الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٠٨ مساءً

الجهة المظلمة من حزب الإصلاح

مروان الغفوري
السبت ، ١٦ يناير ٢٠١٦ الساعة ١٢:٣٢ مساءً
ظهر حزب الإصلاح إلى العلانية في الـ ١٣ من سبتمبر، ١٩٩٠، بعد ثلاثة أشهر من الوحدة اليمنية. كان، كحزب، واحدة من الظواهر التي أنتجتها تلك الوحدة. سرعان ما انخرط في العمل السياسي وصار جزءاً من برلمانات وحكومات ما بعد الوحدة. صار، بطريقة ما، دُعاة الثمانينات برلمانيين في التسعينات. كذلك شوهد الشيوخ وقد صاروا موظفين رفيعين، ودبلوماسيين. خرج من القبو إلى العلن وبقي قطاع كبير من الحزب، حتى الساعة، يتحرك بعقل زمن ما تحت الأرض. جزء من الصورة المضيئة، في مراحلها المبكرة، عاد مرة أخرى إلى دائرة الظلام.

التحولات التي طرأت على بنية الحزب وخطابه كانت كبيرة، لكنها لم تصبح عميقة، ولم تفلح في نقل الجماعة، صورة كاملة، إلى حزب بالتعبير المدني.

مع الأيام صار الحزب، في الجزء البارز من خطابه، يتحدث عن تزوير الانتخابات أكثر من حديثه عن الغزو الأخلاقي. تسللت مفردات: الجيش، الشراكة الوطنية، الدخل القومي، البنية التحتية إلى خطابه، وتراجعت مفردات أخرى "مجاهدون، الولاء والبراء، الرصيد الأخلاقي، الخلافة". أصبح، منفرداً وضمن الحركة الوطنية، داعية جهورياً إلى مشروع الدولة، وإن على طريقته. لكن حرب ٩٤ كانت اختباراً حاداً للحزب فشل في اجتيازه. فقد انخرط إلى جوار صالح في حربٍ ضد الشركاء السياسيين القادمين من الجنوب. أرسل شيوخه ودعاته إلى الجبهات، بالقرب من عدن، يخطبون في حاملي السلاح عن الجنة والحور العين. انزلق الحزب، حديث الولادة، إلى الجماعة من جديد واستعاد ماضيه دفعة واحدة. القيادة الدينية للحزب، وهي لا تزال تحكمه، هي التي جرته إلى تلك الحرب بوصفها جهاداً. فالزنداني، على سبيل المثال، لا يرى في خراب المُدن سوى الجنة الطالعة من الأنقاض.

كانت هنالك طريق ثالثة لم يبحث عنها الإصلاح، معتقداً أنه سيكون بمستطاعه ملء الفراغ الذي سيتركه الحزب الاشتراكي في مرحلة ما بعد الحرب. في الحرب تلك تراجع الإصلاحيون من لابسي الكرافتات وتصدر إصلاحيون آخرون، قادمون من خمسينات القرن الماضي. وما تلا الحرب فقد ملأه صالح. كما تفشى الوجه المظلم من الحزب داخل بنيته الداخلية محققاً هيمنة واسعة. في ربيع ١٩٩٧ حضرت دورة تدريبية في صنعاء، كنت للتو خارجاً من الثانوية العامة، وسمعتُ رجال الصفوف الأولى يتحدثون عن صالح كثابت وطني مثل اللغة والعلم. بعد سنين طويلة، عندما صار بمقدوري أن أقول شيئاً، ذكرتهم بتلك الأيام وكانوا قد نسوها.

على الدوام كان هناك جانبان للحزب، المضيء والآخر المظلم. يتناوبان على المسرح بحسب الظروف، ويخضعان لسلطة مركزية واحدة منذ حوالي ثلث قرن، وتلك تلعب بالضوء والظلام وتحتفظ بهما معاً. لا يزال الحزب يُدار من قبل شبكة اجتماعية تنتمي إلى القرى المجاورة لقرية صالح. وبشكل دوري يجري الحزب لوناً من "الديموقراطية الموجهة" على الطريقة البوتينية وفق شروط لا تسمح للسلطة بأن تفلت من قبضة تلك الشبكة، ولا تنجز وضعاً يمكنه أن يخل بلعبة "الضوء والظلام" تلك.

