يكتنز أرشيف الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) المفرج عنه بوثائق قليلة وأخطاء كثيرة عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أو ما كان يعرف في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بـ«اليمن الجنوبي». وأي باحث مختص بالشأن اليمني يتصفح في ما هو متوفر من وثائق سيدرك للوهلة الأولى أن جنوب اليمن كان منطقة شبه مغلقة على الاستخبارات الأميركية، إلى درجة أن الوكالة المعنية بالتجسس على العالم أجمع وقفت حائرة وعاجزة عن فهم ما جرى في الصباح الدامي في عدن أو ما يعرفه اليمنيون باسم «مذبحة 13 يناير» 1986، التي راح ضحيتها أربعة من كبار قادة اليمن الجنوبي ومئات الكوادر المؤهلة وآلاف المدنيين والعسكريين، ولا تزال آثارها الدامية محفورة في نفوس من تبقى من المتصارعين حتى يومنا هذا.
إن كانت الاستخبارات الأميركية قد عجزت في حينه عن فهم ما جرى على وجه التحديد يوم المذبحة، فقد سردت الوكالة في تقارير معدودة كافة المقدمات التي أدت إلى تلك المذبحة، منذ أول تصفية جسدية جرت بين الرفاق في اليمن الجنوبي لزميلهم فيصل عبد اللطيف الشعبي الرجل الثاني في الدولة والسند الأول لأول رئيس للدولة ومؤسسها قحطان الشعبي الذي أودع السجن هو الآخر، على غرار ما حدث لمحمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر.
رواية «سي آي إيه» لأحداث الجنوب
في الرابع من فبراير (شباط) من عام 1980، تم توجيه مذكرة مؤلفة من ثلاث صفحات من جهة ما إلى أخرى داخل وكالة الاستخبارات المركزية تحت عنوان: «جذور المعارضة للرئيس عبد الفتاح إسماعيل». وتم تكريس السطور العشرة الأولى للموضوع الوارد في العنوان، فيما خصص كاتب المذكرات ما تبقى لسرد تاريخي مختصر لأحداث 12 سنة سابقة.
وجاء في السطور الأولى من المذكرة أن «الحكومة الماركسية في جنوب اليمن، رغم عدم شعبيتها في الداخل، فإنها قد أحكمت قبضتها على الأوضاع في ذلك البلد عن طريق أجهزة أمنية فعالة وقاسية لحفظ النظام الداخلي في البلاد».
وأشارت المذكرة إلى أن معظم العناصر المعارضة للنظام القائمة، إما أنها قد فرت بجلدها إلى المنفى، وإما أعدمت أو سجنت، ومع ذلك طبقًا للمذكرة يوجد قنوات اتصال بين عناصر في الدائرة الداخلية للنظام ورفاقهم المنفيين إلى الشمال ومصر والسعودية، وغيرها.
وتمضي المذكرة في شرح جذور الصراع بين الرفاق بأنه بدأ بالتنافس بين جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، ذات التوجه القومي العربي ومدعومة من مصر، وجبهة أخرى أكثر راديكالية هي الجبهة القومية، وانتهى الصراع لصالح الجبهة القومية بتفضيل من بريطانيا فيما لاذ قادة جبهة التحرير بشمال اليمن
أول انقلاب
وفي يونيو (حزيران) عام 1969، نفذ الجناح الأكثر راديكالية في الجبهة القومية أول انقلاب أطيح فيه بالقيادة المعتدلة. وفي عام 1970، اتخذت إجراءات لتقسيمات إدارية تهدف إلى محو الهوية القبلية وتمنع السكان في المحافظات الست المكونة للدولة من استعمال ألقابهم القبلية.
واختصرت المذكرة سنوات السبعينات من القرن الماضي بالقول إنها شهدت تنازعا على السلطة بين اثنين من أبرز قيادات البلاد هما رئيس الدولة سالم ربيع علي، وقائد الحزب عبد الفتاح إسماعيل، إلى أن استولى إسماعيل على السلطة في ثاني انقلاب في يونيو عام 1978 وجرت خلاله تصفية الرئيس سالم ربيع علي، فاضطر الكثير من أتباعه إلى الفرار إلى شمال اليمن.
