كلما أصر النظام اليمني على الممانعة في إيجاد مخرج للأزمة القائمة في البلاد، اقترب الحل الخارجي أكثر وأكثر، فبعد تسعة أشهر أو يزيد، لا يزال الرئيس علي عبدالله صالح عند النقطة نفسها التي كان عليها بعد العاشر من شهر ابريل/نيسان الماضي، عند تقديم المبادرة الخليجية كحل من دول مجلس التعاون الخليجي لإخراج البلد من أزمته.
بغض النظر عن الحديث «الإيجابي نظرياً» عن المبادرة الخليجية وقبوله ونظامه وحزبه بها، إلا أن الرئيس صالح لا يزال يقف عند النقطة ذاتها، وهي الاستعداد للتوقيع مع شروط إضافية، حتى إنه أثقل المبادرة بشروط عديدة جعلتها في نظر الثوار الذين لم يبرحوا ساحاتهم منذ تسعة أشهر، وحتى أمام الرأي العام الإقليمي والدولي، مجرد لعبة يلهو بها الرئيس ورموز نظامه بمختلف الطرق.
لمن يقرأ التأريخ جيداً؛ فإن الرئيس صالح أضاع فرصاً عديدة للخروج من الوضع الذي يعيشه اليمن اليوم، فالمجازر التي ترتكب بشكل مستمر واستخدام القوة أملاً في إرهاق الخصوم وشباب الساحات لم تعد تجدي نفعاً، والخشية أن الأمور قد تسير إلى طريق لن يستطيع صالح أو أي شخص آخر أن يعيدها إلى النقطة التي عليها اليوم.
يريد صالح أن يؤكد أنه لاعب ماهر، وأنه يستطيع أن ينجو من عاصفة التغيير التي هبت على المنطقة، ولم يتعظ من الانهيارات التي حدثت لعدد من الأنظمة ولمصائر القادة العرب الكبار، الذين كان يعتقد الكثير، أنه ما من قوة قادرة على أن تزحزحهم عن الكراسي التي يتربعون عليها من عشرات السنين، القذافي مثالاً، صحيح أن صالح مشهود له بالكفاءة السياسية طوال الفترة التي حكم فيها، والممتدة لأكثر من 33 عاماً، إلا أن «ما زاد عن حده انقلب ضده»، لقد لعب صالح طوال السنوات التي حكم بها البلاد بقبضة حديدية ورسخ مفاهيم سيئة عن الحكم، إلا أنه لا يستطيع أن يلعب بنفس اللعبة إلى ما لا نهاية، فأوضاع اليوم ليست متشابهة مع أوضاع الأمس.
تثير مواقف صالح المتشبثة بالحكم الكثير من علامات الاستفهام، بخاصة أنه كان يقول أكثر من مرة إنه زهد بالحكم وحان الوقت للراحة، لكن الحقيقة تتأكد كل يوم بمواقفه وهي أن الرجل لا يتخيل نفسه خارج السلطة أبداً، وهو كلما تقدم خطوة إلى الأمام تراجع خطوتين وأكثر إلى الخلف.
لقد قال بعض السياسيين اليمنيين إن الرئيس صالح لو وقع على المبادرة الخليجية يكون قد وقع على قرار بإعدامه، لمن خبر الرئيس صالح يدرك ذلك تماماً، فهو يعلم أنه خسر السلطة بالفعل، فبعد خروج الملايين من الناس إلى الشوارع، لم تعد لشرعية صالح أي وجود أو أي اعتبار، الشرعية التي يدعي وبعض رموزه أنه يمثلها لم تعد ذات معنى بل إنها سقطت مع سقوط الأعداد الكبيرة من القتلى في القمع والعنف اللذين تعامل بهما النظام مع الاحتجاجات منذ أكثر من تسعة أشهر، والأفضل له ولنظامه أن يدركا أن الوقت قد حان للتغيير، ولم تعد المسألة مقتصرة على تغيير أشخاص بقدر ما هو مطلب شعبي عارم بتغيير النظام السياسي بأكمله.
