على وقع الحرب والصراعات السياسية التي تجتاح اليمن تبدو ملامح حالة التسامح الفريدة التي عرفتها البلاد على مدى تاريخها شاحبة، بل وتعيش آخر لحظاتها وفقا لقراءات تبدو متشائمة ولكنها واقعية إلى حد كبير للتحولات العنيفة التي يعيشها اليمن منذ العام 2011.
وقد أخذت هذه التحولات منذ سيطرة الميليشيات الحوثية على شمال البلاد منحى آخر ترعرعت فيه أنواع منقرضة من العصبيات المذهبية والسياسية والثقافية والجهوية. ولم ينقض العام 2016 إلا واليمن على وشك أن يعلن عن نفسه كدولة ذات دين واحد بعد أن غادرته آخر دفعة من أبنائه اليهود باتجاه إسرائيل.
حاول يهود اليمن التشبث حتى الرمق الأخير بأرض الأجداد التي فضلوها على “أرض الميعاد” المزعومة، ولكن أصوات الصيحات الحوثية التي كانت تردد شعار “اللعنة على اليهود” بدأت تصم آذانهم ولا تبعث على الاطمئنان.
حالة التسامح المذهبي في اليمن أوشكت الحرب على ردمها تحت غبار المعارك لتحولها إلى مجرد أطلال، بعد أن كانت نموذجا فريدا للتعايش بين السنة والشيعة، هذا التعايش الذي ظل لفترات طويلة مضرب المثل الفكري الذي تجلى في التعايش بين أبرز مذهبين في اليمن “الزيدي” و”الشافعي”.
يعود الصراع الذي يشهده اليمن بالدرجة الأولى إلى عوامل خارجية أفرزت جيلا متطرفا من كلا طرفي التعايش المذهبي، الأمر الذي انتهى بالحرب التي تعيشها البلاد والتي نقلت اليمن إلى طور جديد من الصراع لم تعرفه عدة أجيال ظلت تقتات لعقود على وجهه السياسي فقط.
في المشهد الجهوي في اليمن بات الحديث عن شمال وشمال الشمال أمرا سائدا للتفريق بين سكان المناطق المغلوبة على أمرها في شمال اليمن عن تلك التي استأثرت، كما يقول منتقدوها، بالسلطة والمال لقرون.
ويعتبر العديد من اليمنيين أن مناطق شمال الشمال التي تضم محافظة صعدة، معقل الحوثيين، هي أحد مراكز الحرب والصراع التي وقفت حائلا دون استقرار اليمن لفترة طويلة.
وكان أسلاف الحوثيين يخرجون من تلك المنطقة لاجتياح وإذلال معظم مناطق اليمن وخصوصا شماله قبل أن يهزموا وينكفئوا على أنفسهم ليعيدوا الكرة مجددا عندما تتهيأ لهم الفرص.
إلى جانب معضلة الشمال وشمال الشمال، برزت في المشهد اليمني معضلة أخرى في العام 1994 بعد اجتياح قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح المحافظات الجنوبية التي كانت تعرف قبل قيام الوحدة اليمنية في 1990 بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، شيئا فشيئا كانت تنمو مظلمة جديدة عرفت لاحقا بالحراك الجنوبي والقضية الجنوبية، حتى أصبحت معادلا جديدا في نقض الهوية اليمنية برمتها.
كفر الكثير من الجنوبيين بالوحدة اليمنية وقادهم هذا الكفر لاحقا إلى التمرد على انتمائهم القومي والتنكر ليمنيتهم فيما يمكن أن يوصف بأنه ذروة سنام التعبير عن الغضب والانتقام من ممارسات نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي أطلق أيدي أنصاره في عدن بعد العام 1994 في المدن المتمردة، والتي لم يعرفها جنوب اليمن من قبل، على الرغم من حالة الصراع الذي شهده.
