شهدت العلاقة بين جماعة الحوثي المرتبطة بإيران، والنظام السابق، سواء في عهد المخلوع علي عبدالله صالح أو الحالي عبد ربه منصور هادي، الكثير من المد والجزر، فقد حاول صالح عند بداية نشأة ما عرف ب«منظمة الشباب المؤمن»، والتي عرفت لاحقاً باسم «حركة الحوثي»، ثم «أنصار الله» تماهياً مع حزب الله اللبناني، احتواء الحركة لصالح أجندته السياسية، خاصة وأنه من كان وراء تغذية هذه الحركة في مطلع التسعينات والدفع بها إلى واجهة الصراع الديني مع جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا لا يزالون شركاءه في الحكم.
كان المخلوع صالح يعتمد في سياسته لاحتواء تمرد جماعة الحوثي على المراوغة والتذاكي ومحاولة توظيف الأوراق التي تقع تحت يده من أجل البقاء في السلطة لفترة أطول، وكان دائماً ما يتفاخر بأنه ماهر في «الرقص على رؤوس الثعابين»، ولهذا كان يعمل باستمرار على إبقاء جذوة الصراع مع خصومه مشتعلة، وإذا ما اشتعلت جبهة أخمدها وأشعل أخرى كانت هادئة، حيث كان يسير صالح في أربعة خطوط للبقاء على أبواب الصراعات المفتوحة مع خصومه، وهي: جماعة الحوثي، تنظيم القاعدة، الحراك الجنوبي والقبائل.
كان صالح يغذي الصراعات بهدف إبقاء اليمن رهينة للأزمات، فقد كان يدير النظام بالأزمات، وهي اتهامات تؤكدها الكثير من الوقائع، خاصة مع جماعة الحوثي، حيث كانت الحروب التي تدور بينه وبينهم تشتعل فجأة وتنتهي فجأة أحياناً بمكالمة هاتفية لقادته العسكريين في الميدان، إذا ما شعر بأن الجيش اقترب من وضع حد لتقدم الجماعة أو انهيارها.
اتفاقيات على ورق
خلال الحروب الستة التي خاضها المتمردون الحوثيون ضد نظام الرئيس المخلوع علي صالح ومن ثم الرئيس عبد ربه منصور هادي، جرى التوصل إلى عدد من الاتفاقيات بواسطة لجان أرسلها صالح إلى قادة الجماعة المتمردة، بالإضافة إلى لجان أخرى أرسلها الرئيس هادي، إلا أن أياً من هذه الاتفاقيات لم تنفذ، ويعود ذلك إلى أن المتمردين كانوا يدركون أن مثل هذه الاتفاقيات لا يمكن لها أن تصمد في ظل معرفتهم بأن صالح لا يريد من هذه الاتفاقيات سوى استراحة محارب، تماماً كما حدث عام 2006 أثناء الانتخابات الرئاسية التي تم خلالها تجميد كل العمليات العسكرية في صعدة، وحصد فيها المخلوع أعلى نسبة من الأصوات.
وفي الحقيقة أن هذه الخطوة كان يراد منها إبرام صفقة مؤقتة للطرفين، فبالنسبة لصالح كان يرغب في أن يكون تصويت صعدة له رسالة إلى منافسيه السياسيين ودليلاً على قدرته على الإمساك بكل خيوط اللعبة، وبالنسبة للحوثيين فقد كانت لهم هذه الخطوة بمثابة التقاط أنفاس لإعادة ترتيب أوضاعهم العسكرية بعد خسارتهم لجولتين سابقتين خلال عامي 2004 و2005.
كان لجوء صالح ومن ثم هادي إلى أسلوب الوساطات كحل لإيقاف المواجهات بأقل الحلول الممكنة وبأسلوب ترقيع المشكلة وليس حلها من جذورها، وقد برزت ظاهرة إرسال الدولة لجان الوساطات الرئاسية، سواء كانت ذات طابع قبلي، أو عسكري خلال الأعوام السابقة من حكم صالح ومن بعده هادي، بما فيها القضايا ذات الانعكاسات الخطيرة مثل ظاهرة خطف الأجانب، التي كانت تستنزف من الدولة ملايين الدولارات تعطى للوسطاء من دون أن تكون هناك نتائج كبيرة تنجز على الأرض.
وفي حين اتهم صالح بأنه يجازف بالجيش في معارك يدرك سلفاً أنها خاسرة، اتهم الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي باتباع سياسة إبقاء الجيش، ومؤسسات الدولة كطرف محايد ووسيط بين الأطراف المتحاربة، واللجوء إلى مراضاة الجماعات المسلحة، كما حدث في عمران، عندما سمح للحوثيين بالانقضاض على الجيش ومن ثم الوصول إلى صنعاء، والتي منع الجيش من التصدي لهم من منطلق عدم إشعال حرب أهلية، وفي نهاية المطاف اندلعت الحرب الأهلية وغاب الجيش عن لعب الدور المناط به بموجب الدستور.