كان بيد الرئيس صالح فرص كثيرة للحيلولة دون وصول الأوضاع إلى ما هي عليها اليوم، إلا أنه اعتقد أنه بمزيد من المناورة يمكن أن يكسب المزيد من الأشهر للبقاء في السلطة، لكن في حقيقة الأمر لم تزد مواقفه المتعنتة إلا وضعاً أسوأ لليمن، وعوضاً عن مكافأة هذا الشعب الصابر على تحمل نظامه ل 33 سنة، كافأه بمزيد من العقوبات، فقطع عنه معظم الخدمات من كهرباء ومياه، وأكثر وأسوأ من ذلك كله صار يدك أحياءه بالقنابل والصواريخ، مثلما يحدث في العاصمة صنعاء وتعز وأرحب اليوم، كما كان عليه الحال قبلاً في عدن والحديدة وصعدة وعمران وغيرها من المناطق.
في التقييم العام يجد الرئيس صالح نفسه في مواجهة مع شعب يريد الانعتاق من الوضع الذي يعيشه اليوم بعد 33 عاماً من حكم نمطي واحد لم يترك للشعب فرصة الخروج من عباءة الحكم الشطري للجمهورية العربية اليمنية وأدواتها الحاكمة.
لقد حكم الرئيس صالح بنفس العقلية التي جاء منها، أي أدوات الجمهورية العربية اليمنية، الشمال سابقا، وعمم هذا النمط من الحكم على دولة الوحدة التي تحققت في الثاني والعشرين من شهر مايو/أيار من عام،1990 على الرغم من أن الدستور تمت صياغته ليلبي حاجة اليمنيين في دولة موحدة تتفهم خصوصيات مجتمعين ظلا لسنوات طويلة محكومين بأداتين سياسيتين مختلفتين، بخاصة أن كل شطر كان متناقضاً في نظامه مع الشطر الآخر، فالجنوب كان يحكمه الحزب الاشتراكي اليمني، أما الشمال فإن المؤسسة العسكرية المتحالفة مع المؤسسة القبلية هي التي كانت تحكم، واستمرت في الحاكم حتى ما بعد الوحدة، وقد حان الوقت لبروز دولة مدينة حقيقية بعيدة عن هيمنة القبيلة والعسكر.
شرعية منقوصة
عندما يتمسك صالح بشرعيته الدستورية فإنه يدرك جيداً أن هذه الشرعية قد سقطت تماماً في مجزرة جمعة الكرامة في الثامن عشر من شهر مارس/آذار الماضي، عندما سقط فيها ما لا يقل عن ستين شهيداً من شباب ساحات التغيير، مثلوا كل اليمن، والدليل على ذلك أن الرئيس صالح نفسه كان قد بدأ يبحث عن مخرج سياسي لشرعيته، بعد أن قبل بالمبادرة الخليجية التي تنص في أحد أهم بنودها على تنحيه عن السلطة ورحيله عنها.
في الإجمال فإن الرئيس أراد أن يلعب على وتر التناقضات التي برع فيها خلال السنوات الطويلة من حكمه، إلا أنه هذه المرة لا يواجه ساحة سياسية داخلية، بقدر ما يواجه إرادة إقليمية ودولية تدعو إلى إعادة الأمور إلى نصابها، فبعد تسعة أشهر من الاحتجاجات والتظاهرات المتواصلة التي يخرج من خلالها ملايين المواطنين في كل مناطق البلاد، يشعر المجتمع الدولي أن الوقت قد حان لأن يأخذ التغيير طريقه في اليمن، فكلما تأخر الوقت كان الوضع أسوأ مما هو عليه اليوم، والرئيس وأركان حكمه يدركون ذلك جيداً، فاليمن يذهب إلى المجهول كلما زاد الرئيس إصراراً على تلبية شروطه التي لا تنتهي.
وعلى الرغم من أن قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، كان واضحاً لجهة ضرورة أن يجري التوقيع على المبادرة الخليجية، يتمسك النظام ببعض التفاصيل الصغيرة ويناور عليها عوضاً أن يطبق ما عليه من التزامات، على الرغم من أن صالح يدرك أنه في النهاية سيترك الحكم بشكل أو آخر، وقد تكون النتائج وخيمة على الجميع، غير أن تركه الحكم سيكون كارثياً هذه المرة، بخاصة أن الأمور في البلد لن تبقى على ما هي عليها اليوم أو كما كانت عليها قبل اندلاع ثورة الشباب السلمية.
