في مكالمة هاتفية يوم الثلاثاء الماضي، أخبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أن الحكومة الأمريكية سوف تفرج عن صفقة الأسلحة التي أوقفت إرسالها لمصر منذ أكتوبر 2013، كما أخبره أنه سيستمر في طلب المساعدة العسكرية السنوية المقدر قيمتها بـ 1,3 مليار دولار أمريكي لمصر.
وصفقة الأسلحة التي تتضمن 12 طائرة من طراز “أف – 16″، و20 صاروخا هاربون، و125 دبابة إم بي إيه 1، والتي أعلن أوباما أنه سيبدأ تزويد مصر بها من 2018 المقبل، كان قد تم تعليقها بسبب القوانين الأمريكية التي تمنع إرسال المساعدات العسكرية “لحكومة غير منتخبة”.
قد يعجبك أيضا :
وبحسب ما جاء في مكالمة أوباما مع السيسي، سيكون هناك إنهاء لسياسة التمويل النقدي التي تستخدمها مصر في شراء وتكديس دبابات ومعدات لا تحتاج لها من وجهة النظر الأمريكية، في صورة إجراء مشتريات عسكرية أكبر، وبالتالي لن تكن هناك صفقات كبيرة مجددًا، ولن تكن هناك معدات باهظة الثمن، وإنما معدات تحددها أمريكا لامصر أخف حجمًا وأكثر تنقلًا، وأكثر تنوعا، وليست باهظة الثمن.
أما السبب الذي جعل أوباما يفرج عن الأسلحة لحكومة الرئيس السيسي، فيتعلق بمادة في قانون الموازنة الأمريكي لعام 2014 تسمح بالتنازل عن شرط “شهادة الديمقراطية” إذا كان ذلك في “مصلحة الأمن القومي الأمريكي” فما هي ما هي “مصلحة الأمن القومي الأمريكي” التي جعلتهم يخرقون قانون عدم إرسال أسلحة لدول ديكتاتورية؟
بحسب دراسات وخبراء استراتيجيين، عمدت الولايات المتحدة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد وتخصيص معونة سنوية عسكرية واقتصادية لمصر، لتغيير عقيدة الجيش المصري من الحرب مع إسرائيل باعتبارها هي “العدو الأول والأساسي” لكي يكون العدو هو “الإرهاب” تارة، والتيارات الإسلامية في الداخل تارة أخرى.
وبسبب سيطرتها على التسليح والمعونات وتحول مصر من الاتحاد السوفيتي شرقا إلى أمريكا غربا، فقد نجحت الخطط الأمريكية في التأثير على الجيش المصري تمويلا وتسليحا وتدريبا وعقيدة ونجحت إعادة تشكيله من جديد والتأثير على توجهاته وفق مصلحتها القومية، فأدخلت تغييرات جوهرية على بنية الجيش وأعادت تحديد عدوه كي لا يكون إسرائيل وأعادت تدويره إلى شركات الأسلحة الأميركية.
لهذا لا يمكن تصور أن تتوقف واشنطن عن دعم خطط تسليح وتدريب وتمويل الجيش المصري، وإلا تحول إلى روسيا، وهو الكارت الذي هدد به السيسي رغم أن مثل هذا التحول يحتاج لعشرات السنين بسبب طبيعة تسليح الجيش بقرابة 80% من المعدات الأمريكية، والأهم أن هذا الدعم العسكري له هدف استراتيجي أخر هو السيطرة على عقيدة الجيش وتوجهاته الحربية.
وأحد أهم هذه الأهداف الاستراتيجية -التي تعتبر من صميم الأمن القومي الأمريكي- هو ضمان ألا يكون في تفكير الجيش المصري محاربة إسرائيل مرة أخرى، بل والتعاون معها ضد “الإرهابيين” وضد التيارات الإسلامية التي تشكل خطرا على الدولة الصهيونية والحكومات العربية غير المنتخبة على السواء.
أمن إسرائيل في المقدمة
ربما لهذا كشفت مصادر أمريكية أن الإدارة الأمريكية تخطط لإجراء تغييرات في برنامج المساعدات الموجهة لمصر في السنة المالية لعام 2018، وأن الولايات المتحدة لن تمنح مصر التمويل النقدي، والذي يُعد خط ائتمان يسمح لمصر بدفع صفقات الأسلحة على مدار سنوات متعددة (يستند ضمنيًا على وعد بتقديم المساعدة العسكرية المستقبلية) بدلًا من الدفع مقدمًا.
والأمر الأخير -سيناء- هو أكثر من يقلق إسرائيل وبالتبعية الولايات المتحدة، حتى إن تل ابيب كشفت أنها كانت وراء تكثيف الضغط علي إدارة أوباما لتسليم مصر 10 طائرات أباتشي كانت محتجزة أيضا عقب انقلاب 3 يوليو 2013، لاستخدمها في مطاردة عناصر بيت المقدس الذين كانوا يطلقون الصواريخ على المدن الإسرائيلية (إيلات) من سيناء، ثم انتقلوا لقتال الجيش المصري بعد منعهم وقتالهم.
