كان الأمريكيون، في 18 نوفمبر من عام 1978، على موعد مع فاجعة جعلت العالم بأكمله غير مصدّق ما وقع، بعد أن قام نحو 900 شخص بالانتحار الجماعي في مكان وزمان واحد داخل مزرعة «جونز تاون» Jones town، التي كانت مركزا لطائفة دينية غريبة الأطوار عرفت باسم كنيسة الشّعب، Peoples Temple، وكانت المرّة الوحيدة في التاريخ التي يُغتال فيها سيناتور أمريكي أثناء تأديته مهامه الرسمية.
واعتبرت حادثة «جونز تاون» أكبر كارثة إهدار أرواح بالولايات المتحدة الأمريكية حتى وقعت أحداث 11 سبتمبر في 2001.
بدأت تفاصيل القصة عام 1956، حسب تقرير نشرته قناة «ناشيونال جيوجرافيك» على موقعها الإلكتروني، عندما تأسست الطائفة الدينية المسمّاة «كنيسة الشعب»على يد شخص يدعى جيم جونز، ولد في مقاطعة راندولف، إنديانا وهي منطقة ريفية بالقرب من حدود ولاية أوهايو، من أب يُدعـى جيمس ثورمان جونز (31 مايو 1887 - 29 مايو، 1951)، وهو أحد المحاربين القدامى في الحرب العالمية الأولى) ، وأمّه تُدعى ليناتا بوتنام جونز (16 أبريل ، 1902 - 11 ديسمبر 1977) كانت من أصول إيرلندية ويلزية, التي أعتقدت أنها ولدت المسيح.
جيم جونز
في عام 1951، أصبح «جونز» عضوا في الحزب الشيوعي الأمريكي وبدأ بحضور الاجتماعات والتجمّعات في إنديانابولس، وإنزعج من المضايقات التي استهدفته أثناء جلسات الاستماع، خاصة تلك التي تتعلق بلقائه ووالدته مع بول روبسون، كما أصيبَ بالإحباط جراء ما اعتبره النبذ العلني للمجتمع الشيوعي بالولايات المتحدة الأمريكية وخصوصًا خلال محاكمة جوليوس وايثيل روزنبرج.
إهتمام «جونز» بالقضايا الدينية بدأ منذُ طفولته، خاصة لأنهُ شعر بصعوبة تكوين صداقات في تلك الفترة من عمره، رغم أنه في البداية كان مترددًا في اختيار كنيسته، وفوجئ «جونز» بمساعدة مشرف الكنيسة الميثودية المتحدة له في إنشاء كنيسته رغم درايته بالإنتماء الماركسي لجونز.
وفي عام 1952، أصبح «جونز» تلميذًا لدى القساوسة في الكنيسة الميثودية، ولكنه ادعى تركه للكنيسة عندما منع من إدماج المصلّين السود في تجمعاته، وفي هذا الوقت، لاحظ «جونز» أن الخدمة المداواة الروحانية في الكنيسة المعمدانية كانت تجلب الكثير من الناس وأموالهم، وخلصت إلى أنه مع هذه الموارد المالية يمكنه تحقيق أهدافه الاجتماعية.
صورة للبيوت في مدينة جونز
وفي عام 1956 بدأ «جونز» بالترويج لأفكاره في أوساط جماعة مسيحية تدعى الخمسينية Pentecostalism التي كان معظم أعضائها من السود الكادحين، بالإضافة إلى مجموعة من البيض أغلبهم من كبار السنّ إضافة إلى بضعة أشخاص مثقّفين ذوي مستوى تعليمي عالي جلبهم الفراغ الروحي.
إلى هنا، لاقت أفكار «جونز» المثالية رواجاً بين أعضاء جماعة «الخمسينية» وبدأ يستقطب أتباعاً، لقد كان يدعو إلى نبذ العنصرية والتفرقة في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تنضح بالكراهية ضد السود، لقد كان يدعو إلى اندماج السود والبيض في مجتمع واحد وتعايشهم بسلام في الوقت الذي كان الرئيس الأمريكي يخطب طالباً عزل السود عن البيض في المدارس والجامعات والأحياء السكنية بل وحتّى المواصلات العامّة، ولقد كان «جيم جونز» في بداياته كالحمل الوديع وداعية السلام والخير، لقد ساعد أتباعه في الحصول على عمل وساعد الفقراء والمحتاجين منهم، ولكن سرعان ما بدء يطالبهم بالانضباط والولاء الأعمى له وعدم مخالفة أوامره وتعاليمه.