جزء من المجتمع اليمني المحافظ وجد ضالته في الحزب المحافظ. فهو الطريق الآمن إلى خوض السياسة، كما قدم نفسه، بوصفه "ديناً ودولة". كانت السياسة، بمعناها الديموقراطي، مناخاً جديداً بالنسبة لليمني الاعتيادي، وعندما تحسسها واقترب منها كان لا يزال خائفاً منها، وكان طريق الإصلاح أكثر أماناً بالنسبة لأولئك الذين لم يخوضوا سياسة في المجال العام قبلاً.

تلقف الحزب القرويين من الأسواق ومدرجات الجامعات، واخترق الطبقة الوسطى متجاوزاً عقدة الجغرافيا والمذهب برشاقة لافتة. لقد استفاد، بالطبع، من الطريقة التي تحرك من خلالها اليسار الماركسي والقومي في اليمن. عمل، فيما بعد، على تقديم الطبقة الوسطى وموظفيه البيروقرطيين، فضلاً عن طلبة الجامعة، كما لو أنهم يمثلون الوجه الحقيقي له. بتلك الوجوه القادمة من المؤسسات العلمية والاقتصادية أوهم الإصلاح مراقبيه بأنه قد أنجز عبوره من الجماعة إلى الحزب. خلف ذلك اللحاء الخفيف واللامع كان الوجه المظلم لحزب الإصلاح يخبئ نفسه، لكنه يتجلى عندما يعتقد أن معركته قد حانت.

وأبعد من ذلك، منذ ما يقرب من ثلث قرن ولا يزال ياسين عبد العزيز القباطي قائداً، وهو الشخص الأكثر قوة داخل الحزب/الجماعة. إنه يحرك كل الأوراق، ويتلاعب بالكشّاف، ويحدد مساحة الضوء والظلام ولا يقترب منه أحد. حتى الديموقراطية الموجهة، الديموقراطية البوتينية، فهي تجري في مكان آخر: أمام الكاميرات، ولا تقترب من كرسي المراقب العام، أو المرشد الأعلى. القُباطي ذاك رجلٌ يلبس عمامة وثوباً قصيراً ولديه لحية كلاسيكية، وهو من أكثر الرجال داخل الحزب ممارسة للعبادات والطقوس الدينية. إنه، بالمعنى الدقيق، حاخام الحزب والرجل الوحيد الذي تعتبر طريقته في "فهم ماذا يريد الله من الحزب" نهائية.

ومما يثير الانتباه أكثر من أي شيء هو أن الهيراركية الداخلية لحزب الإصلاح/ للجماعة تشبه إلى حد بعيد بنية الجسم الثوري الإسلامي الإيراني. أما الديموقراطية التي تجري على السطح فهي بوتينية الطابع.

خسر الإصلاح انتخابات ١٩٩٧، وضل طريقه بعد ذلك، حتى وجد نفسه يصدر بياناً في العام ١٩٩٩ يعلن من خلاله اختيار "صالح" مرشحاً رئاسياً له. أغلق صالح الحياة العامة تدريجياً منذ هزيمة الحزب الاشتراكي، عسكرياً، في العام ١٩٩٤. مع نهاية التسعينات صار صالح هو اللاعب الوحيد وتراجعت الطبقة الوسطى داخل حزب الإصلاح مفسحة مداراً يطل منه الجانب المظلم.

خاض شيوخ الحزب حروباً دينية في كل الجهات، مستغلين شلل الحياة العامة الذي أحدثه صالح. خاضوا حرباً تكفيرية ضد صحيفة الثقافية، مطلع الألفية الجديدة، على إثر نشرها لنص روائي، ساحبين معهم النخب الثقافية إلى صراع عدمي كان نظام صالح أكثر سعادة به. منذ ذلك الحين تكررت المرات التي أطل من خلالها الوجه المظلم لحزب الإصلاح، مسبباً خسارات فادحة لذاته.

بينما كان صالح ينصب الفخاخ للجمهورية محولاً الدولة إلى "سلطانية"، بتعبير الاقتصادي اليمني الانجليزي محمود العزاني، كان الوجه المظلم للحزب يخرج إلى الشوارع معلناً الحرب على صحف محلية بزعم أنها تساند صحفاً دنمركية. جُمعت التبرعات في الميادين العامة، وبرز نجوم الوجه المظلم كورثة للفضيلة القاتلة، وأشعرتهم تلك المعاركة بأهميتهم بعد أن كاد طريق السياسة يحيلهم إلى ماضي. تواترت معارك شيوخ الحزب مع المثقفين والمبدعين والنخب، حتى وصلت إلى صراعهم ضد كل ما يتحرك في السياسة. بينما كان المتأنقون داخل الحزب يخوضون نقاشاً مع الحركة الوطنية، بكل تنويعاتها، حول طبيعة النظام الإداري والسياسي لدولة ما بعد ١١ فبراير، كان شيوخ الإصلاح يتحركون في عواصم المحافظات ويلقون خطاباتهم الحماسية ضد الاتفاقات السياسية التي أساءت إلى العقيدة. كان ذلك مخيفاً، ومخزياً بالمعنى السياسي. لكن المراقب العام للجماعة، وكذلك القيادة العليا للحزب، لم يتدخلوا. مارسوا حياداً موضوعياً، وقدموا أنفسهم كقوة ثالثة غير معنية بمعارك شيوخها مع المشاريع الوطنية. مع الأيام أصبحت خسارات الحزب جسيمة، تلك التي تسببت فيها الجهة المظلمة.

