الصورة النمطية التي تتداولها عديد من الأقلام الغربية، وحتى العربية مؤخرًا، عن نجمات المواد الإباحية، هي صورة «العاهرة» المكتئبة في حياتها الخاصة، التي تملك قدرًا كبيرًا من المال ولا تمتلك أدنى قدر من السعادة الحقيقية؛ هي صورة امرأة أجبرها العالم القاسي أن تبيع جسدها مقابل مكاسب مادية لا تستطيع أبدًا أن تُشبع احتياجاتها الحقيقية العميقة، وباختصار غالبًا ما يكون الانطباع الأول عن نجمة المواد الإباحية، أنها امرأة قادمة من بيئة فقيرة، وجدت أسهل الطرق لولوج حياة الثراء والمجد والشهرة هو أن تتاجر بجسدها وتحوله إلى سلعة.
ترسخت هذه الصورة عن البؤس الخفي لنجمات المواد الإباحية أكثر وأكثر، بعد ترجمة عديد من المواد إلى العربية، كانت لصناع في تلك الصناعة، يفضحون فيها قسوة هذه المهنة وتسليعها للإنسان.
من أكثر تلك المواد تأثيرًا في هذا الصدد، كان المقال الذي تُرجم إلى العربية لمخرج الأفلام الإباحية سيمور باطس، الذي تحدث عن معاناة العاملات بتلك الصناعة، إذ قال سيمور موجهًا حديثه للقارئ: «حين تشاهد مرة أخرى أفلامًا يولج فيها الذكر عضوه في شرج الممثلة، عليك أن تعلم كون تلك الممثلة تتضور جوعًا، لأن إعداد هذه المشاهد يتطلب صيام المؤدية لمدة قد تصل إلى 12 ساعة، منعًا لتكون البراز، وعليك أن تعرف كونها تلقت حقنًا شرجية أكثر مما تتلقاه مسنة مقيمة في دار مسنين، وذلك أيضًا للتخلص من أي أثر للبراز بكل تأكيد».
تحدث باطس عن حالة من البؤس الحقيقي، إذ أغلب العاملات في هذا المجال لا يستمتعن إطلاقًا بممارسة الجنس في تلك الأفلام، ويتعرضن لأذى نفسي وجسدي منها، وغرضهن الأول هو كسب المال وحب الشهرة، وفي مقابل ذلك يمارسن أنواعًا لا يطقنها من الجنس، ويدعين أنهن في غاية الاستمتاع.
في الواقع العديد من النقاد والنسويين والنسويات، قد وجهوا نقدًا لاذعًا لصناعة المواد الإباحية، باعتباها «تجارة لحم إجرامية»، تُفقد الجنس معانيه السامية القائمة على الاختيار الحر. وذوو الاتجاهات اليسارية منهم يرون أن تلك الصناعة هي وجه من أوجه بؤس الإنسان واستعباده في النظام الرأسمالي.
لكن في هذا التقرير سنذهب إلى أبعد من هذا كله، سنتعرف إلى نماذج لسيدات سعيدات للغاية بعملهن في مجال صناعة البورنو وتجارة الجنس، ويرينه عملًا أخلاقيًا ونضاليًا، اخترنه بمحض إرادتهن، ويدافعن عنه بالحجة والمنطق، ويعتبرن أنفسهن سعيدات للغاية بفضل هذا العمل، وربما ينتقلن بعد ذلك في مشوارهن إلى الترشح للمناصب السياسية وهن فخورات بعملهن الأصلي.
ستعد تلك مغامرة صعبة للغاية ومحفوفة بالمخاطر، لأنها قد تؤدي إلى التدليل على بطلان أي نقد لصناعة المواد الإباحية، باعتبارها تجارة لحم تُسلع الإنسان، وتتاجر بأحلام الفتيات الحالمات بالشهرة والمال على حساب أحزانهن الدفينة، فها هو يوجد عدد غير يسير من العاملات في هذا المجال، يرين أنهن وجدن ضالتهن في السعادة بفضل هذه الصناعة التي يرينها أخلاقية، وهو ما قد يهدم أي نقد أخلاقي أيضًا لتلك الصناعة، فها هي الأخلاق نسبية، وما هو غير أخلاقي عند الجمهور المحافظ، هو أخلاقي وربما نضالي أيضًا عند تلك النسوة. وهذا كله سنعود إليه في نهاية التقرير لتوضيحه.
أنجيلا فيلون.. ناشطة من نوع جديد
تناقلت وسائل الإعلام العالمية في شهر أبريل (نيسان) 2016 الماضي، خبر ترشح ناشطة تدعى أنجيلا فيلون للانتخابات النيابية في بيرو، لكن المدهش في الخبر كان نوع النشاط الذي اشتهرت به المرشحة للبرلمان، فهي ناشطة في مجال حقوق بائعات الهوى، وهي بنفسها تعمل في مجال تجارة الجنس منذ أكثر من 30 عامًا.
