الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٢٠ مساءً

جمعة الكرامة.. من سرير الإصابة إلى جبل جرة

أحمد مكرد
السبت ، ١٩ مارس ٢٠١٦ الساعة ١٠:٣٦ صباحاً
ما أبشع ذلك اليوم على المخلوع صالح لكن كان يوماً فاصلاً بالنسبة لشباب الثورة بالرغم من إيغال السفاح في الدم وحصده لعشرات الأرواح الطاهرة لشباب عشق السلام وحلم بتنفس نسيم الحرية والعيش بكرامة.
رائحة الدم في ذلك اليوم لم تفارق أنفي حتى هذه اللحظة طالما وما زلت أرى صالح يوغل في دماء الشعب الطاهرة ويستميت في الإجرام ويقبع في العاصمة دون حساب وعقاب حتى هذه اللحظة.
في ذلك اليوم كانت لي حكايتي وقصتي الخاصة ككل شاب شهد ذلك اليوم الأليم كنت يومها في الصف الأول الثانوي.. ذهابي لساحة التغيير كان ذلك اليوم مختلفاً افترقت عن أبي وإخوتي وذهبت برفقة أعز وأقدم زملائي في الدراسة بعد أن اقنعته أن نؤدي صلاة الجمعة معاً في الساحة كنا قريبين من المنصة وأثناء أداء صلاة الجمعة وبعد اكتمال الصلاة ونحن نهتف بإسقاط النظام كانت المروحية تحلق في سماء الساحة، وكنت حينها أشعر أن صالح على متنها قدم ليرى بعينه حجم المتظاهرين وزخم الثورة فلم يتمالك نفسه حينها وأصدر أوامره المباشرة بتنفيذ المجزرة، وقد أكدت مصادر في الرئاسة حينها توقعاتي بتواجده في المروحية، بدأت أعمدة الدخان الناتجة عن إحراق البلاطجة للإطارات بالتصاعد من المدخل الجنوبي للساحة حالة غليان وارتباك افترقت عن زميلي ذهبت لأتفقد ما يجري وفي لحظات اقترابي من الحاجز الذي بنته عصابات المخلوع بدأت طلقات القناصة تحصد أرواح خيرة الشباب، التقيت حينها بالصدفة بوالدي وأخي الأكبر مني سناً ياسر وبعدها بأكبر إخوتي مشينا معاً إلى أمام الحاجز إلا أننا سرعان ما افترقنا نتيجة لتطاير رصاص المجرمين وتساقط الشهداء والجرحى وحالة الارتباك في الساحة بدأت عملية هدم السور، المكون من جدارين من البلك يتوسطهما حاجز حديدي، بنته أيدي الإجرام والبلطجة لمنع توسع الشباب ونصب خيام جديدة ولإلحاق بأكبر خسائر وقتلى وجرحى في أوساط الثائرين.
الجميع منهمك في الدفاع عن بعضهم البعض في الدفاع عن ساحة كانت الشرارة الأولى لمطالب العيش الكريم منذ 33 سنة ضمت مختلف الأطياف هناك من يقف على السور عاري الصدر ليؤكد أن الصدور العارية قادرة على تركيع الرصاصات الظالمة وهناك من يرمي بالحجارة وآخر يسعف جريحاً ورابع يحاول إنقاذ شهيد تحتضر روحه ويلفظ أنفاسه الأخيرة صادحاً بالكرامة وبإسقاط الظلم والفساد خامسهم يُكسر الرصيف وينقل الحجارة لردع القناصة والبلاطجة الجميع يدافع الجميع يترقب موقناً بأن رصاصات القناص المجرم ستتصيده في أي لحظة، الصدور العارية وقفت حاجزاً أمام الرصاص الجائرة.
