المصادفة وحدها قادت طالبة دكتوراه في جامعة برمنغهام إلى كنز تاريخي، ظلّ مهملاً في أحد أركان مكتبة الجامعة عشرات السنين. فقد عثرت الباحثة، ألبا فيديلي، على صفحات غير متتالية من مصحف، تبيّن بعد فحصها بتقنية الكربون المشع، أن عمرها يبلغ نحو 1370 عاماً، وهو ما قد يجعلها من أقدم نسخ المصحف في العالم. وقالت إدارة الجامعة، إن هذا الاكتشاف المثير تمّ بمحض الصدفة بعد أن ظلّت الصفحات محفوظة حوالي مائة سنة على رفوف مكتبة الجامعة ضمن مجموعة أخرى من كتب ووثائق عن الشرق الأوسط، ومن دون أن يلتفت إليها أحد. وقد وصفت صحيفة "الأندبندنت" البريطانية الكشف بأنه حدث "سيلقي ضوءاً جديداً على تاريخ القرآن".
خضعت المخطوطات التي لم يكن أحد يعرف أنها صفحات من أقدم نسخ المصحف في العالم، إلى الكشف عن طريق الكربون المشع لتحديد عمرها. ونقلت "بي بي سي" عن مديرة المجموعات الخاصة في الجامعة، سوزان ورال، قولها، "لم يكن يخطر ببال أحد من الباحثين أن الوثيقة قديمة إلى هذا الحدّ، وأن امتلاك الجامعة صفحات من المصحف قد تكون هي الأقدم في العالم أمرٌ غاية في الإثارة".
وبيّن الفحص الذي أجري في وحدة تقنية الكربون المشع في جامعة أوكسفورد، أن النصّ مكتوب على قطع من جلد الغنم أو الماعز، وأنها من بين أقدم نصوص القرآن المحفوظة في العالم. واستطاع الباحثون تقدير عمر المخطوطة لما بين 568 و645 ميلادية، ما يعني أن المخطوطة، قد يكون كتبها أحد الصحابة، ممن عاصروا النبي محمّد. وبحسب التأريخ الإسلامي، فقد كُتب القرآن على جذوع النخل وجريدها وجلود الغنم وعظام الجمال، بينما كان يُنزّل على النبي محمد بين عامي 610 و632 ميلادية، فيما جُمع القرآن في مصاحف كاملة حوالي 650 ميلادية في عصر الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
والقياس بالكاربون المُشع ليس جديداً، إذ اكتُشفت هذه التقنية في الأربعينيات من القرن الماضي، إلا أنها لم تستخدم حتى بدايات الألفية الجديدة، بسبب ارتفاع هامش الخطأ في نتائجها، إلا أن التقنيات الحديثة أوصلت دقّة قياس العمر الزمني بالكاربون لأكثر من خمس وتسعين في المائة.
وتكمن الفكرة في استخدام نظير مشعّ للكاربون لحساب العمر على حساب الكمية المفقودة من عنصر الكربون- 14، منذ وفاة الكائن الحي مقارنة بالعنصر -12، لأن الكربون- 14، عنصر مشعّ يضمحل بمعدل ثابت مع الزمن من خلال إطلاق جسيمات "بيتا"، ولا يتمّ تعويضه، كما هو الحال بالنسبة للكائن الحي، بينما يبقى الكربون- 12، ثابتاً في جسم الكائن قبل الوفاة وبعده، وبقياس نسبة الكربون- 14، إلى الكربون- 12، يمكن حساب عمر العينة.
واهتم الموقع الإلكتروني لجامعة برمنغهام بنشر صور واضحة للمخطوطات التي عُثر عليها، وقد ظهر معظمها في حالة جيدة، كما ظهرت بعض الصفحات، وقد تعرضت للتلف بفعل الزمن وسوء الحفظ. وبعد الاطلاع على بعض الصور لصفحات المخطوطات القرآنية التي نُشرت على الموقع الإلكتروني لجامعة برمنغهام، تبين لـ "ملحق الثقافة" أن واحدة منها تعود إلى صدر سورة "المائدة" حتى نهاية الآية (4)، ومخطوطة أخرى تظهر الآيات (74) الى (90) من سورة الأنعام، وهناك مخطوطات أخرى لأجزاء من "سورة مريم" و"سورة طه" و "سورة الكهف".
ونقلت صحيفة "الأندبندنت" البريطانية عن البروفسور ديفيد توماس، الأستاذ المختص في المسيحية والإسلام في جامعة برمنغهام قوله، إن "هذه النصوص قد تعيدنا إلى السنوات الأولى من صدر الإسلام". إذ تشير السيرة النبوية إلى أن الوحي أنزل، على الرسول محمّد، بين عامي 610 و632 للميلاد، وهو تاريخ وفاته. ويضيف البروفيسور توماس أن "العمر التقديري لمخطوط برمنغهام يعني، أنه من المحتمل جداً أن كاتبه قد عاش في زمن النبي محمّد".
وقال البروفيسور توماس، إن بعض نصوص "الوحي" كُتبت على رقائق من السعف أو الصخور أوالجلود وعظام أكتاف الجمال، وإن نسخة نهائية من المصحف جُمعت في عام 650 ميلادية. وأشار إلى أن "هذه الأجزاء من القرآن التي كتبت على هذه الرقائق، يمكن، وبدرجة من الثقة، إعادة تاريخها إلى أقلّ من عقدين بعد وفاة النبي محمد". ويرجّح البروفيسور توماس أن يكون الشخص الذي كتب هذه النسخة من القرآن قد عاصر الرسول محمّداً.