وجاء في الوثيقة أن التوتر ظل سائدا داخل الدائرة الضيقة للنظام في عدن، وكان لهذا التوتر بعد جغرافي حيث إن الرئيس عبد الفتاح إسماعيل تعود جذوره إلى منطقة الحجرية في شمال اليمن، ولم يكن جنوبي الأصل. وأضافت الوثيقة أن القادة ذوي الأصول الجنوبية كانوا يبدون امتعاضا من تعاظم نفوذ الشماليين في الجنوب. وكان من بين المتذمرين رئيس الوزراء علي ناصر محمد الحسني، ووزير الدفاع علي عنتر البيشي.
وكان من أهم أسباب الخلاف أن إسماعيل متحمس كثيرا لإقامة وحدة مع شمال اليمن في حين أن قادة الجنوب ذوي الأصول الجنوبية يبدون ترددا في ذلك خشية أن يبتلع الشماليون الجنوب.
وتشير الوثيقة إلى أن الصراع على السلطة بين إسماعيل ومناوئيه من داخل الحلقة الضيقة للحكم أسفر عن تغيير حكومي لم يكن في صالح إسماعيل، وفي وقت لاحق من العام ذاته قرر الجنوبيون الإطاحة برئيسهم الشمالي وتم نفيه إلى الاتحاد السوفياتي حيث أمضى هناك نحو خمس سنوات. بعد نفي إسماعيل خلفه في السلطة علي ناصر محمد الحسني.
الغطرسة العسكرية
في تقرير آخر تتحدث الاستخبارات المركزية عن عهد الرئيس علي ناصر محمد وما تخلله من صراعات كانت مقدمة للمذبحة الكبرى عام 1986، وجاء في الوثيقة أن الحسني (علي ناصر محمد) دخل في صراع مع منافسيه تمثل في نقلهم إلى مواقع قد تبدو كبيرة لكنها في الحقيقة عديمة المعنى. فمثلا نقل علي عنتر من موقعه كوزير للدفاع ليصبح وزيرا للحكم المحلي، وبعد ذلك عينه نائبا له، وهو منصب سياسي هام. ونعتقد أن المناصب الرسمية الرفيعة تعطي الفرصة لعنتر للقاء الوفود الأجنبية وترأس بعض اللقاءات الهامة على مستوى الدولة عندما يكون الحسني غائبا، لكن من دون إعطائه صوتا في قرارات مجلس الوزراء.
ويمضي التقرير في إيراد تفاصيل أكثر بأن الحسني (علي ناصر محمد) قام بنقل المسؤولين الأقل خطورة والمتعاطفين مع المسؤولين المنقولين، ووضعهم مكان قيادتهم السابقة ليخفف من ردود الفعل الغاضبة. فعلى سبيل المثال، قام الحسني بتعيين سالم البيض، أحد الداعمين غير الأكفاء لعنتر، وزيرا للحكم المحلي خلفا لعنتر. وكان من المكن لتصرف كهذا أن يتسبب في مشكلات، فبعد إزاحة عنتر من موقعه، قام الحسني بتعيين صالح مصلح قاسم وزيرا للدفاع، ليتحد بعدها عنتر وقاسم في مواجهة الحسني.
وقام الحسني بتعيين علي عبد الله عليوة، المقرب منه، رئيسا لأركان جيش اليمن الجنوبي ونائبا أول لوزير الدفاع.
وتعتقد الاستخبارات الأميركية أن الحسني ربما يعد لاستخدام الفساد سلاحا في مواجهة خصومه. وقد يقوم بحملة تطهير انتقائية بحيث يبقي على من يحتاج دعمهم. وجاء في التقرير أيضا: «نعتقد أن انعدام القانون بجيش اليمني الجنوبي كان مبعث استياء الشعب والعديد من أعضاء الحزب ومن الممكن أن يستغله الحسني ضد خصومه. فكثيرا ما كان القادة العسكريون يضطهدون المدنيين، وتسببت الغطرسة التي يبديها العسكريون في تعزيز وتقوية الحسني في مواجهة عنتر وقاسم وأنصارهما من العسكريين».