بدأ الشباب بالتسلق والقفز إلى الجانب الآخر من السور بعد هروب عشرات البلاطجة الملثمين خوفاً من الأحجار التي كان يرميها الشباب "فحجرة واجهت رصاصة"، المشهد لم يختلف تماماً عن مشهد شباب فلسطين في مواجهة جنود الاحتلال الصهيوني، فطالما غلبت حجرة النضال رصاصة الظلم والطغيان.
بدأت عملية اقتحام منزل أكبر منفذي المجزرة المقرب من المخلوع صالح محافظ المحويت حينها الملقب بالأحول، حيث تمركز القناصة على منزله، وسقط عدد من الشباب قتلى وجرحى في عملية اقتحام المنزل ففي آخر لحظات هروب بعض القناصة كانوا يطلقون الرصاص بكثافة على الباب الرئيسي لمنع الشباب من تسلقه وتسهيل عملية هروبهم من أحد المخارج، هرب بعضُ المجرمين وتم القبض على آخرين، أُحرق المنزل تقدم الشباب بعد الحاجز بدأ جنود الأمن المركزي، الذي استند عليهم صالح في إجرامه وارتكبوا معظم الجرائم بحق الشباب الثائر، بدأوا حينها بالاصطفاف في محاولة لمنع الشباب من التقدم وتجمع خلفهم في الأزقة عشرات البلاطجة الذين يحملون الأسلحة والقناصات بدأت عملية الأخذ والرد في الكلام بين قائدهم وشباب الثورة أخي الأكبر سنا أخبره بشدة 10 دقائق ينسحب الجميع أو أن الشباب لن يسكتوا انقضت الدقائق بدأت موجة جديدة من الرصاص في حصد أرواح أخرى وإسقاط الإصابات وبدأت مضخات المياه بمساندة القناصة ومحاولة صد الشباب عن التقدم في غضون دقائق تراجع المسلحون والقناصة والجنود على وقع الحجارة في كل مرة يحاولون التجمع وتكرار اصطياد أرواح الشباب... قدمت سيارة إسعاف تابعة لمستشفى الشرطة في محاولة لبدء مسلسل إجرامي جديد ومن نوع آخر تحت دعوى إسعاف الجرحى، بعد أن قاموا في الأيام الماضية بإسعاف الشباب لمستشفيات الداخلية والدفاع وتم اعتقالهم واخفائهم وإخضاعهم للتحقيقات بالرغم من إصابتهم، تنبه الشباب لذلك وطلبوا من المسعفين إحضار النقالة أخذوها للمساعدة في نقل الجرحى للمستشفى الميداني وبدأت الحجارة بالتساقط على السيارة التي ولت هاربة.
اقترب الموعد من صلاة المغرب وصل الشباب لجولة كنتاكي الوضع متوتر سيارات الإسعاف تذهب وتغدو لنقل مئات الشهداء والجرحى من المستشفى الميداني إلى المستشفيات المحيطة بالساحة أبرزها مستشفى العلوم والتكنولوجيا.. حينها قررت العودة والتوجه من جولة كنتاكي نحو المنصة لم أجد والدي ولا إخوتي قلقت فلا علم لي بمصيرهم وحالي كحال المئات من المتظاهرين، بالصدفة وأنا في طريق العودة التقيت بوالدي أبلغني بإصابة شقيقي ياسر ولا نعرف بعد أين أخي الآخر، انهار جسمي وعقلي لكن تمالكت نفسي قليلاً توجهنا سريعاً نحو مستشفى العلوم على متن إحدى الدراجات، حينها كان المئات من الشباب والمواطنين يتقاطرون على الساحة ويحملون الخيام الجديدة لنصبها وإعلان انضمامهم لثورة الشعب والتنديد بالمجزرة بعد ما رأوا من بشاعة المنظر وحقيقة المجرم صالح على شاشة الجزيرة التي نقلت الحدث مباشرة وكشفت بشاعة الجريمة بالصوت والصورة.