إصرار صالح على الحل للأزمة القائمة بطريقة «عليّ وعلى أعدائي» سيجعل المجتمع الدولي يتدخل لمنع انزلاق البلد في أتون حرب أهلية، وربما أراد صالح أن يوصل الجميع إلى هذه النقطة الحرجة، بحيث يمنح المزيد من المناورات لبقائه في السلطة لفترة أطول. كما أن صالح، وهو يدرك خطورة اللعب على هذه القضية، يسعى إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من الضمانات لعدم ملاحقته وملاحقة أقاربه ورموزه في النظام للجرائم التي تم ارتكابها منذ انطلاق الثورة في شهر فبراير/شباط الماضي وحتى اليوم، إلا أن هذا المسعى لن يكتب له النجاح إذا ما أصر على اتباع الأسلوب نفسه الذي يتبعه في معالجة الأزمة.
التدخل الدولي إذا ما وقع، فإنه سيتجاوز المبادرة الخليجية، كما سيتجاوز التعامل المرن الذي يبديه أصحاب المبادرة مع الرئيس صالح انطلاقاً من عوامل عدة، فالمجتمع الدولي إذا ما أخرج المبادرة الخليجية من حساباته، لن يجد صالح مفراً من مواجهة مصير مشابه لمصائر رؤساء آخرين، القذافي نموذجاً، رغم ما يجري الحديث فيه عن «خصوصية يمنية»، تماماً كما كان يقول القذافي قبل مواجهة قوات الناتو.
لا أحد من اليمنيين يؤيد التدخل الأجنبي في شؤون بلادهم، إلا أن الأمر قد يفرض على الجميع فرضاً، وعند هذا الحد لن يجد المؤيدون أو المعارضون للنظام من بد من التعامل مع هذا التدخل، وهنا سيكون المسؤول الأول والأخير عن هذا التدخل هو الرئيس صالح نفسه، الذي لا يزال يعتقد أن بإمكانه التعاطي مع الأزمة بطريقة مختلفة وأنه سيخرج منها مثلما خرج من أزمة حرب عام 1994 عندما تجاوز قرارات مجلس الأمن الدولي ودخل مدينة عدن رغم تحذيرات دولية له بعدم فعل ذلك ورغم قرارين خاصين بشأن اليمن أصدرهما المجلس بهذا الخصوص.
الفرصة الأخيرة
يبدو أن المجتمع الدولي بدأ يستشعر خطورة الأوضاع التي يمكن أن تنجم عن استمرار الأزمة من دون حل أكثر من أي وقت مضى مع استمرار المراوحة في الحل من قبل النظام، الذي لا يزال يرفض التوقيع على المبادرة الخليجية التي جاءت لتلبي معظم مطالبه، لهذا جاء تحرك مجلس الأمن الدولي في الآونة الأخيرة لأخذ زمام المبادرة من خلال تبني المبادرة الخليجية وتدويلها، وهذا يعني أن الأسرة الدولية بدأت تدرك أن الحل الداخلي والإقليمي لم يعد يجدي نفعاً مع النظام.
ومنذ اتخاذ القرار 2014 من قبل مجلس الأمن الدولي بشأن اليمن جرت مياه كثيرة، إلا أن الثابت الوحيد الذي لم يتغير هو موقف النظام من القرار ومن المبادرة الخليجية نفسها، كل ما في الأمر أن النظام، كعادته، رحب بالقرار وأكد أنه قرار متوازن وإيجابي وتفهم طبيعة الأزمة اليمنية، كما قال الرئيس علي عبدالله صالح في حوار تلفزيوني بث الاثنين الماضي، وقال فيه إن دولاً كالولايات المتحدة الأمريكية أعادت التوازن إلى القرار الدولي وفرملت الاتجاه إلى الحرب الأهلية.