النفوذ السوفياتي
يورد التقرير أن موسكو غير راغبة في الوقوع في فخ الصراعات السياسية اليمنية، ويعتقد محللو «سي آي إيه» أن موسكو لا تريد أن تخاطر بوضعها في البلاد بالانحياز لفصيل معين. فالتدخل المباشر في الصراعات السياسية في عدن أمر غير ضروري، لأن موسكو بمقدورها التأثير على سياسة اليمن الجنوبي من خلال اتصالاتها المكثفة مع الحكومة، ولا يعنيها اسم الحزب الحاكم. ويعتبر النفوذ السوفياتي في الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم وفي الحكومة كبيرا، فالمدارس الحزبية مليئة بالسوفيات والأوروبيين الشرقيين، والطلاب الجنوبيين الذين يدرسون في جميع المدارس الفنية والاقتصادية يتلقون تدريبهم في روسيا وفي دول أوروبا الشرقية، أو في عدن على يد مدرسين من تلك الدول. بالإضافة إلى ذلك، يقوم نحو 450 مستشارا سوفياتيا بالمساعدة في التخطيط الاقتصادي ويعملون في مجالات الإنشاءات والثروة السمكية.
وتضيف الوثيقة أن الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية لا يزالان الموردين الرئيسيين للأسلحة والمستشارين العسكريين لليمن الجنوبي. فقد أرسلت موسكو نحو 500 مستشار عسكري، كما أرسلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أسلحة بقيمة 500 مليون دولار، بحسب تقديرنا لقيمة الأسلحة. كذلك باليمن نحو 400 كوبي يقومون بتدريب ميليشيات اليمن الجنوبي.
ويضيف التقرير أن المستشارين السوفياتيين، بمقدورهم دخول المنشآت العسكرية التابعة لليمن الجنوبي في أي لحظة، كما أن الأسطول السوفياتي يستخدم ميناء عدن وغيره من مرافق اليمن الجنوبي لتزويد السفن والغواصات النووية بالوقود، وتستخدم الزوارق السوفياتية المراسي القريبة من جزيرة سوقطرة لخدمة أسطولها بالمحيط الهندي وغيره من السفن.
ويتوق التقرير إلى أنه يمكن للتمويل السوفياتي لملحق مدرج الطائرات الرئيسي بمطار عدن أن يساعد على السماح بهبوط طائرات الاستطلاع بعيدة المدى مثل طائرات «تي يو 95» والتمركز هناك، غير أنه شكك في أن المدرج سيكون قادرا على استقبال طائرات طراز «تي يو 95 إس»، لأن مطار عدن الدولي يعد المطار المدني الرئيسي للبلاد، وسيكون بمقدور المسافرين والمدنيين هناك رؤية الطائرات السوفياتية متمركزة هناك، حسب ما جاء في التقرير. ولفت التقرير إلى أن عمليات التحديث والتطوير التي يقوم بها الفرنسيون بصالة الوصول بمطار عدن الدولي، وشراء السلطات الجنوبية لطائرات ركاب من الولايات المتحدة تشير إلى أن اليمن الجنوبي يقوم بتكبير حجم مدرج الطائرات ومرافق المطار لتحسين قدرته على التعامل مع طائرات الركاب، بيد أننا لم نر طراز «تي يو 95» في عدن.
وتعتقد الاستخبارات الأميركية أن علي ناصر محمد الحسني يدرك تماما أن القلق بشأن الاقتصاد ربما يضعف سلطته لأن المشكلات الاقتصادية كانت ضمن أسباب مجيئه للسلطة.
ولذلك قام الحسني بتطبيق بعض إجراءات التحرر الاقتصادي المحدودة بهدف تعزيز شعبيته. ومن تلك الإجراءات تسهيل إرسال العمال الأجانب بمدخراتهم إلى بلادهم، والسماح لهم باستقدام المال من الخارج لبناء مساكنهم. والسماح للعمال العائدين من الخارج بتأسيس أعمال تجارية صغيرة خاصة، والسماح للمزارعين ببيع 40 في المائة من محاصيلهم الخاصة في السوق الحرة، وفق دبلوماسيين أجانب.
مذبحة 13 يناير
يجيد محللو وكالة الاستخبارات الأميركية السرد والتحليل ولكن عندما يتعلق الأمر بأحداث أو وقائع محددة فإن معلوماتهم لا تكاد تختلف عما كان ينشر في الصحف أو تبثه محطات الإذاعة في زمن الحدث.