ووصل الأمر إلى التعامل مع الأحداث، التي لها علاقة بالاعتداء على مؤسسات الدولة، ومراكز الجيش والأمن، عبر لجان وساطة تصل نتائج بعضها إلى إخراج الجيش من المدن وتركها للقبائل من أجل إنهاء مشكلة المواجهات، كما حدث خلال الأشهر التي سبقت سقوط العاصمة صنعاء في 21 من سبتمبر/أيلول العام الماضي.
ضياع هيبة الدولة
أدت هذه الطريقة في التعاطي مع القضايا الكبيرة، أي عبر الوساطات القبلية واللجان العسكرية والرئاسية إلى فقد اليمنيين ثقتهم بالدولة وبجيشهم، حيث وجه هذا الأسلوب في التعامل مع الأحداث والمشاكل ضربة قاصمة في ثقة المواطن بالجيش ومؤسسات الدولة.
ويرى الشيخ علوي الباشا، وهو أحد المشايخ القبليين الذين شاركوا في الوساطات المختلفة بين النظام والحوثيين لإنهاء مأساة دماج بصعدة أن «الإفراط في لجوء الدولة إلى لجان الوساطات يأتي على حساب هيبتها»، ويشير إلى أن اللجوء إلى خيار لجان الوساطة من قبل الدولة يعد في بعض الأحيان ضرورة نظراً لطبيعة الأوضاع المختلة، وإلا فإن المفترض أن تكون مؤسسات الدولة هي المعنية في حل كل تلك المشكلات»، ويعتبر الباشا أن «لجان الوساطة تعد بمثابة تدخل سريع لإعطاء الحكومة فرصة للتعاطي الأمثل مع الأحداث الطارئة التي تحدث».
ويعارضه في ذلك المحلل السياسي عبد الملك شمسان الذي يرى أن هذه الوسيلة ليست في صالح النظام والقانون وإعادة هيبة الدولة، التي لم تعد قادرة على اتخاذ أي موقف حاسم تجاه القضايا، التي تنشأ هنا أو هناك، فترجع إلى هذا الشكل من التعامل بالوساطات».
في كل الاتفاقيات التي جرت بين النظام السابق والحوثيين كان الفشل هو العنوان الرئيسي لها، فلم تصمد أي اتفاقية وقعت بين الطرفين، سواء كانت قبلية أم رئاسية أم عسكرية، وتحولت في نهاية المطاف إلى مجرد اتفاقيات على ورق. معظم الاتفاقيات التي توصلت إليها لجان الوساطة الرئاسية كانت لا تصمد لأكثر من أسبوع، وبعضها كان ينهار منذ الساعات الأولى لتوقيعها، كما حصل في اتفاقية السلطة عبر لجنة رئاسية وقبلية لوضع حد للأوضاع الملتهبة في عمران قبل سقوطها بأسابيع في أيدي الحوثيين وأنصار صالح من رجال القبائل ودعم من قوات الحرس الجمهوري.
وعلى الرغم من أن هادي كان يدرك أن الحوثيين لا يلتزمون بأي اتفاق معهم، فقد كان يرسل المزيد من لجان الوساطة بما يترتب على ذلك من أموال تنفق على لجان الوساطة باستثناء بعضها التي عملت جاهدة لحل الأزمات التي كانت تلوح في الأفق.
تاريخ طويل من الفشل
يمكن رصد بعض محطات الهدنة المؤقتة للصراع بين المخلوع صالح والمتمردين الحوثيين من جهة وبين هادي والحوثيين من جهة ثانية، وقد كان عنوان هذه المحطات الفشل، حيث تمتد هذه الاتفاقيات إلى عشرة أعوام عندما بدأت أولى الحروب الست بين نظام المخلوع والحوثيين.
كانت أول لجنة وساطة مع ميليشيا جماعة الحوثي في شهر يونيو/حزيران من عام 2004 عندما شكل المخلوع صالح، لجنة وساطة موسعة من المشائخ والعلماء والشخصيات الاجتماعية والسياسية وقيادات الأحزاب للالتقاء بمؤسس جماعة الحوثي حسين بدر الدين الحوثي إبان الحرب.
ورغم نزول اللجنة إلى صعدة وانقسامها إلى فريقين الأول مع المؤسسين للحركة وأبرزهم بدر الدين الحوثي، والثاني مع المقاتلين الميدانيين وعلى رأسهم مؤسس الحركة حسين الحوثي، في محاولة لإقناعهم بوقف الحرب، إلا أن جهود اللجنة باءت بالفشل لتستمر الحرب التي انتهت في التاسع من شهر سبتمبر/أيلول من عام 2004 بمصرع حسين الحوثي في مران، حيث نصب له أنصاره لاحقاً مزاراً يشبه المزارات الدينية في إيران.