خلال شهر، استمرت أطراف الأزمة في التعاطي مع القرار الأممي بنفس المنوال الذي كان عليه الحال قبل اتخاذ القرار، فالمعارضة تتمسك بحقها في أن يوقع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية إنفاذاً لنصوص المبادرة الخليجية التي تدعو المعارضة وحلفاءها وحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم وحلفاءه والرئيس للتوقيع على المبادرة، أما صالح فقد ظل منذ 22 مايو/أيار الماضي يماطل في التوقيع مستخدماً عدداً من التبريرات المتصلة بتطبيق المبادرة على الأرض، على الرغم من أن المعارضة وقعت وكذلك حزب المؤتمر.
والواقع أن الرجل لا يريد التوقيع على المبادرة من الأساس، وبحسب تقييم المعارضة فإنه يريد أخذ الجميع إلى مربع العنف، فهو يدرك أن بتوقيعه على المبادرة يفقد الكثير، سواء الحكم أو الأنصار أو الحلفاء في الداخل والخارج، أو كما قال نائب رئيس البرلمان حمير الأحمر فإن صالح يعتقد أن بتوقيعه على المبادرة الخليجية كمن يوقع على قرار بإعدامه.
وهناك من يعتقد أن الرجل يريد فسحة من الوقت للإعداد لمواجهة عسكرية شاملة تكون مبرراً للمجتمع الدولي لوضع كافة الأطراف في سلة واحدة، واعتباره ما يحدث ليس ثورة ضد نظام، بل محاولة من أطراف سياسية للوصول إلى السلطة عن طريق العنف، وهو ما يفسر إقدام النظام على ارتكاب المزيد من الجرائم مع مرور كل يوم في أكثر من منطقة، سواء في العاصمة صنعاء أو في تعز أو أرحب، حتى يجبر الطرف الآخر، بخاصة الجانب العسكري المنشق عنه، الذي يقوده اللواء علي محسن الأحمر، إلى الدخول في مواجهات عسكرية شاملة، وهو ما لم ينجح فيه حتى اليوم.
لذلك يبدو قرار مجلس الأمن الدولي الأخير فرصة حقيقية لإعادة تقييم الوضع في اليمن، فالبلد لم يعد يحتمل المزيد من الخضات العنيفة، وهناك مخاوف من دخول البلد مرحلة خطيرة من المواجهات الدامية ومخاوف من أن تكون هناك قطيعة سياسية بين النظام ومعارضيه، مع ما تشكله هذه القطيعة من سلبية على الأوضاع في البلاد مستقبلاً.
وتبدو الأطراف الدولية، بخاصة اللاعبين الكبار، مصرة على إنجاز مهمتها المتمثلة في إيجاد المخرج الملائم للوضع القائم في اليمن اليوم، فهي تدرك أن استمرار الوضع من دون حل سوف يعرض أمن المنطقة بشكل عام للخطر.
من هنا يمكن فهم التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه بشأن درس فرض عقوبات جديدة من قبل دول الاتحاد الأوروبي على النظام من قبيل تجميد أرصدة وأموال الرئيس علي عبدالله صالح وكبار معاونيه في حال لم يتم التوصل إلى حل سياسي سريع، وهو ما أثار قلق النظام ومسارعته إلى التأكيد إلى أنه قبل بالقرار الدولي الخاص بالأزمة.
لذلك فإن اليمن مقبل خلال الأيام القليلة المقبلة على مرحلة صعبة، بخاصة أن مجلس الأمن الدولي سيستمع إلى تقرير مقدم من مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر حول مدى تجاوب أطراف الأزمة في التوقيع على المبادرة الخليجية، وذلك في الجلسة التي يتوقع عقدها يوم الاثنين المقبل، والذي يصادف الحادي والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
على ضوء تقرير ابن عمر سيقدم مجلس الأمن الدولي على اتخاذ خطوات متقدمة على الخطوات التي اتخذها قبل نحو شهر، وسيتعين عليه أن يكون صارماً هذه المرة أكثر من المرة السابقة، بخاصة أن اختراقاً جدياً للأزمة لم يحدث حتى الآن.
وينبغي على اليمنيين أن يستغلوا هذا الاهتمام الدولي بقضيتهم وأن يتقدموا خطوة إلى الأمام لتطبيق المبادرة الخليجية حتى لا يتم استدعاء الخارج، وأن يبدأوا بفتح صفحة جديدة تنقل بلدهم إلى وضع أفضل مما هي عليه اليوم، فالخراب يعم البلاد وإعادة تنميتها ستحتاج إلى سنوات طويلة.
