهما بالالتحاق بتنظيم داعش. كان خوفها على فلذتي كبدها من مغبة التطرّف القاتل أكبر من خوفها على نفسها من مغبة رفض خططهما، أم تُراها لم تكن لتتصور أن هذا الرفض سيؤدي بهما، في النهاية، إلى الاستعانة بسكاكين مطبخها لقتلها، وسفك دمها الساخن بدمٍ بارد؟
‏سقطت السيدة الستينية، هيلة العريني، مذعورة، وبكل ما أوتي كائنٌ بشريٌّ على الدهشة لحظة الموت على يد أقرب الناس إليه، على يد من كان السبب في وجوده بعد الله في هذه الحياة، وسط بركة الدماء التي سالت من جسدها، كما سال الحليب قبل ما يقرب عقدين من الجسد نفسه ليطعم توأميْها.. قاتليْها فيما بعد.
انتهى ذلك المشهد المريع، بجثّة أمٍ ملقاةٍ على أرضية بيتها، وأب وأخ مضرّجين بدمائهما، إثر طعنات التوأميْن اللذين لم يكتفيا بقتل والدتهما، فاستكملا مشروعهما القاتل في جسدي والدهما وشقيقهما، قبل أن ينسحبا من المشهد كله، من دون أن تظهر الكاميرا الخفية، ولا المذيع الذي سيعلن، بابتسامةٍ، للحضور الافتراضيين في المكان، وتالياً مشاهدي التلفزيون، أن ما حدث ليس سوى حلقة تمثيلية مفزعة من برنامج الصدمة.

‏هل كان سيخطر على بال فريق برنامج الصدمة التلفزيوني الذي يعرض طوال أيام الشهر الفضيل على شاشة "إم بي سي" الفضائية مثل هذه الفكرة، ضمن أفكار برنامجه الإنساني الذي يعتمد على صدم المشاهدين بممارساتٍ يمكن أن تحدث أمامهم لقياس ردود الفعل المختلفة تجاه هذه الممارسات؟ هل سنصدّق نحن المشاهدين أن ما يعرضه البرنامج أمامنا يمكن فعلاً أن يحدث بيننا؟ في هذه العاصمة العربية أو تلك؟ أم أننا سنتهم، ساعتها، فريق البرنامج بالافتعال والمبالغة واتّساع الخيال، وربما بتحريض بعضهم على التفكير بمثل هذه الأفكار التي لم تخطر في رأس الشيطان نفسه؟
‏كيف سيتصرف الموجودون في المشهد المفترض الذي تجاوز الخيال التلفزيوني على اتساعه ومبالغاته أحياناً، وسبقه إلى الواقع المرير، لو رأوا هذين الشابين، وكل واحد منهما يحمل سكيناً مهدّداً بها والدتهما، قبل أن ينفذا تهديدهما فعلا؟
سبق أن افتتح البرنامج سلسلة حلقاته، بداية رمضان، بموقفٍ تمثيليٍّ ظهر فيه شاب، وهو يعنّف والده الذي تبدو عليه علامات الخرف، ويعامله معاملةً قاسيةً في مكان عام، الأمر الذي أدّى إلى استياء جميع من حوله في الحقيقة، بالإضافة الى استياء المشاهدين وراء الشاشات الذين امتعضوا من إمكانية حدوث مثل هذا التصرف في الواقع فعلاً، حتى وهم يعرفون أن ما يشاهدونهم مجرد تمثيلية! وعندما هوت كف أحد الموجودين على صدغ الممثل الذي كان مستمراً في تعنيف من يفترض أنه والده، وهو لا يعرف أن الأمر مجرد تمثيل لرصد ردود الفعل، تحوّل هذا الرجل في لحظات إلى نجمٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي حيّاه روادها على ذلك الموقف العنيف في خلطٍ مقصودٍ لذاته، ما بين الواقع والتمثيل، ما يدلّ على بشاعة الموقف القائم على فكرة عقوق الوالدين، انطلاقاً من قيمتهما التي لا تضاهى أبداً في الثقافة الإنسانية عموماً، بغض النظر عما تستند إليه تلك الثقافة من قناعاتٍ دينيةٍ، مهما كان نوعها. لم يكن يتوقع كل من شاهد حلقة الصدمة التي مثلت لنا واحدةً من صور عقوق الوالدين بكل ما امتلك فريق العمل كله من خيالٍ في ابتكار موقفٍ بالكاد يمكن أن يحدث فعلاً أن العقل المتطرف أكثر قدرةً على التجاوز، وأن مشهد الابن وهو يعنّف والده سيبدو عادياً أمام هول ما أقدم عليه خالد وصالح، وهما ينظران لعيني أمهما الفائضة بالفزع والدهشة، أمام التماعة السكين بينهما، قبل أن تنغرس في قلبها.. ويح قلبها.

"العربي الجديد"