ويرجّح العديد من الباحثين أن ردة الفعل العنيفة التي نشأت في جنوب اليمن ضد الهوية اليمنية وعلى الرغم من سطحيتها التاريخية والثقافية وافتقارها للمبررات المقنعة، إلا أنها تقترب من كونها ثورة ثقافية شعبية قادها العديد من منظري الحراك الجنوبي، إما من الذين لم يقرأوا شيئا عن تاريخ اليمن وإما ممن تعمدوا تغييب الناس عن الحقيقة لتحقيق أهداف سياسية تتمثل في نهاية المطاف بانفصال جنوب اليمن عن شماله ليس سياسيا فقط بل وثقافيا وتاريخيا.
وتتمحور هذه الفكرة حول التنصل من الانتماء إلى اليمن وخلق هوية جديدة هي “الجنوب العربي” والترويج لأن الجنوب لم يكن يوما تابعا لليمن أو جزءا منه، بينما يقول الطرف المعارض لهذا التوجه إن “الجنوب العربي” ذاته لم يعرف إلا خلال فترة وجيزة لم تتجاوز بضع سنوات عندما أنشأ البريطانيون في عدن ما سمي باتحاد الجنوب العربي في العام 1962 وضموا تحته السلطنات المتناثرة التي كانت تحكم ذاتها.
في شكل آخر من أشكال أزمة الهوية التي يعيشها اليمن اليوم مع تراجع صوت المنابر الثقافية أمام دوي المدافع وهيمنة أمراء الحرب، برزت ظاهرة أخرى تتمثل في استدعاء الرموز الدينية والثقافية من التاريخ السحيق.
وهذا يمثل ردة فعل على لجوء الحوثيين إلى إبراز الرموز الشيعية وإضفاء طابع القداسة عليها على الطريقة الخمينية، وهو ما لم يكن معروفا لدى اليمنيين من قبل، حيث عمد تيار حوثي من المنتمين إلى الفكر الشيعي على طريقته الإيرانية إلى النيل من الرموز الدينية للطرف الآخر، وهو ما أنهى اتفاقا غير مكتوب لحالة التعايش اليمنية التي قامت على تنازل أئمة الزيدية في اليمن لفترة طويلة عن ركن شيعي قائم على النيل من صحابة الرسول مثل أبي بكر وعمر وعثمان الخ، كما مزج الحوثيون قداسة رموزهم القديمة التي لم تكن محل خلاف نظرا لإجماع المذاهب عليها، بقداسة مصطنعة للعديد من قادتهم السياسيين مثل حسين بدرالدين الحوثي، مؤسس الجماعة وزعيمها الحالي عبدالملك الحوثي، وجعلوا من حبهم وموالاتهم ركنا أساسيا في ثقافتهم الدينية، وهو الأمر الذي ولد ردة فعل عنيفة جدا من اليمنيين الذين سعوا في المقابل لاستحضار رموز تاريخية بعضها رفض فكرة ما اعتبروه “الإسلام القرشي” انطلاقا من عصبية مفرطة للقومية اليمنية مثل عبهلة بن كعب بن غوث العنسي المذحجي، المعروف باسم “الأسود العنسي” والذي تصفه كتب التراث الإسلامي بالمرتد ومدعي النبوة، بينما يرى فيه بعض اليمنيين اليوم ثائرا ضد الهيمنة القرشية والهاشمية على وجه التحديد التي تمثلها اليوم في اليمن الجماعة الحوثية.
وكردة فعل حوثية على ردة الفعل “اليمنية” لجأ العديد من الناشطين الحوثيين على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تشهد فصول هذه المعركة الثقافية، إلى التقليل من الرموز اليمنية مثل الملكة بلقيس، على اعتبار أنهم لم يعودوا جزءا من هذه الهوية التي تخلوا عنها ضمنا -كما يقول الطرف الآخر- عندما بدأوا يتفاخرون بانتمائهم إلى قبيلة غير يمنية، باتت اليوم تحكم اليمن وهي “بني هاشم”، وأخذ هذا الصراع الفكري منحى أكثر تطرفا بات يمس قيما ثابتة في المجتمع لكنه لم يصل إلى مرحلة الظاهرة حتى الآن.