*صحيفة الخليج الإماراتية
بغض النظر عن الحديث «الإيجابي نظرياً» عن المبادرة الخليجية وقبوله ونظامه وحزبه بها، إلا أن الرئيس صالح لا يزال يقف عند النقطة ذاتها، وهي الاستعداد للتوقيع مع شروط إضافية، حتى إنه أثقل المبادرة بشروط عديدة جعلتها في نظر الثوار الذين لم يبرحوا ساحاتهم منذ تسعة أشهر، وحتى أمام الرأي العام الإقليمي والدولي، مجرد لعبة يلهو بها الرئيس ورموز نظامه بمختلف الطرق.
لمن يقرأ التأريخ جيداً؛ فإن الرئيس صالح أضاع فرصاً عديدة للخروج من الوضع الذي يعيشه اليمن اليوم، فالمجازر التي ترتكب بشكل مستمر واستخدام القوة أملاً في إرهاق الخصوم وشباب الساحات لم تعد تجدي نفعاً، والخشية أن الأمور قد تسير إلى طريق لن يستطيع صالح أو أي شخص آخر أن يعيدها إلى النقطة التي عليها اليوم.
يريد صالح أن يؤكد أنه لاعب ماهر، وأنه يستطيع أن ينجو من عاصفة التغيير التي هبت على المنطقة، ولم يتعظ من الانهيارات التي حدثت لعدد من الأنظمة ولمصائر القادة العرب الكبار، الذين كان يعتقد الكثير، أنه ما من قوة قادرة على أن تزحزحهم عن الكراسي التي يتربعون عليها من عشرات السنين، القذافي مثالاً، صحيح أن صالح مشهود له بالكفاءة السياسية طوال الفترة التي حكم فيها، والممتدة لأكثر من 33 عاماً، إلا أن «ما زاد عن حده انقلب ضده»، لقد لعب صالح طوال السنوات التي حكم بها البلاد بقبضة حديدية ورسخ مفاهيم سيئة عن الحكم، إلا أنه لا يستطيع أن يلعب بنفس اللعبة إلى ما لا نهاية، فأوضاع اليوم ليست متشابهة مع أوضاع الأمس.
تثير مواقف صالح المتشبثة بالحكم الكثير من علامات الاستفهام، بخاصة أنه كان يقول أكثر من مرة إنه زهد بالحكم وحان الوقت للراحة، لكن الحقيقة تتأكد كل يوم بمواقفه وهي أن الرجل لا يتخيل نفسه خارج السلطة أبداً، وهو كلما تقدم خطوة إلى الأمام تراجع خطوتين وأكثر إلى الخلف.
لقد قال بعض السياسيين اليمنيين إن الرئيس صالح لو وقع على المبادرة الخليجية يكون قد وقع على قرار بإعدامه، لمن خبر الرئيس صالح يدرك ذلك تماماً، فهو يعلم أنه خسر السلطة بالفعل، فبعد خروج الملايين من الناس إلى الشوارع، لم تعد لشرعية صالح أي وجود أو أي اعتبار، الشرعية التي يدعي وبعض رموزه أنه يمثلها لم تعد ذات معنى بل إنها سقطت مع سقوط الأعداد الكبيرة من القتلى في القمع والعنف اللذين تعامل بهما النظام مع الاحتجاجات منذ أكثر من تسعة أشهر، والأفضل له ولنظامه أن يدركا أن الوقت قد حان للتغيير، ولم تعد المسألة مقتصرة على تغيير أشخاص بقدر ما هو مطلب شعبي عارم بتغيير النظام السياسي بأكمله.