ويبين تقرير مؤرخ في 14 يناير عام 1986، أي في اليوم التالي لمجزرة 13 يناير في عدن، مدى ضعف المعلومات الآنية وغياب المصادر العليمة لإرسال المعلومات من قلب الحدث.
كتب أول تقرير عن 13 يناير غراهام فولر نائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية وكان موجهًا إلى مدير الوكالة ونائب مدير الوكالة، وجاء تحت عنوان: «محاولة انقلاب مؤيدة للسوفيات في جنوب اليمن».
وفي التفاصيل أن مجموعة من كبار مناصري الاتحاد السوفياتي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية استولوا مع أنصارهم على السلطة، وأقر التقرير بأن المعلومات شحيحة عن طبيعة ما جرى، ولكن ترجح الوكالة أن الانقلاب يقوده عبد الفتاح إسماعيل وهو من أكثر المتحمسين اليساريين للاتحاد السوفياتي، وأنه تم عزله من السلطة عام 1977، ونفيه إلى الاتحاد السوفياتي قبل خمس سنوات. وهنا المعلومة غير دقيقة في التقرير؛ إذ إن السنة التي نفي فيها عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو هي 1980، وليس 1977.
ويربط التقرير بين عودة عبد الفتاح إسماعيل من موسكو قبل الانقلاب بفترة وجيزة ثم حدوث الانقلاب ليبرهن أن موسكو تقف وراء الانقلاب وأن منفذيه يعملون لصالحها، في حين اتضح لاحقا أن ما حدث لم يكن انقلابا وإنما مجزرة حقيقية استهدفت أربعة من كبار قادة الحزب والدولة، وهم علي عنتر، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، وعلي شايع هادي. ونجح الانتحاريون في تصفية علي عنتر، وعلي شايع هادي، فيما نجا عبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، رغم أن إذاعة عدن كانت قد أذاعت بيان إعدام الأربعة وهو البيان الذي يبدو أن الاستخبارات المركزية استقت معلوماتها منه.
ولم تدرك الاستخبارات الأميركية أن صالح مصلح قاسم وزير الدفاع كان من بين أوائل القتلى خلال المذبحة التي جرت في مقر اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني. وجاء في تقارير أخرى للوكالة أن صالح مصلح قاسم يقود المعارك لصالح الانقلابيين، وأن علي ناصر محمد رئيس الدولة قد قتل أو أصيب إصابة خطيرة، وهو ما ثبت عدم صحته لاحقا.
إن كانت الاستخبارات الأميركية قد عجزت في حينه عن فهم ما جرى على وجه التحديد يوم المذبحة، فقد سردت الوكالة في تقارير معدودة كافة المقدمات التي أدت إلى تلك المذبحة، منذ أول تصفية جسدية جرت بين الرفاق في اليمن الجنوبي لزميلهم فيصل عبد اللطيف الشعبي الرجل الثاني في الدولة والسند الأول لأول رئيس للدولة ومؤسسها قحطان الشعبي الذي أودع السجن هو الآخر، على غرار ما حدث لمحمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر.
رواية «سي آي إيه» لأحداث الجنوب
في الرابع من فبراير (شباط) من عام 1980، تم توجيه مذكرة مؤلفة من ثلاث صفحات من جهة ما إلى أخرى داخل وكالة الاستخبارات المركزية تحت عنوان: «جذور المعارضة للرئيس عبد الفتاح إسماعيل». وتم تكريس السطور العشرة الأولى للموضوع الوارد في العنوان، فيما خصص كاتب المذكرات ما تبقى لسرد تاريخي مختصر لأحداث 12 سنة سابقة.
وجاء في السطور الأولى من المذكرة أن «الحكومة الماركسية في جنوب اليمن، رغم عدم شعبيتها في الداخل، فإنها قد أحكمت قبضتها على الأوضاع في ذلك البلد عن طريق أجهزة أمنية فعالة وقاسية لحفظ النظام الداخلي في البلاد».