دار عبادة خاصة بالمدينة
في عام 1965، انتقل برفقة 100 من أتباعه إلى شمال كاليفورنيا، وبدأت هذه الجماعة في التكاثر والتزايد وأنشأت المزيد من دور التعبّد التي يجتمع فيها أعضاء هذه الطائفة وتمّ تأسيس مركز رسمي في مدينة «سان فرانسيسكو».
خلف الصورة التي حاول (جيم جونز) ترويجها للرأي العامّ عن أنّه الزعيم المحبوب وداعية الحبّ والسلام وصديق الفقراء والمساكين، كان يختبأ رجل مضطرب نفسياً يتراءى له أنّه المسيح بشحمه و لحمه، تارة يدّعي أنهّ فلاديمير لينين و تارة أخرى أنّه «نبيّ صدّيق».
لقد أضحى مع مرور الوقت الإنسان الأوحد لأتباعه الذي لا يعصون له أمرًا و لا يناقشون له طلبًا، لقد رأوا فيه مخلّصهم من «الكوارث» المزعومة التي تنبّأ بها «جونز» كأن تحدث حرب نووية تقضي على جميع سكّان الأرض أو طوفان عظيم يأتي على الأخضر واليابس وطبعاً الناجي الوحيد من هذه الكوارث هم أتباع هذا الرجل المعتوه كما وعدهم.
في الكثير من خطبه كان يهاجم الرأسمالية و التفرقة العنصرية، و لكن في غالب الأحيان كان يركّز على ما يسمّيهم «الأعداء» المتربّصين به، وبأتباعه وخطرهم الداهم وهم الحكومة والشرطة وعامّة الناس والصحف والمجلات، أو باختصار «الجميع».
دفع هذا الرعب والخوف المفتعل إلى هجرة أعضاء الطائفة من أمريكا الشمالية بأكملها، متوجّهين نحو غابة معزولة تقع في أمريكا الجنوبية وبالضبط في شمال دولة جايانا، حيث أنشئوا هناك مستوطنة أسموها Jones town أي «مدينة جونز» تيمّناً بزعيمهم جيم جونز، وبدأ الأتباع بالتدفّق إلى ذلك المكان سعياً وراء الانعزال وممارسة طقوسهم بكلّ حرّية وفراراً من إزعاج الحكومة الأمريكية وتحرشات المواطنين.
لقد كان يُفترض، بحسب «جونز»، أن تكون المستوطنة «المدينة المثالية» أو «جنّة الله على أرضه» كما يسمّونها، و لكن كان كل من يصل إلى هناك يصاب بإحباط شديد وصدمة كبيرة لأنه لم يجد ما كان يتوقّعه، لقد كانت البيوت الخشبية الصغيرة التي تم بنائها هناك لا تكفي لاستيعاب العدد الكبير من الوافدين مما أدّى إلى تكدسها لدرجة أنه كان ينام عشرات الأشخاص في غرفة ضيّقة لا تسع أكثر من اثنين، كما أن الفصل بين الجنسين كان مطبّقاً هناك لذلك كان يجبر الأزواج على الافتراق وكل منهم ينام على حدة، كما كانت الحرارة والرطوبة الكبيرة لا تُحتمل مما أدّى لإصابة الكثيرين بأمراض خطيرة، كما أن معظمهم كانوا يُجبرون على العمل الشاقّ في الحرارة الشديد أحياناً لـ16 ساعة في اليوم دون انقطاع.
كانت الظروف كارثية بالفعل، مما أدّى بالبعض إلى الرغبة بمغادرة ذلك المكان ولكن بما أن المستوطنة كانت معزولة ومحاطة بأدغال لا نهاية لها، فكان يتعيّن على الراغبين في المغادرة طلب الإذن من «جونز» لكي يرشدهم إلى طريق الخروج، ولكنه كان يعتبرهم ملكه أي عبيده ولا يجوز لهم الفرار من طاعته وخدمته وأضحت تلك المستوطنة كسجن بدون قضبان.