كان بيد الرئيس صالح فرص كثيرة للحيلولة دون وصول الأوضاع إلى ما هي عليها اليوم، إلا أنه اعتقد أنه بمزيد من المناورة يمكن أن يكسب المزيد من الأشهر للبقاء في السلطة، لكن في حقيقة الأمر لم تزد مواقفه المتعنتة إلا وضعاً أسوأ لليمن، وعوضاً عن مكافأة هذا الشعب الصابر على تحمل نظامه ل 33 سنة، كافأه بمزيد من العقوبات، فقطع عنه معظم الخدمات من كهرباء ومياه، وأكثر وأسوأ من ذلك كله صار يدك أحياءه بالقنابل والصواريخ، مثلما يحدث في العاصمة صنعاء وتعز وأرحب اليوم، كما كان عليه الحال قبلاً في عدن والحديدة وصعدة وعمران وغيرها من المناطق.
في التقييم العام يجد الرئيس صالح نفسه في مواجهة مع شعب يريد الانعتاق من الوضع الذي يعيشه اليوم بعد 33 عاماً من حكم نمطي واحد لم يترك للشعب فرصة الخروج من عباءة الحكم الشطري للجمهورية العربية اليمنية وأدواتها الحاكمة.
لقد حكم الرئيس صالح بنفس العقلية التي جاء منها، أي أدوات الجمهورية العربية اليمنية، الشمال سابقا، وعمم هذا النمط من الحكم على دولة الوحدة التي تحققت في الثاني والعشرين من شهر مايو/أيار من عام،1990 على الرغم من أن الدستور تمت صياغته ليلبي حاجة اليمنيين في دولة موحدة تتفهم خصوصيات مجتمعين ظلا لسنوات طويلة محكومين بأداتين سياسيتين مختلفتين، بخاصة أن كل شطر كان متناقضاً في نظامه مع الشطر الآخر، فالجنوب كان يحكمه الحزب الاشتراكي اليمني، أما الشمال فإن المؤسسة العسكرية المتحالفة مع المؤسسة القبلية هي التي كانت تحكم، واستمرت في الحاكم حتى ما بعد الوحدة، وقد حان الوقت لبروز دولة مدينة حقيقية بعيدة عن هيمنة القبيلة والعسكر.
شرعية منقوصة
عندما يتمسك صالح بشرعيته الدستورية فإنه يدرك جيداً أن هذه الشرعية قد سقطت تماماً في مجزرة جمعة الكرامة في الثامن عشر من شهر مارس/آذار الماضي، عندما سقط فيها ما لا يقل عن ستين شهيداً من شباب ساحات التغيير، مثلوا كل اليمن، والدليل على ذلك أن الرئيس صالح نفسه كان قد بدأ يبحث عن مخرج سياسي لشرعيته، بعد أن قبل بالمبادرة الخليجية التي تنص في أحد أهم بنودها على تنحيه عن السلطة ورحيله عنها.
في الإجمال فإن الرئيس أراد أن يلعب على وتر التناقضات التي برع فيها خلال السنوات الطويلة من حكمه، إلا أنه هذه المرة لا يواجه ساحة سياسية داخلية، بقدر ما يواجه إرادة إقليمية ودولية تدعو إلى إعادة الأمور إلى نصابها، فبعد تسعة أشهر من الاحتجاجات والتظاهرات المتواصلة التي يخرج من خلالها ملايين المواطنين في كل مناطق البلاد، يشعر المجتمع الدولي أن الوقت قد حان لأن يأخذ التغيير طريقه في اليمن، فكلما تأخر الوقت كان الوضع أسوأ مما هو عليه اليوم، والرئيس وأركان حكمه يدركون ذلك جيداً، فاليمن يذهب إلى المجهول كلما زاد الرئيس إصراراً على تلبية شروطه التي لا تنتهي.
وعلى الرغم من أن قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، كان واضحاً لجهة ضرورة أن يجري التوقيع على المبادرة الخليجية، يتمسك النظام ببعض التفاصيل الصغيرة ويناور عليها عوضاً أن يطبق ما عليه من التزامات، على الرغم من أن صالح يدرك أنه في النهاية سيترك الحكم بشكل أو آخر، وقد تكون النتائج وخيمة على الجميع، غير أن تركه الحكم سيكون كارثياً هذه المرة، بخاصة أن الأمور في البلد لن تبقى على ما هي عليها اليوم أو كما كانت عليها قبل اندلاع ثورة الشباب السلمية.