وقد أخذت هذه التحولات منذ سيطرة الميليشيات الحوثية على شمال البلاد منحى آخر ترعرعت فيه أنواع منقرضة من العصبيات المذهبية والسياسية والثقافية والجهوية. ولم ينقض العام 2016 إلا واليمن على وشك أن يعلن عن نفسه كدولة ذات دين واحد بعد أن غادرته آخر دفعة من أبنائه اليهود باتجاه إسرائيل.
حاول يهود اليمن التشبث حتى الرمق الأخير بأرض الأجداد التي فضلوها على “أرض الميعاد” المزعومة، ولكن أصوات الصيحات الحوثية التي كانت تردد شعار “اللعنة على اليهود” بدأت تصم آذانهم ولا تبعث على الاطمئنان.
حالة التسامح المذهبي في اليمن أوشكت الحرب على ردمها تحت غبار المعارك لتحولها إلى مجرد أطلال، بعد أن كانت نموذجا فريدا للتعايش بين السنة والشيعة، هذا التعايش الذي ظل لفترات طويلة مضرب المثل الفكري الذي تجلى في التعايش بين أبرز مذهبين في اليمن “الزيدي” و”الشافعي”.
يعود الصراع الذي يشهده اليمن بالدرجة الأولى إلى عوامل خارجية أفرزت جيلا متطرفا من كلا طرفي التعايش المذهبي، الأمر الذي انتهى بالحرب التي تعيشها البلاد والتي نقلت اليمن إلى طور جديد من الصراع لم تعرفه عدة أجيال ظلت تقتات لعقود على وجهه السياسي فقط.
في المشهد الجهوي في اليمن بات الحديث عن شمال وشمال الشمال أمرا سائدا للتفريق بين سكان المناطق المغلوبة على أمرها في شمال اليمن عن تلك التي استأثرت، كما يقول منتقدوها، بالسلطة والمال لقرون.
ويعتبر العديد من اليمنيين أن مناطق شمال الشمال التي تضم محافظة صعدة، معقل الحوثيين، هي أحد مراكز الحرب والصراع التي وقفت حائلا دون استقرار اليمن لفترة طويلة.
وكان أسلاف الحوثيين يخرجون من تلك المنطقة لاجتياح وإذلال معظم مناطق اليمن وخصوصا شماله قبل أن يهزموا وينكفئوا على أنفسهم ليعيدوا الكرة مجددا عندما تتهيأ لهم الفرص.
إلى جانب معضلة الشمال وشمال الشمال، برزت في المشهد اليمني معضلة أخرى في العام 1994 بعد اجتياح قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح المحافظات الجنوبية التي كانت تعرف قبل قيام الوحدة اليمنية في 1990 بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، شيئا فشيئا كانت تنمو مظلمة جديدة عرفت لاحقا بالحراك الجنوبي والقضية الجنوبية، حتى أصبحت معادلا جديدا في نقض الهوية اليمنية برمتها.
كفر الكثير من الجنوبيين بالوحدة اليمنية وقادهم هذا الكفر لاحقا إلى التمرد على انتمائهم القومي والتنكر ليمنيتهم فيما يمكن أن يوصف بأنه ذروة سنام التعبير عن الغضب والانتقام من ممارسات نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي أطلق أيدي أنصاره في عدن بعد العام 1994 في المدن المتمردة، والتي لم يعرفها جنوب اليمن من قبل، على الرغم من حالة الصراع الذي شهده.