وأشارت المذكرة إلى أن معظم العناصر المعارضة للنظام القائمة، إما أنها قد فرت بجلدها إلى المنفى، وإما أعدمت أو سجنت، ومع ذلك طبقًا للمذكرة يوجد قنوات اتصال بين عناصر في الدائرة الداخلية للنظام ورفاقهم المنفيين إلى الشمال ومصر والسعودية، وغيرها.
وتمضي المذكرة في شرح جذور الصراع بين الرفاق بأنه بدأ بالتنافس بين جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، ذات التوجه القومي العربي ومدعومة من مصر، وجبهة أخرى أكثر راديكالية هي الجبهة القومية، وانتهى الصراع لصالح الجبهة القومية بتفضيل من بريطانيا فيما لاذ قادة جبهة التحرير بشمال اليمن
أول انقلاب
وفي يونيو (حزيران) عام 1969، نفذ الجناح الأكثر راديكالية في الجبهة القومية أول انقلاب أطيح فيه بالقيادة المعتدلة. وفي عام 1970، اتخذت إجراءات لتقسيمات إدارية تهدف إلى محو الهوية القبلية وتمنع السكان في المحافظات الست المكونة للدولة من استعمال ألقابهم القبلية.
واختصرت المذكرة سنوات السبعينات من القرن الماضي بالقول إنها شهدت تنازعا على السلطة بين اثنين من أبرز قيادات البلاد هما رئيس الدولة سالم ربيع علي، وقائد الحزب عبد الفتاح إسماعيل، إلى أن استولى إسماعيل على السلطة في ثاني انقلاب في يونيو عام 1978 وجرت خلاله تصفية الرئيس سالم ربيع علي، فاضطر الكثير من أتباعه إلى الفرار إلى شمال اليمن.
وجاء في الوثيقة أن التوتر ظل سائدا داخل الدائرة الضيقة للنظام في عدن، وكان لهذا التوتر بعد جغرافي حيث إن الرئيس عبد الفتاح إسماعيل تعود جذوره إلى منطقة الحجرية في شمال اليمن، ولم يكن جنوبي الأصل. وأضافت الوثيقة أن القادة ذوي الأصول الجنوبية كانوا يبدون امتعاضا من تعاظم نفوذ الشماليين في الجنوب. وكان من بين المتذمرين رئيس الوزراء علي ناصر محمد الحسني، ووزير الدفاع علي عنتر البيشي.
وكان من أهم أسباب الخلاف أن إسماعيل متحمس كثيرا لإقامة وحدة مع شمال اليمن في حين أن قادة الجنوب ذوي الأصول الجنوبية يبدون ترددا في ذلك خشية أن يبتلع الشماليون الجنوب.
وتشير الوثيقة إلى أن الصراع على السلطة بين إسماعيل ومناوئيه من داخل الحلقة الضيقة للحكم أسفر عن تغيير حكومي لم يكن في صالح إسماعيل، وفي وقت لاحق من العام ذاته قرر الجنوبيون الإطاحة برئيسهم الشمالي وتم نفيه إلى الاتحاد السوفياتي حيث أمضى هناك نحو خمس سنوات. بعد نفي إسماعيل خلفه في السلطة علي ناصر محمد الحسني.
الغطرسة العسكرية
في تقرير آخر تتحدث الاستخبارات المركزية عن عهد الرئيس علي ناصر محمد وما تخلله من صراعات كانت مقدمة للمذبحة الكبرى عام 1986، وجاء في الوثيقة أن الحسني (علي ناصر محمد) دخل في صراع مع منافسيه تمثل في نقلهم إلى مواقع قد تبدو كبيرة لكنها في الحقيقة عديمة المعنى. فمثلا نقل علي عنتر من موقعه كوزير للدفاع ليصبح وزيرا للحكم المحلي، وبعد ذلك عينه نائبا له، وهو منصب سياسي هام. ونعتقد أن المناصب الرسمية الرفيعة تعطي الفرصة لعنتر للقاء الوفود الأجنبية وترأس بعض اللقاءات الهامة على مستوى الدولة عندما يكون الحسني غائبا، لكن من دون إعطائه صوتا في قرارات مجلس الوزراء.