إصرار صالح على الحل للأزمة القائمة بطريقة «عليّ وعلى أعدائي» سيجعل المجتمع الدولي يتدخل لمنع انزلاق البلد في أتون حرب أهلية، وربما أراد صالح أن يوصل الجميع إلى هذه النقطة الحرجة، بحيث يمنح المزيد من المناورات لبقائه في السلطة لفترة أطول. كما أن صالح، وهو يدرك خطورة اللعب على هذه القضية، يسعى إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من الضمانات لعدم ملاحقته وملاحقة أقاربه ورموزه في النظام للجرائم التي تم ارتكابها منذ انطلاق الثورة في شهر فبراير/شباط الماضي وحتى اليوم، إلا أن هذا المسعى لن يكتب له النجاح إذا ما أصر على اتباع الأسلوب نفسه الذي يتبعه في معالجة الأزمة.
التدخل الدولي إذا ما وقع، فإنه سيتجاوز المبادرة الخليجية، كما سيتجاوز التعامل المرن الذي يبديه أصحاب المبادرة مع الرئيس صالح انطلاقاً من عوامل عدة، فالمجتمع الدولي إذا ما أخرج المبادرة الخليجية من حساباته، لن يجد صالح مفراً من مواجهة مصير مشابه لمصائر رؤساء آخرين، القذافي نموذجاً، رغم ما يجري الحديث فيه عن «خصوصية يمنية»، تماماً كما كان يقول القذافي قبل مواجهة قوات الناتو.
لا أحد من اليمنيين يؤيد التدخل الأجنبي في شؤون بلادهم، إلا أن الأمر قد يفرض على الجميع فرضاً، وعند هذا الحد لن يجد المؤيدون أو المعارضون للنظام من بد من التعامل مع هذا التدخل، وهنا سيكون المسؤول الأول والأخير عن هذا التدخل هو الرئيس صالح نفسه، الذي لا يزال يعتقد أن بإمكانه التعاطي مع الأزمة بطريقة مختلفة وأنه سيخرج منها مثلما خرج من أزمة حرب عام 1994 عندما تجاوز قرارات مجلس الأمن الدولي ودخل مدينة عدن رغم تحذيرات دولية له بعدم فعل ذلك ورغم قرارين خاصين بشأن اليمن أصدرهما المجلس بهذا الخصوص.
الفرصة الأخيرة
يبدو أن المجتمع الدولي بدأ يستشعر خطورة الأوضاع التي يمكن أن تنجم عن استمرار الأزمة من دون حل أكثر من أي وقت مضى مع استمرار المراوحة في الحل من قبل النظام، الذي لا يزال يرفض التوقيع على المبادرة الخليجية التي جاءت لتلبي معظم مطالبه، لهذا جاء تحرك مجلس الأمن الدولي في الآونة الأخيرة لأخذ زمام المبادرة من خلال تبني المبادرة الخليجية وتدويلها، وهذا يعني أن الأسرة الدولية بدأت تدرك أن الحل الداخلي والإقليمي لم يعد يجدي نفعاً مع النظام.
ومنذ اتخاذ القرار 2014 من قبل مجلس الأمن الدولي بشأن اليمن جرت مياه كثيرة، إلا أن الثابت الوحيد الذي لم يتغير هو موقف النظام من القرار ومن المبادرة الخليجية نفسها، كل ما في الأمر أن النظام، كعادته، رحب بالقرار وأكد أنه قرار متوازن وإيجابي وتفهم طبيعة الأزمة اليمنية، كما قال الرئيس علي عبدالله صالح في حوار تلفزيوني بث الاثنين الماضي، وقال فيه إن دولاً كالولايات المتحدة الأمريكية أعادت التوازن إلى القرار الدولي وفرملت الاتجاه إلى الحرب الأهلية.
خلال شهر، استمرت أطراف الأزمة في التعاطي مع القرار الأممي بنفس المنوال الذي كان عليه الحال قبل اتخاذ القرار، فالمعارضة تتمسك بحقها في أن يوقع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية إنفاذاً لنصوص المبادرة الخليجية التي تدعو المعارضة وحلفاءها وحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم وحلفاءه والرئيس للتوقيع على المبادرة، أما صالح فقد ظل منذ 22 مايو/أيار الماضي يماطل في التوقيع مستخدماً عدداً من التبريرات المتصلة بتطبيق المبادرة على الأرض، على الرغم من أن المعارضة وقعت وكذلك حزب المؤتمر.