لم يعبأ الحزب بخساراته تلك، لكنها تراكمت عليه مع الأيام وجعلت أيامه أكثر صعوبة. لاحظت قيادة الحزب، وهي دينية في الأساس، نجومها الدينيين يخوضون حرباً مع كاتبة مقال، وناشطة حقوقية ملوحين بمشانق الشريعة. كما خرجت من جامعة الإيمان، الإصلاحية، معارك ضد قانون زواج الصغيرات. التزمت قيادة الحزب "الحياد الموضوعي" في تلك المعارك، كما لو كانت تدفع الجانب المظلم من الحزب ليلقي طاقته السوداء خارج الحزب لا داخله. وبصورة عامة فقد بقيت الأجيال الجديدة من الحزب، جيل ستار بوكس وتيديكس وذا فويس، حائرة وخجولة، لا تعرف ما إذا كانت هي الحزب أم الآخرون، ومن ضل الطريق إلى الحزب: هم، أم أولئك الآخرون. يشارك الجيل الجديد من الإصلاح، عملياً ونظرياً، في كل الأحداث الوطنية الكبيرة من الثورة إلى المقاومة إلى الثقافة والسياسة، ويخوض على مدار الساعة جدلاً مثمراً على كل الصعد، لكن مساحة الضوء تلك هي اليد الضعيفة. فهناك جهة مظلمة تملك المفاتيح والسجلات، وبالضرورة تملك القرار. يشعر الجيل الجديد من حزب الإصلاح بأن شيوخ الحزب يقوضون منجزهم وربما يلحقون بهم العار. أما الشيوخ فيجدون أنفسهم غرباء وسط جيل شق طريقاً جديداً. تكبُر الفجوة كل صباح، لكن المقاليد كلها تحت عمائم الماضي، وهو ما يجعل الأمور أكثر صعوبة.

في الأشهر الأخيرة من العام الماضي راحت مجموعة كبيرة من حزب الإصلاح تعد قائمة طويلة لهيئة ستسميها "علماء اليمن" أو اسماً شبيهاً. تقول اللغة المؤسسة لتلك الهيئة إن الهاشميين، من شيوخ الحزب، لهم حقان على الناس: حق القرابة وحق الصلاح. هذه المفاجأة القروسطية الجديدة أربكت أمين عام الحزب مما دفعه إلى طلب إشارة قانونية من مستشاريه فأوصوا برفض المشروع. في العادة لا يحصل أمين عام الحزب على الإشارات الجيدة، وقليلاً ما يختار الشخص الصحيح. الرجل الذي يتحدث دائماً عن "معية الله" لا يجد من حاجة للاستماع إلى البشر. غير أن السياسة، والحياة إجمالاً، مسألة أخرى كلياً.

في كل مرة يطل فيها الوجه المظلم لحزب الإصلاح يكون ثمة فزع، ويصاب الناس بفقدان الأمل والإحباط، وبالكراهية. الحزب الذي خاض السياسة والثورة والمقاومة سرعان ما تقوض سمعته إطلالة واحدة للجهة المظلمة منه. ولا يدري أحد لماذا يصر ذلك الحزب على القول إن تلك الجهة المظلمة هي بالفعل جزء منه، وأنه لا غنى له عنها. كما ليس بمقدور أحد التنبؤ بمستقبل حزب ينوء بكل تلك التناقضات، بمدى قدرة الضوء والظلام داخل الحزب على الاستمرار معاً تحت عمامة واحدة.

ويحلو لي دائماً أن أرسم تناقضات الحزب المستعصية على هذه الشاكلة: من جمال أنعم، الذي يتقمص شارل بودلير، إلى عبد الرحمن الخميسي، الذي يفزع كل شيء حتى الديكة في البادية.