وصلنا إلى البوابة الرئيسية لمستشفى العلوم والتكنولوجيا العشرات أمام البوابة بين منهار وقلق وخائف لا يعرف مصير أقاربه وآخر يبكي لديه شهيد، يُمنع الدخول إلى المستشفى بسبب الوضع المتوتر ورفع درجة الطوارئ إلى آخر مستوياتها، الأطباء مُنهكون عمليات الجراحة تُجرى في مختلف أرجاء المستشفى، كما أخبرني بذلك أخي لاحقاً، لاكتظاظ غُرف العمليات بالحالات الحرجة، نداءات متكررة بالتبرع بالدم وتزويد المستشفيات بالأدوية الضرورية للجرحى والمصابين، الأطباء بدأوا بإجراء العمليات الجراحية للحالات الأكثر حرجاً وتم نقل الإصابات المتوسطة والبسيطة إلى الرقود بعد إجراء الإسعافات الأولية، غادرنا المشفى بعد رفض طلبنا بالدخول من قبل حراسة البوابة الرئيسية.
عدنا أنا ووالدي مشياً على الأقدام لمسافة طويلة والخوف ينتابنا على مصير أخي المصاب ومصير أخي الأكبر سناً الذي لم نجد له أثراً بعد وهاتفه مغلق ولم يصل إلى المنزل، وصلنا إلى موقف السيارة توجهنا إلى المنزل الدموع تتقاطر، من في المنزل بين باكٍ وقلق، قدموا طعام الغداء الذي لم نتناوله حتى الساعة 7 مساءً لم نستطع أن نبتلع لقمة لبشاعة ما شاهدناه في ذلك اليوم، عن نفسي كنت أتوقع أن أخي الأكبر سناً إما مصاب أو شهيد لما رأيت من حماسته وتقدمه للصفوف الأولى لكن بحمد الله بعد دقائق طرق الباب وصل على متن تاكسي حافي القدمين ثوبه الأبيض ملطخ بالدماء إنهار الجميع لكن بحمد الله كان سليماً لم يُصب بأي أذى وإنما كانت دماء من أسعفهم، أُسعف هو 3 مرات للمستشفى الميداني نتيجة إصابته بالغازات السامة لكن سرعان ما كان يعود لمواجهة البلاطجة والمجرمين وللمطالبة بحقوقه المسلوبة كأي مواطن يعيش في هذه البلاد.
انتقلت أنا ووالدي بعدها نحو المستشفى أجرينا العديد من الاتصالات مع بعض أفراد الأسرة وبعض الأشخاص المعروفين الذين أوصلونا لأطباء في المستشفى وصلنا إلى المستشفى سُمح للوالد فقط بالدخول عبر أحد الأطباء اطمأن على صحة أخي والذي انتقل للرقود بسبب وجود حالات حرجة وأشد خطورة وصعوبة إخراج الرصاصة التي سكنت في أسفل الجزء الأيمن من الصدر إلا أنه لم يكن لها مضاعفات خطيرة وأثرت فقط قليلاً على الرئة، فطلب مني والدي عبر اتصال بالعودة الى المنزل برفقة ابن عمي الذي قدم إلى المستشفى فور سماعه خبر إصابة شقيقي.
حينها لم أرغب في العودة للمنزل، عدت للساحة وانتقلت لمكان الجريمة لتفقد المكان، رائحة الدماء الزكية تفوح ولونها غطى الأسفلت دخان الحريق ما زال يتصاعد في المكان حالة حزن شديدة طغت على الساحة، غادرت بعدها إلى المنزل وقلبي يعتصر ألماً.