ويرجّح العديد من الباحثين أن ردة الفعل العنيفة التي نشأت في جنوب اليمن ضد الهوية اليمنية وعلى الرغم من سطحيتها التاريخية والثقافية وافتقارها للمبررات المقنعة، إلا أنها تقترب من كونها ثورة ثقافية شعبية قادها العديد من منظري الحراك الجنوبي، إما من الذين لم يقرأوا شيئا عن تاريخ اليمن وإما ممن تعمدوا تغييب الناس عن الحقيقة لتحقيق أهداف سياسية تتمثل في نهاية المطاف بانفصال جنوب اليمن عن شماله ليس سياسيا فقط بل وثقافيا وتاريخيا.
وتتمحور هذه الفكرة حول التنصل من الانتماء إلى اليمن وخلق هوية جديدة هي “الجنوب العربي” والترويج لأن الجنوب لم يكن يوما تابعا لليمن أو جزءا منه، بينما يقول الطرف المعارض لهذا التوجه إن “الجنوب العربي” ذاته لم يعرف إلا خلال فترة وجيزة لم تتجاوز بضع سنوات عندما أنشأ البريطانيون في عدن ما سمي باتحاد الجنوب العربي في العام 1962 وضموا تحته السلطنات المتناثرة التي كانت تحكم ذاتها.
في شكل آخر من أشكال أزمة الهوية التي يعيشها اليمن اليوم مع تراجع صوت المنابر الثقافية أمام دوي المدافع وهيمنة أمراء الحرب، برزت ظاهرة أخرى تتمثل في استدعاء الرموز الدينية والثقافية من التاريخ السحيق.
وهذا يمثل ردة فعل على لجوء الحوثيين إلى إبراز الرموز الشيعية وإضفاء طابع القداسة عليها على الطريقة الخمينية، وهو ما لم يكن معروفا لدى اليمنيين من قبل، حيث عمد تيار حوثي من المنتمين إلى الفكر الشيعي على طريقته الإيرانية إلى النيل من الرموز الدينية للطرف الآخر، وهو ما أنهى اتفاقا غير مكتوب لحالة التعايش اليمنية التي قامت على تنازل أئمة الزيدية في اليمن لفترة طويلة عن ركن شيعي قائم على النيل من صحابة الرسول مثل أبي بكر وعمر وعثمان الخ، كما مزج الحوثيون قداسة رموزهم القديمة التي لم تكن محل خلاف نظرا لإجماع المذاهب عليها، بقداسة مصطنعة للعديد من قادتهم السياسيين مثل حسين بدرالدين الحوثي، مؤسس الجماعة وزعيمها الحالي عبدالملك الحوثي، وجعلوا من حبهم وموالاتهم ركنا أساسيا في ثقافتهم الدينية، وهو الأمر الذي ولد ردة فعل عنيفة جدا من اليمنيين الذين سعوا في المقابل لاستحضار رموز تاريخية بعضها رفض فكرة ما اعتبروه “الإسلام القرشي” انطلاقا من عصبية مفرطة للقومية اليمنية مثل عبهلة بن كعب بن غوث العنسي المذحجي، المعروف باسم “الأسود العنسي” والذي تصفه كتب التراث الإسلامي بالمرتد ومدعي النبوة، بينما يرى فيه بعض اليمنيين اليوم ثائرا ضد الهيمنة القرشية والهاشمية على وجه التحديد التي تمثلها اليوم في اليمن الجماعة الحوثية.
وكردة فعل حوثية على ردة الفعل “اليمنية” لجأ العديد من الناشطين الحوثيين على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تشهد فصول هذه المعركة الثقافية، إلى التقليل من الرموز اليمنية مثل الملكة بلقيس، على اعتبار أنهم لم يعودوا جزءا من هذه الهوية التي تخلوا عنها ضمنا -كما يقول الطرف الآخر- عندما بدأوا يتفاخرون بانتمائهم إلى قبيلة غير يمنية، باتت اليوم تحكم اليمن وهي “بني هاشم”، وأخذ هذا الصراع الفكري منحى أكثر تطرفا بات يمس قيما ثابتة في المجتمع لكنه لم يصل إلى مرحلة الظاهرة حتى الآن.