ويقول روبرت سبرينجبورج، في حوار مع الموقع البحثي (مدى مصر) أجرته “إيزابل إيسترمن”، إن الإعلان الأمريكي الأخير بشأن تعديل المساعدات لمصر، يصب في خانة مصلحة الأمن القومي الأمريكي، حيث أرادت الولايات المتحدة على مدار سنوات “إعادة هيكلة الجيش المصري من كونه قوة عسكرية مصممة ومنشأة ومنتشرة في الأساس للمحاربة في المعركة الأرضية الكبيرة مع إسرائيل، ليصبح جيشًا أكثر فعالية في مواجهة ما تراه الولايات المتحدة مخاطرة أمنية رئيسة تواجه مصر“.
ويقول إن مبارك سبق أن رفض العرض الأمريكي بشأن التركيز على حرس الحدود ومكافحة الإرهاب والمراقبة البحرية والبحث والإنقاذ والمساعدات الإنسانية، وهي الأنشطة التي يحتاجها الجيش (من وجهة نظر أمريكية) ليصبح أكثر فعالية، بينما قبله السيسي على ما يبدو.
فقد بدأت المفاوضات عندما أصبح السيسي وزيرًا للدفاع، لذلك لم تشكل (مكالمة أوباما) للسيسي بشأن الإفراج عن الأسلحة الأمريكية المجمدة مفاجأة له، حيث “كان مشاركًا في الأمر بشكل مباشر وقدم موافقته على بدء إعادة الهيكلة“، بحسب سبرينجبورج.
ويضيف: “عرفت الإدارة المصرية كل هذه الامور، كما شاركوا في المناقشات، وأيدوها، خاصة في ضوء زيادة الأنشطة الإرهابية، والرغبة المصرية في إبراز قدراتها سواء في ليبيا أو اليمن أو أي مكان محتمل“.
ويقول إن: “الصفقة تتماشى مع مصالح الكونجرس وأوباما والسيسي والجيش المصري، وفي الوقت نفسه تمثل استرضاء للمهتمين بحقوق الإنسان في شكل بيان من أوباما يعبر فيه عن مخاوفه بشأن المحاكمات الجماعية واحتجاز النشطاء وتشجيع احترام الحريات المدنية“، و”إن الخاسرين الوحيدين هم المجتمع المدني المصري والحرية والديمقراطية في مصر“.
لذلك يقول “سبرينجبورج” إن: “اللجوء إلى روسيا من أجل شراء طائرات ميج-29، وللفرنسيين لشراء طائرات الرافال والفرقاطة البحرية، كانت مناورات سياسية دون أهمية عسكرية، ومصر تواجه الآن مجموعة مختلفة من التحديات غير المتماثلة أو المعتادة، التي لا يكفي جيشها الحالي أو أسلحة فرنسا لمواجهتها“.
ويؤكد: “إن إعادة هيكلة الجيش المصري ليصبح قوة أكثر تنقلًا وقادرة على التعامل مع التهديدات غير المتماثلة يمكن أن يحدث فقط مع الولايات المتحدة“، مشيرا إلى أن بداية إعادة الهيكلة للجيش المصري، كان من المفترض أن تحدث منذ اتفاقية 1979 مع إسرائيل، ليكون “أصغر حجما وأكثر استجابة للتهديدات الأمنية الفعلية، والجيش بتكوينه الحالي غير قادر على القيام بذلك، لذلك يمتلك السيسي كل الاسباب في العالم للعمل مع الولايات المتحدة بالطرق التي أشار إليها أوباما في إعلانه الأخير“.
وهو ما يعني أن إدارة أوباما ستولي اهتماما قليلا للديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي مستقبلا، وأن الأجندة الجديدة التي ستفرضها على الجيش المصري -بتمويلها وتدريبها وسلاحها- هي “مكافحة الإرهاب” في المنطقة بأكملها، ما يعني أيضا فك ارتباط صفقات السلاح الأمريكية لمصر بالسلام مع إسرائيل.
ما هو سبب التغييرات الآن؟
ولكن ما هو سبب إعلان هذه التغييرات الأمريكية فيما يخص تسليحها للجيش المصري الآن؟ وهل هذا مرتبط بحروب خارجية مثل حالة اليمن، برغم نفي مسؤولين أمريكيين لصحيفة نيويورك تايمز “أن الصفقة ليست مرتبطة بالوضع الحالي في اليمن“؟ وما الأسباب الإضافية التي تقف وراء توقيت الإعلان عن هذه التعديلات؟
الخبراء العسكريون الامريكان ينفون علاقة ذلك بحرب اليمن، ويقولون إن هذا مطلب أمريكي قديم، وأن وزير الخارجية جون كيري قال مرات عديدة، إن القرار سيأتي قريبًا، وهذا قبل أن يسيطر الحوثيون على اليمن وتبدأ السعودية هجومها، والأمر تطلب فقط بعض الوقت للتفاوض.