في أبريل/ نيسان من عام 2005، شكل المخلوع صالح ثاني لجنة وساطة حكومية وقبلية رأسها القاضي العلامة أحمد محمد الشامي إبان اندلاع الحرب الثانية وباءت جهودها وما خلصت إليه من اتفاقات بالفشل كون الحرب عادت مرة أخرى واندلعت للمرة الثالثة.
وفي مارس/آذار من عام 2006 وقفت الحرب الثالثة في صعدة بفعل اتفاقات رعاها محافظ صعدة آنذاك اللواء يحيى الشامي والتي كان من ورائها صفقة انتخابية بهدف إنجاح انتخابات الرئاسة في سبتمبر من العام نفسه الذي فاز فيها الرئيس المخلوع، لكنها لم تحل دون اندلاع الحرب الرابعة، التي اندلعت في يونيو 2007 بعد التوصل إلى اتفاق بين السلطة وميليشيا الحوثي ونص على هدنة ووقف إطلاق نار برعاية قبلية، لكن لم يتم توقيع الاتفاق واعتبر تفاهماً حتى اندلعت الحرب من جديد.
في الرابع من شهر مايو/أيار 2008 وعبر وساطة محلية وقبلية تزامناً مع الحرب الرابعة نجحت الوساطة في إيقاف المواجهات والاتفاق على تنفيذ الاتفاق الذي رعته العاصمة القطرية الدوحة، وفي الثاني من شهر فبراير/شباط من عام 2009 وقع المستشار السياسي للرئيس السابق د. عبد الكريم الإرياني مع ممثل الحوثي آنذاك صالح هبرة اتفاقاً رعته الحكومة القطرية ينص على وقف التمرد الحوثي وعلى عودة كافة المناطق التي تمردوا فيها إلى حضن الدولة ،على أن تقوم دولة قطر بالتعويضات وإعادة إعمار صعدة من خلال صندوق خاص بمئات الملايين من الدولارات، إلا أن ذلك لم يحل دون اندلاع الحرب الخامسة.
في الثالث من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2009 تم الإعلان عن نجاح وساطة قبلية في إيقاف الحرب الخامسة وإيقاف المواجهات في صعدة إلا أن المواجهات سرعان ما عادت لتندلع بعدها الحرب السادسة في أواخر 2009 وأوائل 2010. وفي العشرين من يناير/كانون الثاني 2010 قرر المجلس التنفيذي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التوسط لإيقاف الحرب الدائرة بين الدولة والميليشيا الحوثية وكلف المجلس العديد من رموز علماء المسلمين من ضمنهم، عبدالله بن بيه وسلمان العودة وأحمد الخليلي ومحمد علي تسخيري ود. علي قرة داغي، إلا أن جهودهم باءت بالفشل، وفي التاسع من شهر فبراير/شباط تم الإعلان عن اتفاق الهدنة بين الحكومة والحوثيين لتنتهي الحرب، إلا أن ذلك لم يتم تطبيقه وفي السابع من يوليو/تموز من العام نفسه أعلنت الحكومة وعلى لسان نائب رئيس الوزراء للدفاع والأمن ووزير الإدارة المحلية حينها الدكتور رشاد العليمي توصلها إلى اتفاق مع ميليشيا الحوثي لوقف الحرب السادسة.
ولم تأت الحرب السادسة إلا وكان التمدد الحوثي قد وصل إلى كامل محافظة صعدة وحرف سفيان بمحافظة عمران، البوابة الشمالية للعاصمة صنعاء، فيما تمت إزاحة الميليشيا الحوثية من مديرية بني حشيش وأقصي مسلحوها من محافظتي الجوف وحجة، ومع ذلك ظلت صعدة تحت سيطرة الدولة شكلياً حتى اندلعت الثورة الشبابية عام 2011.
في عام 2010 تم إحياء الوساطة القطرية للمرة الثالثة إلا أنه وفجأة، وبعد اتفاق غير معلن بين السلطة والحوثيين، تم تحييد الدور القطري مجدداً وكانت السلطة قد أعلنت عن اتفاق إطلاق نار في حرف سفيان في 11-8-2010، وفي 12أغسطس/آب تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ما بين ميليشيا الحوثي وقبائل الجوف برعاية تكتل اللقاء المشترك وأنصار الثورة والمجلس الوطني للثورة من خلال لجنة برئاسة الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي يحيى أمين أبو أصبع، إلا أن اللجنة لم تنجح في إيقاف الحرب.
ولم يخرج المخلوع صالح من السلطة إلا وكان الحوثيون قد بدأوا العدة لفصل جديد من فصول الألاعيب التي مارسوها مع نظام صالح ليكرروها مع الرئيس عبد ربه منصور هادي، وهي الألاعيب التي أدت إلى التهام مؤسسات الدولة بتنسيق كامل ودعم كبير من المخلوع الذي أراد الانتقام من خصومه الذين أسقطوه في 2011، ليقع في أكبر أخطائه بتسليم رقبة الدولة واليمن بأكمله إلى عصابة لم تقم بشيء أكثر من تدمير النسيج الاجتماعي والمذهبي لأكثر من 25 مليون نسمة.