كغيرها من الدول ذات الأطماع التوسعية والتاريخ الحافل بالتدخلات الخارجية في شؤون الشعوب الأخرى؛ تسعى إيران جاهدةً إلى فرض نفوذها وهيمنتها على المحيط الجغرافي المجاور لها، وكأنها بذلك تحاول استعادة عرش كسرى وسلطان ما قبل القادسية.
فما تمارسه إيران ليس طموحات سياسية واقتصادية يحق لكل دولة أن تقوم بها بالوسائل المشروعة، بل هي أطماع واسعة تتعدى حقوق الآخرين.. فقد اتخذت السياسة الخمينية الإيرانية التوسعية مساراً عدائياً تصادمياً عبر خطين متوازيين.
الخط الأول: ممارسة العنف والتصعيد ضد العدو الحقيقي الدائم، وهم المسلمون السُّنة والعرب.
الخط الثاني: إظهار العدو الوهمي (إسرائيل وأمريكا) بمظهر العدو الحقيقي الدائم؛ كغطاء لإخفاء حربها الحقيقية على عدوها الرئيسي، ووسيلة لممارسة الخداع ضده.
وبالفعل؛ نجح الخمينيون في خداع كثير من العرب والمسلمين الذين اغتروا بظاهر القول وقشور السياسة الإيرانية، دون النظر إلى لُبها وجذورها وأصولها الفكرية ومساراتها التاريخية التي على أساسها تُبنى القناعات، وتُفسر السياسات، وتُكشف الحقائق.
وتُعدّ الخدعة الخمينية ثاني أكبر خدعة وقع فيها كثير من العرب والمسلمين في العصر الحاضر بعد الخدعة الصهيونية بخيالات «السلام» وحكايات «المفاوضات» لحل قضية فلسطين المحتلة.
لقد اتّبعت السياسة الإيرانية الخمينية سَنَن السياسات الإسرائيلية والأمريكية حذو القذة بالقذة في التعامل مع الدول الأخرى والتدخل في شؤونها المحلية، حيث قامت تلك السياسة على بث الشقاق، وتفعيل الصراع، وإثارة الفوضى والأزمات، وإيقاظ الفتن.
وثمة أهداف ودوافع متفاوتة وراء الأطماع والتدخلات الإيرانية في شؤون دول المنطقة، فهناك أهداف أساسية ثابتة بعيدة المدى، وهناك أهداف مرحلية مرتبطة بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
وعلى رأس الأهداف الأساسية استعادة الهيمنة الفارسية على المنطقة، لكن بصورة دينية طائفية؛ عبر نشر التشيع، ودعم الجماعات الشيعية في المنطقة، وإثارة النعرات المذهبية والاضطرابات السياسية والفوضى الأمنية.
إيران في اليمن:
لليمن خصوصية دينية وتاريخية لدى إيران، وترتكز الخصوصية الدينية على ما تسمى «الثورة السفيانية» التي روّج لها العلامة الشيعي علي الكوراني العاملي في كتابه (عصر الظهور)، ومضمونه يتحدث عن ثورة ستكون في اليمن، ووصفها بأنها «أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق»، وتحدد الروايات الشيعية وقتها بأنه «مقارب لخروج السفياني في شهر رجب، أي قبل ظهور المهدي ببضعة شهور»، وأن عاصمتها صنعاء، أما قائدها - المعروف في الروايات باسم (اليماني) - فتذكر روايةٌ أن اسمه (حسن) أو (حسين)، وأنه من ذرية زيد بن علي.
أما عن الخصوصية التاريخية، فإن اليمن كانت ولاية تابعة للإمبراطورية الفارسية قبل أن يحررها الإسلام.
ومن هذا المنطلق تتداخل الأهواء الدينية والأطماع التاريخية مع بعضها البعض في عملية صياغة وتحديد مسار السياسة الإيرانية في اليمن.
وقد كثُر الحديث عن التدخل الإيراني في اليمن طوال سنوات الصراع بين الحوثيين والسلطات اليمنية، ولهذا سنكتفي في هذه المقالة بعرض مستجدات هذه القضية وأبعادها في ظل التطورات الحالية التي تشهدها اليمن.
حقيقة التدخل الإيراني:
لم يعد الحديث عن التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لليمن، همساً بين دوائر أمنية وسياسية، بل تعداه إلى العلن والمجاهرة على أعلى المستويات الرسمية.
ففي أكتوبر 2012م اتهم الرئيس اليمني الجديد - عبدربه منصور هادي - إيران بالسعي إلى تنفيذ مخطط يهدف للسيطرة على مضيق باب المندب في البحر الأحمر، داعياً إلى تحرك دولي عاجل لوقف المخططات الإيرانية الوشيكة.
وفي محاضرة ألقاها في (مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين) في واشنطن - يوم 28 سبتمبر 2012م -؛ ذكر الرئيس هادي من بين التحديات التي تواجهها اليمن التدخل الإيراني، مؤكداً أن إيران تسعى إلى تعويض خسارتها الاستراتيجية مع تزايد مؤشرات انهيار النظام في سورية، في اليمن؛ نظراً لموقعها الاستراتيجي الذي يقع بين دول غنية بالنفط والقرن الإفريقي.
وأوضح الرئيس اليمني أن هذه التدخلات تمثلت «في الدعم الإيراني لبعض التيارات السياسية والمسلحة، وتجنيد شبكات تجسسية»، مؤكداً الكشف عن ست شبكات تجسسية تعمل لصالح إيران تم إحالتها للقضاء.