ولكن هناك من يرى أن هذا التوقيت المناسب ربما تأثر أيضا برغبة الولايات المتحدة في التعبير عن دعمها للعالم العربي السني، في وقت يبدو أنها سوف توقع اتفاقًا مع إيران.
تغيير عقيدة الجيش
وما لم يقله هؤلاء الخبراء العسكريون هو أن هذه الخطة الأمريكية هدفها الأساسي تغيير العقيدة القتالية للجيش المصري، وهو أمر سبق أن تحدث عنه الدكتور محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية المؤقت السابق علنا، وأنهم ينفذونها حاليا، وهي تغيير عقيدة الجيش المصري لتصبح هي مواجهة العدو الداخلي أو الخارجي غير إسرائيل، أو ما يسمى “الإرهاب”.
فمنذ اتفاقية كامب ديفيد، والولايات المتحدة، ممثلة بوزارة دفاعها، تعمل على الإمساك بالجيش المصري، تمويلًا وتسليحًا وتدريبًا وعقيدة، وأدخلت تدريجيا تغييرات جوهرية على بنيته، وأعادت تحديد عدوه، مسقطة بذلك إسرائيل من الأعداء، وهو الهدف الرئيس من برنامج الدعم الذي ترتب على اتفاقية كامب ديفيد.
ومنذ انقلاب السيسي، وهناك تقارير أمريكية تشير لأن طاقم السياسة الخارجية والأمن القومي في البيت الأبيض يري أن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بمثابة نقطة الارتكاز في مصر لتنفيذ هذا البرنامج الذي تحفظ عليه مبارك ومرسي سابقا، ويراه السيسي مناسبا للسيطرة على الجيش، والتخلص من القادة كبار السن عبر تشغيلهم في مشاريع الجيش الاقتصادية.
وقد كشفت دراسة ميدانية حول القوات المسلحة المصرية وعلاقات التعاون العسكري الأميركي ــ المصري أعدها “كينيث بولاك”، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ومدير قسم الخليج في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، مدى التخريب الذي مارسته الولايات المتحدة في كل فروع القوات المسلحة المصرية من خلال مستشاريها العسكريين والسياسيين منذ أن قرر الرئيس المصري أنور السادات عام 1979 الانتقال بمصر كليًا إلى صف الولايات المتحدة ووضعها في خدمة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
دراسة “بولاك” التي جاءت بعنوانك «أبو الهول والنسر: القوات المسلحة المصرية والعلاقات العسكرية الأميركية المصرية» قبل عدة سنوات، استندت إلى وثائق أميركية ومقابلات ميدانية مع ضباط مصريين وأميركيين كبار يؤكدون فيها حدوث تحول وانقلاب كامل في العقيدة العسكرية للجيش المصري ومهامه واستراتيجيته ومجمل خططه التي تقوم على اعتبار أن إسرائيل لا تشكل تهديدا له، كما لم تعد بالنسبة له هدفًا.
وقال “بولاك” إن الولايات المتحدة أرسلت في الفترة من 1990 إلى 1991 فريقا من خبراء البنتاغون لدراسة الجيش المصري من القمة إلى القاعدة وتقديم توصيات إلى الحكومة المصرية حول حاجته من المشتريات العسكرية وهيكلية الجيش.
وكان أول طلب تقدم به الفريق الأميركي هو إعداد خطة معركة متكاملة، وهو ما لم تستجب له قيادة الجيش المصري؛ نظرًا لأنه لم يسبق لهم إعداد ذلك، كما أن فهم القيادة العسكرية المصرية العليا للقوات المصرية كان خاطئًا أو غير مكتمل في عديد المجالات، بحسب “بولاك”.
وترى هذه الدراسة أن ما يهم الولايات المتحدة حول قدرات الجيش المصري هو أربعة أمور هي: الكيفية التي يكون فيها الجيش المصري جزءًا من استراتيجية الأمن القومي المصري، وما هي التهديدات التي تواجهها مصر، وكيفية استخدام الحكومة المصرية القوات المسلحة لمواجهة هذه التهديدات والوسائل التي سيتم تبنيها لاستخدام الجيش كأداة لسياستها الخارجية.
ويخلص “بولاك” في دراسته إلى أن “عدم الشعور داخل الجيش المصري بوجود تهديد مباشر قد أدى إلى انتشار الفساد داخل قياداته العليا“.
ويقول باحثون وخبراء ومسؤولون عسكريون أميركيون سابقون إن المساعدات العسكرية الأميركية السنوية للجيش المصري ساهمت في تعزيز بيروقراطية عسكرية في مصر أسفرت عن نمو شبكة من الصفقات الداخلية والفساد في الجيش.