ويمضي التقرير في إيراد تفاصيل أكثر بأن الحسني (علي ناصر محمد) قام بنقل المسؤولين الأقل خطورة والمتعاطفين مع المسؤولين المنقولين، ووضعهم مكان قيادتهم السابقة ليخفف من ردود الفعل الغاضبة. فعلى سبيل المثال، قام الحسني بتعيين سالم البيض، أحد الداعمين غير الأكفاء لعنتر، وزيرا للحكم المحلي خلفا لعنتر. وكان من المكن لتصرف كهذا أن يتسبب في مشكلات، فبعد إزاحة عنتر من موقعه، قام الحسني بتعيين صالح مصلح قاسم وزيرا للدفاع، ليتحد بعدها عنتر وقاسم في مواجهة الحسني.
وقام الحسني بتعيين علي عبد الله عليوة، المقرب منه، رئيسا لأركان جيش اليمن الجنوبي ونائبا أول لوزير الدفاع.
وتعتقد الاستخبارات الأميركية أن الحسني ربما يعد لاستخدام الفساد سلاحا في مواجهة خصومه. وقد يقوم بحملة تطهير انتقائية بحيث يبقي على من يحتاج دعمهم. وجاء في التقرير أيضا: «نعتقد أن انعدام القانون بجيش اليمني الجنوبي كان مبعث استياء الشعب والعديد من أعضاء الحزب ومن الممكن أن يستغله الحسني ضد خصومه. فكثيرا ما كان القادة العسكريون يضطهدون المدنيين، وتسببت الغطرسة التي يبديها العسكريون في تعزيز وتقوية الحسني في مواجهة عنتر وقاسم وأنصارهما من العسكريين».
النفوذ السوفياتي
يورد التقرير أن موسكو غير راغبة في الوقوع في فخ الصراعات السياسية اليمنية، ويعتقد محللو «سي آي إيه» أن موسكو لا تريد أن تخاطر بوضعها في البلاد بالانحياز لفصيل معين. فالتدخل المباشر في الصراعات السياسية في عدن أمر غير ضروري، لأن موسكو بمقدورها التأثير على سياسة اليمن الجنوبي من خلال اتصالاتها المكثفة مع الحكومة، ولا يعنيها اسم الحزب الحاكم. ويعتبر النفوذ السوفياتي في الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم وفي الحكومة كبيرا، فالمدارس الحزبية مليئة بالسوفيات والأوروبيين الشرقيين، والطلاب الجنوبيين الذين يدرسون في جميع المدارس الفنية والاقتصادية يتلقون تدريبهم في روسيا وفي دول أوروبا الشرقية، أو في عدن على يد مدرسين من تلك الدول. بالإضافة إلى ذلك، يقوم نحو 450 مستشارا سوفياتيا بالمساعدة في التخطيط الاقتصادي ويعملون في مجالات الإنشاءات والثروة السمكية.
وتضيف الوثيقة أن الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية لا يزالان الموردين الرئيسيين للأسلحة والمستشارين العسكريين لليمن الجنوبي. فقد أرسلت موسكو نحو 500 مستشار عسكري، كما أرسلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أسلحة بقيمة 500 مليون دولار، بحسب تقديرنا لقيمة الأسلحة. كذلك باليمن نحو 400 كوبي يقومون بتدريب ميليشيات اليمن الجنوبي.
ويضيف التقرير أن المستشارين السوفياتيين، بمقدورهم دخول المنشآت العسكرية التابعة لليمن الجنوبي في أي لحظة، كما أن الأسطول السوفياتي يستخدم ميناء عدن وغيره من مرافق اليمن الجنوبي لتزويد السفن والغواصات النووية بالوقود، وتستخدم الزوارق السوفياتية المراسي القريبة من جزيرة سوقطرة لخدمة أسطولها بالمحيط الهندي وغيره من السفن.