صورة لأنجيلا فيلون (مصدر الصورة: (VICE NEWS
فيلون التي تعمل في مجال تجارة الجنس مذ كان عمرها 17 عامًا، متزوجة ولديها أربعة أبناء، وتقول إنها تكسب أموالًا أكثر بكثير من تلك التي يكسبها زوجها.
هي أيضًا رئيسة منظمة «العاملات بالجنس في بيرو»، التي تدافع عن حقوق العاملات في مجال تجارة الجنس، والتي أُنشئت ردَّ فعل على مقتل بائعة الهوى «ميلوسكا» عام 1998، على يد أحد زبائنها.
فيلون كانت تقول لزميلاتها دائمًا إنها «عاهرة محترمة لا تقبل الظلم»، ليس هذا فحسب فقد تعرضت فيلون منذ سنوات عديدة، لحادثة ضرب مبرح من ضابط شرطة رفضت أن تدفع له الإتاوة، وقد تمسكت بالحصول على حقها منه، حتى حوكم وعوقب بالفعل في سابقة لم تحدث من قبل في البلاد.
لا تظهر فيلون بائعة هوى فارغة العقل، تود أن تكسب الشهرة بالترشح للبرلمان، بل تتحدث في كل المقابلات الصحفية معها برصانة تامة، وبلهجة خبيرة ومناضلة تدافع عن حقوق العاملات في تجارة الجنس، ودارسة جيدة لكل مشاكلهن بحكم خبرتها النضالية ناشطةً في الدفاع عن حقوقهن، وخبرتها الكبيرة في المهنة.
ومع أن تجارة الجنس في بيرو تتمتع بالشرعية القانونية مع بعض القيود، لكن فيلون ترى أنه ما زال هناك خطوات كبيرة في طريق «نضالهن»، فما زال العديد من بائعات الهوى، لا يحظين بالشرعية القانونية، ولا يُسمح لهن بالعمل في الشوارع، ولا يحصلن أيضًا على التأمين الصحي، ولا ينظم القانون طريقة تمكنهن من الوصول لحقوقهن في البرامج الاجتماعية التي تشرع فيها الحكومة.
تقول فيلون: «أنا لا أشعر بالإهانة حين يقولون عني مومسًا، بالنسبة إليّ مهنة عاهرة هي مهنة مرادفة للحرية، أنا مثل كثير من النساء اللواتي قررن أن يعشن حياتهن على قدم المساواة مع الرجال، بما في ذلك الحقوق الجنسية».
رغم أنها دُفعت في البداية إلى تلك المهنة نتيجة للظروف القاسية، إلا أنها أحبت مهنتها، بل تُناضل أيضًا من أجلها، ومن أجل الهاجس الدائم المتعلق بالشعور الدائم بالذنب عند المرأة.
تشافييرا هولاندر.. «العاهرة السعيدة»
في سبعينيات القرن الماضي، كان يمكنك أن تراهن حين تذهب إلى شاطئ من شواطئ أوروبا، أنك ستجد شخصًا على الأقل يجلس مستجمًا، ويستمتع بقراءة كتاب تشافييرا هولاندر «العاهرة السعيدة: قصتي الخاصة»، الذي بيع منه أكثر من 20 مليون نسخة، الكتاب عن رحلة تشافييرا الجنسية، التي وصلت إلى أن أصبحت بائعة الهوى الأعلى أجرًا في نيويورك، وكان مليئًا بمغامراتها الجنسية المختلفة والغريبة أحيانًا.
صورة لتشافييرا مع زوجها الحالي (مصدر الصورة: (xavierahollander.com
في الواقع رحلة تشافييرا كأسطورة من أساطير تجارة الجنس، بها مغامرات جنسية لا حصر لها، ولم تنته حتى الآن، وهي تبلغ من العمر أكثر من 70 عامًا، حيث ما زالت تدير بيتًا للدعارة في أمستردام، برفقة زوجها الذي يفتخر بقناعاتها ومشوارها الجنسي.
وتشافييرا واحدة من اللواتي عشقن تجارة الجنس، ولم يُدفعن إليها مرغمين، وتعتقد في أن مهنتها جلبت لها سعادة لا توصف. ولا تمثل تشافييرا الصورة النمطية عن بائعة الهوى التي تعاني من اكتئاب مزمن، وأرغمتها الحياة بقسوتها على مزاولة تلك المهنة التي تبيع فيها جسدها.
فهي تتحدث خمس لغات، واختيرت في يوم من الأيام، قبل أن تزاول تجارة الجنس، أفضل موظفة إدارية في هولندا، وكانت تعمل في وظيفة مرموقة بالقنصلية الهولندية في مانهاتن، كما أنها ابنة لعائلة أرستقراطية تتمتع بثقافة عالية.
لا ترى تشافييرا في مهنتها ما هو غير أخلاقي، فعلى العكس تدافع عن اختيارها وتكنّ له الاحترام، بل ترى أنه أخلاقي؛ «لأن ذروة هدف الأخلاق هو تحقيق السعادة»، وهذا ما وجدته تلك المرأة في مهنة تجارة الجنس.
