يتصاعد دور القبيلة في حضرموت، شرق اليمن، منذ بدء عمليات "عاصفة الحزم" في مارس/آذار الماضي، وسط غياب، أو جمود، مؤسسات الدولة وفروع الأحزاب السياسية. وقد تراجع دور الدولة وجُمّد نشاط الأحزاب السياسية في حضرموت كنتيجة مباشرة للحرب التي اندلعت بين الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، من جهة، والجيش الوطني و"المقاومة" من جهة ثانية، فضلاً عن سيطرة تنظيم "القاعدة" على مدينة المُكلّا، مركز المحافظة. واقتصر حضور الدولة والأحزاب على محطات نادرة وغير مؤثرة.
وحضرموت هي أكبر محافظات اليمن (191.737 كيلومتراً مربّعاً)، وأغناها بالثروة النفطية، كما تحتلّ موقعاً استراتيجياً، لكن الحضور الضعيف للدولة فيها، يعني أن المحافظة مقبلة على حقبة سياسية تُشكّل القبيلة أحد أعمدتها.
وقد غابت الدولة في آخر ستة أشهر عن ساحل حضرموت بفعل سيطرة "القاعدة"، ومغادرة معظم المسؤولين المشهد السياسي، باستثناء بعض التحرّكات للمحافظ، عادل باحميد، في العاصمة السعودية الرياض، لتوفير الخدمات الأساسية للمحافظة. كما لَزم السواد الأعظم من الموظفين بيوتهم، بانتظار رواتبهم. أما مديريات الوادي، فشهدت شللاً في الجهاز الحكومي، خصوصاً السلطة المحلية المركزية، على الرغم من خضوع الوادي عسكرياً للسلطات الشرعية.
في غضون ذلك، تراجع دور الأحزاب السياسية، فلم تصدر فروعها في حضرموت أي بيانات توضح مواقفها من التطورات السياسية والأمنية التي شهدتها المحافظة. وسبق لحزب "الإصلاح" الذي يُسجّل حضوراً نسبياً في المحافظة، أن أوضح موقفه في شهر إبريل/نيسان الماضي، من عدم المشاركة في "المجلس الأهلي"، الذي يدير شؤون مدن الساحل الخدمية. واقتصر عمل "الإصلاح" على الإدلاء بتصريحات مقتضبة لبعض قياداته وإصدار بيانات أخرى عن حالات اعتقال وعقد مناسبات اجتماعية.
أما "المؤتمر الشعبي العام"، الذي يقوده المخلوع صالح، فلزم الصمت، ولا تزال مواقف قيادات الحزب وأعضاء لجنته الدائمة، الذين ينتمون للمحافظة يكتنفها الغموض. وعلى طريقة "المؤتمر" غابت الأحزاب الصغيرة الأخرى عن المشهد تماماً.
في المقابل، يتصاعد دور القبيلة بشكل لافت، بعد أن كان دورها، خلال الفترة الماضية، مسانداً لا مباشراً. في الشقّ العسكري، تسيطر القبائل على هضبة حضرموت، التي تتواجد فيها معظم الشركات النفطية، فضلاً عن التنسيق بينها وبين التحالف العربي بواسطة الإمارات، عبر تجنيد مئات الشباب في معسكر تدريبي في منطقة رماه الصحراوية.
وعلمت "العربي الجديد"، أن "أغلب منتسبي هذه المعسكرات هم من أبناء القبائل، في حين لم تجد الفئات الأخرى طريقها إلى القبول في هذه المعسكرات". وتمّ اختيار كتيبة من هذه القوات لحماية الشركات النفطية، بعد أن تعرّضت لعمليات نهب طيلة الأشهر الماضية. وفي هذا الإطار، تربط "حلف قبائل حضرموت" علاقة جيدة بقائد المنطقة العسكرية الثانية، اللواء عبدالرحيم عتيق، ففي تصريحات قيادات في الحلف، فإن تعيين عتيق جاء باقتراح من الحلف.
سياسياً، يتحرك زعماء قبائل بشكل مكثف، خصوصاً في مديريات وادي حضرموت، لضمان حضور قوي لهم في مؤسسات الدولة مستقبلاً. وحملت القرارات الأخيرة للرئيس عبدربه منصور هادي، التي قضت بإجراء تعيينات في وادي حضرموت، صبغة التوازنات القبلية، فوكيل المحافظة من قبيلة آل الكثيري، أما الوكلاء المساعدون فيمثلون قبائل بني تميم والنهدي واليافعي.
أما في مدن الساحل، فكثّف ما يُسمّى بـ"اتحاد قبائل نوح وسيبان" من نشاطه، وساند بقوة "المجلس الأهلي" الذي يدير الشؤون الخدماتية في مدينة المكلا. كما ساهم في حلّ عدد من القضايا من خلال تأدية دور الوساطة، كتدخله، أخيراً، في حادثة قتل، تورّط فيها أحد عناصر "القاعدة"، وتم التحكيم فيها لأحد العلماء.
ويترأس معظم المؤسسات الأمنية والمدنية المهمة في حضرموت، مسؤولون يتحدرون غالباً من إحدى القبائل البارزة، وأحياناً تظهر نتائج سلبية لهذه الطريقة في التعيينات، التي يغلب عليها التركيز على نسب وأصل المسؤول لا على مؤهلاته.