وصل أمر هذه المستوطنة وظروفها المزرية إلى نائب الكونجرس الأمريكي، ليو رايان، الذي قرر الذهاب إلى هناك والتحقق بنفسه مما يجري، واصطحب معه فريق من المراسلين الصحفيين ومجموعة من أقارب الفارّين إلى تلك المستوطنة، وفي الوهلة الأولى، بدا لـ«ليو رايان» أن كل شيء يسير على ما يرام وأنه لا شيء يدعو للقلق، و لكن في تلك الليلة وأثناء طقس تعبّدي يتخللّه رقص وغناء هستيري تسلّم أحد الصحفيين المرافقين للسيناتور (ليو) ورقة صغيرة مكتوب عليها أسماء من يريدون المغادرة والذين كانوا يكتمون رغبتهم خوفًا من غضب «جونز»، وهنا اتّضح لهذا الأخير أنه فعلاً هنالك أشخاص محتجزون هنا رغمًا عن إرادتهم.
في اليوم الموالي 18 نوفمبر 1978، أعلن السيناتور ليو رايان، نيّته في اصطحاب الراغبين في المغادرة نحو الولايات المتحدة، ولكن لم يستجب سوى بضعة أشخاص وامتنع البقيّة خوفًا من ردّة فعل زعيمهم «جونز»، وصعد الراغبين في المغادرة على متن شاحنة جاء بها السيناتور والذي بقي في المؤخّرة والباب الخلفي للشاحنة مفتوح وذلك حتّى يتأكّد من أنه لا يوجد شخص آخر يريد المغادرة أيضاً، بعدما أقلعت الشاحنة وعلى حين غرّة تفاجأ السيناتور بأحد أتباع الجماعة يقفز عليه من حيث لم يره و يحاول ذبحه بساطور ضخم، و لكنّه يفشل في الوصول إلى الرقبة ويقع متدحرجاً على الطريق.
وعندما وصل السيناتور ومرافقوه إلى المطار وجدوا أن جميع الطائرات أقلعت فقبعوا ينتظرون ريثما تصل طائرة جديدة، وفي هذه الأثناء توقّفت سيارة رباعية الدفع وترجّل منها أشخاص مسلّحون فتحوا النار على الشاحنة، فقُتل خمسة أشخاص على الفور بينهم السيناتور رايان.
بعد الحادثة، دعا «جونز» جميع أتباعه إلى لقاء عاجل في المعبد حيث خطب فيهم قائلاً: «تيقنوا يا أبنائي وأحبائي أن العساكر الأمريكية قادمة لا محالة، وعن قريب سترون الطائرات الأمريكية تقصف ضيعتنا الآمنة وتقتل حتّى صغارنا و أطفالنا».
وأضاف: «الحل الوحيد أمامنا هو اللجوء إلى عمل بطولي ثوري لم يُشهد له سابق في التاريخ»، وكان العمل البطولي هو «الانتحار الجماعي».
حاولت إحدى السيدات معارضة الفكرة ولكنها تلقت هجومًا شديدًا من البقيّة الذين يثقون في «جونز» بشكل أعمى.
عندما وصل خبر مقتل السيناتور إلى مسامع (جونز)، أصبح أكثر إلحاحاً وعجالة من ذي قبل وصرخ قائلاً: «أتعلمون ما الذي ينتظركم عند نزول المظليين على أرضنا؟ سيعذّبونكم عذابًا شديدًا، سيعذّبون أطفالنا الصغار أمام أعيننا وسيسلخون عجائزنا أحياءً ونحن نسمع صرخاتهم و تأوّهاتهم، لن نسمح بحدوث هذا».
جُلبت أوعية كبيرة وملئت بخليط قاتل من سم السيانيد وحامض الفاليوم ثمّ وُضعت عند مدخل المعبد، بدأ تسميم الأطفال الصغار أولا، ثم استعمال الحقن لحقن الخليط السام في أجسادهم، ثم جاء الدور على الأمهات التي انتحرن بنفس الطريقة التي قُتل بها صغارهن، ثم توالى الدور على البقيّة وإن فكّر أحدهم في مخالفة الأوامر فسيجد المسدسات والسواطير وجّهة صوبه، استغرقت الوفاة بهذه نحو الطريقة نحو خمس دقائق.
في ذلك اليوم المشئوم من شهر نوفمبر 1978، انتحر 912 شخصاً عن طريق شرب السمّ، 276 منهم كانوا من الأطفال الصغار، انتحر (جيم جونز) عن طريق رصاصة في الرأس، بضعة أشخاص فقط كُتب لهم النجاة من هذه المأساة ليرووا لنا تفاصيلها المؤلمة والمرعبة في آن واحد، لقد نجا بعضهم عبر الهرب نحو الأدغال والبعض الآخر عبر الاختباء في أرجاء المستوطنة، و لكن جميعهم أجمعوا أنه قد كُتبت لهم حياة جديدة.