وفي حوار لها مع صحيفة الجارديان البريطانية، قالت تشافييرا بوضوح، ردًا على سؤال ما إذا كانت نادمة على اختيار تلك المهنة: «أن تأخذي أجرًا مقابل عمل تستمتعين به، هو أمر في غاية الروعة، أليس كذلك؟ أليس كلامي منطقيًا؟».
إريكا لاست.. من دراسة الاقتصاد إلى صناعة الإباحية
باعتبارها متابعة مثقفة لصناعة البورنو، كانت إريكا لاست ترى يومًا بعد يوم أن صناعة المواد الإباحية غارقة في الفشل والانفصال عن الواقع، ولا تمت للفن الحقيقي بأدنى صلة.
كان يثير سخريتها وكانت تحبط للغاية، من مستوى تلك الصناعة التي باتت تقدم حياة لا تمت للواقع بصلة، حيث تظهر النساء بالأحذية ذوات الكعب العالي على الفراش، والرجل دائمًا يبدو حاذقًا في ممارسة الجماع، وتظهر امرأة شديدة الجمال وكأنها مستمتعة بممارسة الجنس مع رجل دميم في منتصف العمر، وكل النساء أجسادهن رائعة، وكذلك الرجال.
أمام ذلك الزيف المُتعمد الذي تقدمه صناعة المواد الإباحية، من وجهة نظر إريكا، أرادت أن تقدم صناعة المواد الإباحية فنًّا حقيقيًّا يمت للحياة بصلة، ولا يغفل الإمتاع أيضًا، لكنه إمتاع من قلب الحقيقة ومن رحم الحياة اليومية، تحاول أن تقدم سينما إباحية واقعية وممتعة، لا تغفل العناصر الفنية كالتصوير والإضاءة ومنطقية الدراما والحبكة وواقعية الأحداث.
إيريكا، المواطنة السويدية التي تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ودرست علم الاجتماع، تجد متعتها وسعادتها في ممارسة الابتكار بالفن الإباحي، ولا تجد غضاضة في ذلك، كما أنها لم تُدفع إليه مرغمة ولا تشعر بالحزن أو الاكتئاب باعتبارها جزءًا من تلك الصناعة.
صورة لإريكا لاست (مصدر الصورة: usesthis)
وقد افتتحت إيريكا بالفعل شركة إنتاج خاصة بها، لإنتاج أفلام إباحية تحمل ذوقًا فنيًّا رفيعًا من وجهة نظرها، عام 2004.
هل ما زال نقد صناعة الإباحية وتجارة الهوى ممكنًا؟
في كتاباته الأولى وهو شاب صغير، أرسل كارل ماركس رسالة لصديق، بعنوان «النقد القاسي لكل شيء»، ربما حمل هذا العنوان منهج كارل ماركس القادم كله، الذي كان قائمًا على الغوص في أقصى أعماق الرأسمالية، كي يفهمها تمامًا ويعرف من ثم المبادئ الأولية المشكلة لنمط العالم الحديث، ومن ثم يتمكن من إيجاد العناصر التي تربط ظواهره رغم أنها تظهر متفرقة، وبعد ذلك يستطيع أن ينقدها نقدًا جذريًا من أساسها، ومن أسبابها العميقة.
على ما يبدو، فإن النقد الأخلاقي لصناعة المواد الإباحية وتجارة الهوى، يُعاني من أزمة تتمثل في أنّ النماذج المذكورة في التقرير على دلائل النقد، ترى أنّ مهنتها أخلاقية، وتدافع عن حقها في الاستمتاع ببيع الجنس مقابل المال، وكانت لها حججها وأدلتها الذاتية فيما يخص ذلك.
مع ذلك، يبقى النقد مُمكنًا لصناعة الإباحية، عبر دراسة تأثيرها على المجتمع، ودراسة بروزها، والمستفيدين منها، وأكثر المتضررين منها، وموقعها داخل بنية النظام الرأسمالي، وإلى أي حد تعد وجهًا من وجوه تطور العالم، الذي يسير وفقًا لعديد المدارس الفلسفية، في اتجاه أن يشاهد الناس الحياة دون أن يستطيعوا ولوجها أبدًا.
وبعيدًا عن شعارات الحرية الجنسية، ورغم قول عديد من نجمات صناعة الإباحية إنهن «يمارسن خدمة ترفيهية جليلة في حق البشر»، لكن تلك المواد الترفيهية ينظر إليها الكثيرون باعتبارها عنفًا رمزيًا يمارس على البشر الذين يشاهدون تلك المواد، ثم لا يجدون لها أي صدى على أرض الواقع، حيث يجني مليارديرات تلك الصناعة أموالًا طائلة، من بيع مظاهر حياة لأناس لن يستطيعوا أن يعيشوها أبدًا، في مجتمعات ليست مبنية على علاقات مساوية بين البشر، علمًا بأن تلك الصناعة لا تخلو من الاحتكارات على أية حال. ويُشار أخيرًا إلى أن إيرادات صناعة الجنس بلغت في 2012، أكثر مما حققته إيرادات كرة السلة والقدم والبيسبول مجتمعين.