استطعت في اليوم التالي زيارة أخي في المستشفى حالته كانت مستقرة إلا إن آلام المريض والجُرح لا يمكن أن يشعر بها غير حاملها حيث كان يصرخ من الألم بين حين وآخر ولا ينام إلا عن طريق مسكنات الألم التي يقدمها الممرضون، بجوارنا كان هناك جريحان أحدهما شاب من أبناء تعز شبه فاقد للوعي نتيجة طلقة اخترقت مقدمة رأسه لتخرج من مؤخرة الرأس، كانت حالته صعبة جداً وكثيراً ما تألمت لألمه، صُراخه يملأ الغرفة من شدة الألم، أجرى بعدها العديد من العمليات الجراحية وخرج بسلامة الله، أما الآخر فكان وضعه أسوأ، أحد شباب مأرب أصابت رصاصة القناص عموده الفقري وقيدت حركته وأصبحت حالته يُرثى لها وأُجريت له العديد من العمليات وكان يتحدث عن ترتيبات لنقله للخارج لصعوبة حالته.
تم إخلاء جميع أقسام مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا من النزلاء والمرضى لكثرة عدد الجرحى، كان يمتلئ قسم "النساء والولادة" الذي كنا فيه بعشرات الجرحى كثيراً ما تألمت لحالهم وآلامهم خلال زيارتي لهم، أُجريت لشقيقي بعد أيام عملية جراحية لإخراج رصاصة القناص وغادر المستشفى بالسلامة بعدها بأيام، لكن العشرات ما زال يتألم حتى هذه اللحظة بسبب ما ارتكبه صالح بحقه من جريمة وأسرة أخرى ما زالت تبكي حتى اللحظة عن زوجها أو أخيها أو ابنها أو والدها الذي سلب صالح روحه لحماية كرسيه، وما يزال حتى هذه اللحظة وبعد مرور 5 سنوات من مجزرة الكرامة يسفك المزيد من الدماء ويحصد المزيد من الأرواح ولم يحاسب بعد على جريمته الأولى.
تزعزع نظام صالح بعد هذه المجزرة البشعة، لكنه عاد مرة أخرى بعد أعوام وبرفقته الحوثي للإنقلاب على ما تقدم به الشباب والأحزاب من بادرة حسن نية لتجنيب البلاد ويلات الفتنة والحرب وأعطوه الحصانة إلا أنه عاد لارتكاب مجازر أشد بشاعة في صنعاء وتعز وعدن والحديدة والبيضاء وإب ومختلف المدن والعزل والقرى، وفي المقابل انتقل شباب الثورة من ساحات السلمية والصدور العارية إلى ساحات النضال والثورة المسلحة ومنهم أخي ياسر الذي انتقل من سرير الإصابة في مستشفى العلوم والتكنولوجيا إلى متارس أحياء وجبال تعز دفاعاً عن الحالمة، فأحياء الجمهوري وثعبات والحصب وجبل جرة شاهدة على بطولاته وتصديه للميليشيات.
تنقل شقيقي ياسر خلال الأعوام 2011 – 2016 م "طالب ثانوية – أحد شباب الثورة وجرحى جمعة الكرامة – طالب في كلية الحقوق – ترك الكلية لينتقل كأحد جنود المقاومة الشعبية بتعز في شهر أبريل 2015 – قائد لمجموعة في صفوف المقاومة الشعبية بتعز".
هناك المئات من أمثاله من انتقل من قاعات الجامعة ومن ساحات الثورة إلى متارس الدفاع عن الوطن وتلبيةً لنداء الواجب، كُلاً في مجاله فمنهم من استجاب للنداء بسلاحه ومنهم بماله وآخر ناقلاً للحقيقة بعدسته ورابعهم بتأييده وقلمه وآخر على الصحف والقنوات والمواقع ومنهم من لم يمتلك إلا لسانه فلم يبخل بالدعاء.
ما يحدث اليوم ليس إلا امتداداً للدفاع عن الكرامة وثورتها، التي تعطرت في جمعتها برائحة الدماء الزكية لخيرة الشباب.

ملاحظة / اختصرت الحادثة كثيراً وكتبتها خلال تنقلي على متن الباص أما بشاعة جريمة جمعة الكرامة ورواية جميع تفاصيلها تحتاج لكتب ومجلدات