ويتوق التقرير إلى أنه يمكن للتمويل السوفياتي لملحق مدرج الطائرات الرئيسي بمطار عدن أن يساعد على السماح بهبوط طائرات الاستطلاع بعيدة المدى مثل طائرات «تي يو 95» والتمركز هناك، غير أنه شكك في أن المدرج سيكون قادرا على استقبال طائرات طراز «تي يو 95 إس»، لأن مطار عدن الدولي يعد المطار المدني الرئيسي للبلاد، وسيكون بمقدور المسافرين والمدنيين هناك رؤية الطائرات السوفياتية متمركزة هناك، حسب ما جاء في التقرير. ولفت التقرير إلى أن عمليات التحديث والتطوير التي يقوم بها الفرنسيون بصالة الوصول بمطار عدن الدولي، وشراء السلطات الجنوبية لطائرات ركاب من الولايات المتحدة تشير إلى أن اليمن الجنوبي يقوم بتكبير حجم مدرج الطائرات ومرافق المطار لتحسين قدرته على التعامل مع طائرات الركاب، بيد أننا لم نر طراز «تي يو 95» في عدن.
وتعتقد الاستخبارات الأميركية أن علي ناصر محمد الحسني يدرك تماما أن القلق بشأن الاقتصاد ربما يضعف سلطته لأن المشكلات الاقتصادية كانت ضمن أسباب مجيئه للسلطة.
ولذلك قام الحسني بتطبيق بعض إجراءات التحرر الاقتصادي المحدودة بهدف تعزيز شعبيته. ومن تلك الإجراءات تسهيل إرسال العمال الأجانب بمدخراتهم إلى بلادهم، والسماح لهم باستقدام المال من الخارج لبناء مساكنهم. والسماح للعمال العائدين من الخارج بتأسيس أعمال تجارية صغيرة خاصة، والسماح للمزارعين ببيع 40 في المائة من محاصيلهم الخاصة في السوق الحرة، وفق دبلوماسيين أجانب.
مذبحة 13 يناير
يجيد محللو وكالة الاستخبارات الأميركية السرد والتحليل ولكن عندما يتعلق الأمر بأحداث أو وقائع محددة فإن معلوماتهم لا تكاد تختلف عما كان ينشر في الصحف أو تبثه محطات الإذاعة في زمن الحدث.
ويبين تقرير مؤرخ في 14 يناير عام 1986، أي في اليوم التالي لمجزرة 13 يناير في عدن، مدى ضعف المعلومات الآنية وغياب المصادر العليمة لإرسال المعلومات من قلب الحدث.
كتب أول تقرير عن 13 يناير غراهام فولر نائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية وكان موجهًا إلى مدير الوكالة ونائب مدير الوكالة، وجاء تحت عنوان: «محاولة انقلاب مؤيدة للسوفيات في جنوب اليمن».
وفي التفاصيل أن مجموعة من كبار مناصري الاتحاد السوفياتي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية استولوا مع أنصارهم على السلطة، وأقر التقرير بأن المعلومات شحيحة عن طبيعة ما جرى، ولكن ترجح الوكالة أن الانقلاب يقوده عبد الفتاح إسماعيل وهو من أكثر المتحمسين اليساريين للاتحاد السوفياتي، وأنه تم عزله من السلطة عام 1977، ونفيه إلى الاتحاد السوفياتي قبل خمس سنوات. وهنا المعلومة غير دقيقة في التقرير؛ إذ إن السنة التي نفي فيها عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو هي 1980، وليس 1977.
ويربط التقرير بين عودة عبد الفتاح إسماعيل من موسكو قبل الانقلاب بفترة وجيزة ثم حدوث الانقلاب ليبرهن أن موسكو تقف وراء الانقلاب وأن منفذيه يعملون لصالحها، في حين اتضح لاحقا أن ما حدث لم يكن انقلابا وإنما مجزرة حقيقية استهدفت أربعة من كبار قادة الحزب والدولة، وهم علي عنتر، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، وعلي شايع هادي. ونجح الانتحاريون في تصفية علي عنتر، وعلي شايع هادي، فيما نجا عبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، رغم أن إذاعة عدن كانت قد أذاعت بيان إعدام الأربعة وهو البيان الذي يبدو أن الاستخبارات المركزية استقت معلوماتها منه.
ولم تدرك الاستخبارات الأميركية أن صالح مصلح قاسم وزير الدفاع كان من بين أوائل القتلى خلال المذبحة التي جرت في مقر اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني. وجاء في تقارير أخرى للوكالة أن صالح مصلح قاسم يقود المعارك لصالح الانقلابيين، وأن علي ناصر محمد رئيس الدولة قد قتل أو أصيب إصابة خطيرة، وهو ما ثبت عدم صحته لاحقا.