وأضاف: "أن هذه الصفحات قريبة جداً من القرآن الذي نقرأه، اليوم، وهو ما يدعم فكرة أن القرآن لم يعرف تغييراً أو تحريفاً. ويمكن إعادة تاريخها إلى لحظة زمنية قريبة جداً من الزمن الذي يعتقد بنزوله فيه".
وكُتب النصّ بخط حجازي، وهو من الخطوط العربية الأولى، الأمر الذي يجعل الوثيقة واحدة من أقدم نسخ القرآن في العالم.
ويقول خبير المخطوطات في المكتبة البريطانية، الدكتور محمد عيسى والي، إن هذا "الاكتشاف المذهل" سيدخل "السعادة في قلوب" المسلمين. وقال الدكتور والي، المتخصص البارز في المخطوطات الفارسية والتركية في المكتبة البريطانية، إن هاتين اللفافتين، المكتوبتين بخط يد حجازي جميل ومقروء بشكل مدهش، تعودان بكلّ تأكيد إلى زمن الخلفاء الثلاثة الأوائل".
ويرجح الباحثون في جامعة برمنغهام، حسب البيان الذي نُشر على الموقع الإلكتروني للجامعة، أن تكون المخطوطات جزءاً من مجموعة "منجنة" التي تضم أكثر من 3000 وثيقة، جمعها القس الكلداني، العراقي الأصل، ألفونس منجنة، الذي قام بثلاث رحلات بحثية إلى الشرق الأوسط في العشرينيات من القرن الماضي، بتمويل من الصناعي، إدوارد كادبري، الذي كان عضواً في مركز "كوايرك" لدراسة اللاهوت، ولم يكن انشغاله في تصنيع أجود أنواع الشوكلاتة، يصرفه عن شغفه بمعرفة الأديان.
وقد حمل منجنة، خلال زياراته، عشرات المخطوطات العربية والسريانية، وبعضها فارسية، حصل عليها بالشراء أو المبادلة أو الاستعارة، أو قُدمت له هدايا أو هبات، غير أن أهم ما عاد به منجنة، هو نسخة المصحف الشريف التي أعلنت جامعة برمنغهام أنها ستعرض ما عُثر على صفحات منها للعموم في أكتوبر/ تشرين أوّل المقبل.
ويرى الكاتب في صحيفة "الأندبندنت" البريطانية، بويد تونكن، أنه إذا ما صحّت نتائج الفحوصات التي أجرتها جامعة أكسفورد لتحديد عُمر نسخة القرآن التي عُثر عليها في مكتبة جامعة برمنغهام، وتأكد أن هذه المخطوطات كتبت في حياة الرسول محمّد، فإن ذلك يعني دحضاً لكثير من النظريات التي جاء بها باحثون ليأكدوا أن القرآن "لم يكتب أو يُجمع في حياة الرسول، بل تمّت كتابته بعد وفاته. ويقول الكاتب في صحيفة "الغارديان"، ميف كيندي، إن المخطوطة التي عُثر عليها بعد أن ظلّت مدفونة سنوات طويلة في مكتبة جامعة برمنغهام، ستُشكّل لحظة فارقة في التاريخ، إذ سيُعيد المؤرخون النظر في كل ما كُتب في السابق عن أن القرآن الكريم لم يُكتب في حياة الرسول محمد، الذي عاش من عام 570 الى عام 632 للميلاد، وإن كل ما تلاه من القرآن على أتباعه ومريديه، قد تمّ تناقله شفهياً وليس مكتوباً، وربما يصبح مقبولاً أن يكون بعض القرآن قد كُتب على جذوع النخل وجلود الغنم وعظام الجمال قبل وفاة الرسول. واعتبر أستاذ العلاقات بين الأديان في جامعة برمنغهام، نادر دنشو: "أن فحص المخطوطات بالكربون المشع قد حقق نتيجة مذهلة، وكشف أحد الأسرار الأكثر إثارة للدهشة. وقد يأخذنا هذا الاكتشاف الى السنوات الأولى من ظهور الدعوة الإسلامية".
ويرى الباحثون، أن اكتشاف "مخطوطات برمنغهام" من القرآن الكريم، سيدحض كذلك الاعتقاد الذي كان سائداً بأن "أقدم نصوص قرآنية" يعود إلى خمسة عشر ألف لفافة عُرفت باسم "قرآن صنعاء"، وتمّ العثور عليها في عام 1972 في جامع صنعاء الكبير، وهي مكتوبة بالخط الحجازي أيضاً. وقد أرجع البروفسور الألماني، غيرد بوين، تاريخها إلى حوالي تسعين سنة بعد عام وفاة الرسول.
وقالت سوزان ورال، مدير المجموعات الخاصة في مكتبة الأبحاث كادبوري، في جامعة برمنغهام: "لقد أظهرت فحوصات الكربون المشع نتيجة مثيرة، الأمر الذي سيُساهم بشكل كبير في فهمنا للنسخ الأقدم من القرآن الكريم المكتوب".
*العربي الجديد