والواقع أن الرجل لا يريد التوقيع على المبادرة من الأساس، وبحسب تقييم المعارضة فإنه يريد أخذ الجميع إلى مربع العنف، فهو يدرك أن بتوقيعه على المبادرة يفقد الكثير، سواء الحكم أو الأنصار أو الحلفاء في الداخل والخارج، أو كما قال نائب رئيس البرلمان حمير الأحمر فإن صالح يعتقد أن بتوقيعه على المبادرة الخليجية كمن يوقع على قرار بإعدامه.
وهناك من يعتقد أن الرجل يريد فسحة من الوقت للإعداد لمواجهة عسكرية شاملة تكون مبرراً للمجتمع الدولي لوضع كافة الأطراف في سلة واحدة، واعتباره ما يحدث ليس ثورة ضد نظام، بل محاولة من أطراف سياسية للوصول إلى السلطة عن طريق العنف، وهو ما يفسر إقدام النظام على ارتكاب المزيد من الجرائم مع مرور كل يوم في أكثر من منطقة، سواء في العاصمة صنعاء أو في تعز أو أرحب، حتى يجبر الطرف الآخر، بخاصة الجانب العسكري المنشق عنه، الذي يقوده اللواء علي محسن الأحمر، إلى الدخول في مواجهات عسكرية شاملة، وهو ما لم ينجح فيه حتى اليوم.
لذلك يبدو قرار مجلس الأمن الدولي الأخير فرصة حقيقية لإعادة تقييم الوضع في اليمن، فالبلد لم يعد يحتمل المزيد من الخضات العنيفة، وهناك مخاوف من دخول البلد مرحلة خطيرة من المواجهات الدامية ومخاوف من أن تكون هناك قطيعة سياسية بين النظام ومعارضيه، مع ما تشكله هذه القطيعة من سلبية على الأوضاع في البلاد مستقبلاً.
وتبدو الأطراف الدولية، بخاصة اللاعبين الكبار، مصرة على إنجاز مهمتها المتمثلة في إيجاد المخرج الملائم للوضع القائم في اليمن اليوم، فهي تدرك أن استمرار الوضع من دون حل سوف يعرض أمن المنطقة بشكل عام للخطر.
من هنا يمكن فهم التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه بشأن درس فرض عقوبات جديدة من قبل دول الاتحاد الأوروبي على النظام من قبيل تجميد أرصدة وأموال الرئيس علي عبدالله صالح وكبار معاونيه في حال لم يتم التوصل إلى حل سياسي سريع، وهو ما أثار قلق النظام ومسارعته إلى التأكيد إلى أنه قبل بالقرار الدولي الخاص بالأزمة.
لذلك فإن اليمن مقبل خلال الأيام القليلة المقبلة على مرحلة صعبة، بخاصة أن مجلس الأمن الدولي سيستمع إلى تقرير مقدم من مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر حول مدى تجاوب أطراف الأزمة في التوقيع على المبادرة الخليجية، وذلك في الجلسة التي يتوقع عقدها يوم الاثنين المقبل، والذي يصادف الحادي والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
على ضوء تقرير ابن عمر سيقدم مجلس الأمن الدولي على اتخاذ خطوات متقدمة على الخطوات التي اتخذها قبل نحو شهر، وسيتعين عليه أن يكون صارماً هذه المرة أكثر من المرة السابقة، بخاصة أن اختراقاً جدياً للأزمة لم يحدث حتى الآن.
وينبغي على اليمنيين أن يستغلوا هذا الاهتمام الدولي بقضيتهم وأن يتقدموا خطوة إلى الأمام لتطبيق المبادرة الخليجية حتى لا يتم استدعاء الخارج، وأن يبدأوا بفتح صفحة جديدة تنقل بلدهم إلى وضع أفضل مما هي عليه اليوم، فالخراب يعم البلاد وإعادة تنميتها ستحتاج إلى سنوات طويلة.
*صحيفة الخليج الإماراتية