تاريخياً، تعرّضت القبائل في حضرموت لإجراءات قاسية أثناء حكم الحزب الاشتراكي جنوب اليمن، قبل إعلان الوحدة عام 1990. الأمر الذي استغلّه صالح بعد توحيد شطري اليمن، فسعى إلى اللعب بورقة القبيلة وتناقضاتها وكسب ولاء مشايخ معظم القبائل في المحافظة، الذين أسهموا في تثبيت حكمه وفوز مرشحي حزبه في مختلف الدورات الانتخابية، لكن تحالفه مع الحوثيين جعل كثيراً من أبناء القبائل يراجعون حساباتهم ويؤيدون تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية.
وفي الأزمة الحالية، ظهرت نتائج سلبية لسيطرة القبيلة على الشركات النفطية، بفعل عدم محاسبة المتورطين في عمليات النهب التي طاولتها، مما أفقد ثقة الشارع في القبيلة، غير أن مصادر قبلية تُشدّد لـ"العربي الجديد"، على أن "هذه التصرفات مردها عدم مكافأة الحراسات القبلية".
ويرى محللون سياسيون، أن "محاولة القبائل الهيمنة على المناصب الحساسة والمعسكرات الجديدة، سيفرز المجتمع طبقات ويزرع ألغاماً مجتمعية على طريق مستقبل المحافظة". بينما يقلّل آخرون من هكذا مخاوف، مرجعين سبب الحضور القبلي إلى استناده لقوّة عسكرية، تضمن عدم عرقلته أو تهديده في ظل الانفلات الأمني الذي تشهده المحافظة.
وفي السياق ذاته، يقول المتخصص في العلاقات اليمنية الخليجية، صالح بازياد، لـ"العربي الجديد"، إن "حضرموت عُرفت تاريخياً بوحدتها الثقافية والحضارية، ومرجعيتها التراثية المتسقة مع طبيعتها السلمية الهادئة. بالتالي لم يكن التنوّع المجتمعي يوماً أداة لتقسيم المجتمع إلى فئات مختلفة، كون مرجعية الكل وسطية واجتماعياً متداخلة".
ويضيف بازياد أنه "يجب أخذ التعيينات الأخيرة في هذا السياق، مع التركيز مبدئياً على كفاءة شاغلي تلك المراكز، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية". ويلفت إلى أنه "مرّ بهذه الوظائف الحكومية خليط واسع من المجتمع الحضرمي، ينتمي لكل الفئات الاجتماعية الموجودة على امتداد حضرموت".
من جهته، يعيد المتحدث الرسمي باسم "مجلس شورى قبائل الصيعر" لطفي بن سعدون، الحضور القبلي إلى "التلاحم والتعاضد والمناصرة بين أفراد القبيلة، الذين يقودهم رأس واحد هو مقدّم القبيلة، بخلاف المكونات المدنية التي تضم خليطاً قبلياً وأفراداً غير متجانسين، وليست لهم قيادة واحدة إلا بواسطة الأحزاب، التي تراجع دورها في ظلّ غياب الدولة".
ويوضح بن سعدون في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "تراجع دور الأحزاب يعود لا رتباطها بمركز الدولة في صنعاء، الذي تهاوى بفعل الحرب، ليتعزز نفوذ القبيلة كمُعبّر عن طموح الحضرميين. وهو ما يجعل التحرّكات القبلية تسيطر على المشهد السياسي في حضرموت". ويشير إلى أن "القرارات الأخيرة للرئيس هادي، استندت إلى هذه الرؤية بهدف الاستفادة من قوة القبيلة وحضورها الفاعل أكثر من الأحزاب". ويرى أن "التركيز بات على أبناء القبائل في انتداب الأفراد لمعسكرات التدريب، وفقاً لرؤية التحالف العربي لتسريع الحشد العسكري ضد الحوثي والمخلوع صالح وكسب ولاء القبائل التي يدين بعض مشايخها لصالح". ويرجّح أن "تشهد الأيام المقبلة فتح المجال للمواطنين الآخرين للتدريب، بعد ضمان ولاء القبائل الرئيسية في حضرموت". ويستبعد بن سعدون أي "نتائج سلبية أو تهديد في المستقبل لهذه الإجراءات، بل ستزيد هذه الخطوات من تلاحم أبناء حضرموت بكل مكوّناتها وستُقلّص من تبعيتها للآخرين".
أما الناشط السياسي، أحمد بادباه، فيرى أن "أغلب التعيينات والقرارات الرئاسية، خصوصاً في المحافظة، ترتكز على مراضاة القبائل وتتجاهل معيار الكفاءة والنزاهة ". ويعتقد بادباه أن "استناد القرارات للقبيلة أحياناً يعود لحماية المسؤول شخصياً من بعض التنظيمات كالقاعدة".
ويلفت في تصريحه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الكثير من أبناء الطبقات الأخرى هُمّشوا، خصوصاً في ملف التجنيد في المعسكرات التدريبية، على الرغم امتلاك عدد منهم مؤهلات علمية في حين قبل بعضهم بدون مؤهلات".