وفي مؤتمر صحفي في برلين مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في 4 أكتوبر 2012م؛ جدد هادي اتهاماته لإيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لليمن من خلال دعم الانفصاليين، وقال: إنّ في الجنوب حراكين: «حراك سلمي وحراك غير سلمي، هذا (الأخير) يستخدم السلاح، ومدعوم من إيران.. الحراك المسلح هو من يريد الانفصال».
من جهته، أكد وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي وجود علاقة قوية بين الحوثيين والحرس الثوري الإيراني؛ من خلال توفير طهران التدريب والأسلحة والمعدات والأموال.
وقال القربي - في تصريح لصحيفة (الوطن) السعودية -: إن «إيران لها ارتباطات مع الحوثيين وغير الحوثيين». واستدرك بالقول «هناك جوانب كثيرة لا نود التطرق إلى الحديث عنها في الوقت الحالي؛ لأن ذلك ليس من المصلحة؛ ولأننا داخلياً في حوار، ونأمل أن نعالجها من خلال الحوار».
وكان وزير الخارجية اليمني قد حذر - قبل ذلك - المجتمعَ الدوليَ من حجم التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية اليمنية.
وقال لصحيفة (الشرق الأوسط): إن الأمور «أضحت على نحو حقيقي يدركه الجميع..»، مؤكداً أن «التدخل الإيراني في اليمن يضر بأمن واستقرار المنطقة».
وعلى هامش مؤتمرٍ أمني عُقد في البحرين في ديسمبر 2012م؛ قال رئيس (جهاز الأمن القومي) الاستخباراتي اليمني - الدكتور علي الأحمدي -: إن إيران «انتهزت الفرصة لتوسيع الصراع للعب دور معين.. ليست لدينا عداوة مع إيران، كل ما نطلبه هو عدم التدخل (في شؤوننا)». وأضاف: «لدينا أدلة واضحة على وجودهم، واعتقلنا عدداً من الأشخاص، ولدينا أدلة كافية على تدخلهم».
وهنا يؤكد الدكتور عبدالله الفقيه - أستاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء -، أنَّ المحاولات الإيرانية الحثيثة للتغلغل في اليمن لم تَعُد - سياسياً وإعلامياً وأمنياً - «خَفية، أو تحتاج إلى الكثير من المهارة لرؤية ملامحها»؛ فإيران «تستغل الضعف الكبير الذي تعانيه الدولة اليمنية خلال هذه المرحلة»، خصوصاً حالة انقسام قوات الجيش والأمن اليمنية والأوضاع الاقتصادية السيئة لأبناء الشعب اليمني من فقر وبطالة، إضافة إلى الخلافات الداخلية بين فرقاء الحياة السياسية في اليمن، وفي مقدمتها التمرد الحوثي في الشمال، والحراك الانفصالي في الجنوب، وأنشطة جماعات (القاعدة).
وقال: «إيران تسعى لخلق منطقة نفوذ في هذا الجزء المهم من العالم بأي ثمن، حتى إن تطلّب الأمر مد جسور التواصل مع (القاعدة) التي يمكن أن تمثل حليفاً مرحلياً مهماً يشاركها الأجندة ذاتها، وإن اختلفت الأهداف».
النافذة الحوثية:
ويرى المراقبون أن أصابع إيران لم يكن لها أن تتغلغل في اليمن لولا وجود عوامل موضوعية تساعدها على ذلك، وأهمها الحركة الحوثية؛ حيث تلعب الحركة العامل الأبرز في تمدد إيران وتوسعها في اليمن.
ولهذا؛ فإن جهود إيران انصبت - منذ قيام الثورات العربية المعروفة باسم (الربيع العربي) - على تقوية واقع الحركة إعلامياً وتسليحاً وسياسياً وعلى المستوى المالي.
ففي جانب السلاح تعمل إيران بشكل حثيث على ضمان تدفق السلاح إلى الحوثيين، سواء عبر تهريب شتى أنواع الأسلحة إلى صعدة، أو عبر الدعم المالي لشراء السلاح من الأسواق اليمنية.
وأشارت تقارير دولية - في السنوات القليلة الماضية - إلى قيام إيران بإنشاء قاعدة لها في إريتريا لمد الحوثيين بالسلاح عبر رحلات بحرية إلى المناطق القريبة من سواحل مينائي مِيِدي واللُّحَية القريبين من صعدة.
وهناك أنباء تشير إلى قيام السفن الإيرانية الموجودة في منطقة خليج عدن - بحُجة المساهمة في مكافحة القرصنة - إضافة إلى سفن تجارية إيرانية؛ بتهريب كميات من الأسلحة عبر قوارب صيد يمنية إلى داخل اليمن.
كما كشف تقرير أمريكي أمني صادر عن مركز (ستراتفور) للاستشارات الأمنية في ولاية تكساس - عام 2009م -؛ عن دور إيراني في عمليات تهريب منتظمة، وقال: إنها كانت تتم من ميناء (عصب) الإريتري إلى السواحل القريبة من محافظة صعدة في مديرية (ميدي) اليمنية؛ ليتم تخزينها هناك، ومن ثم يتم نقلها عبر مهربين إلى محافظة صعدة معقل المتمردين الحوثيين. وأضاف التقرير أن الطوق الأمني الذي فرضته القوات البحرية السعودية على ميناء ميدي وسواحل اليمن الشمالية؛ دفع القوات البحرية الإيرانية إلى إضافة أسطولٍ رابع تمركز في خليج عدن؛ وذلك لتأمين طرق جديدة لتهريب الأسلحة للتمرد الحوثي.
وفي الفترة ما بين أواخر 2011م وأوائل 2012م، بدا أن إيران قد كثفت من اتصالها السياسي بالمتمردين الحوثيين وغيرهم من الشخصيات السياسية في اليمن، وزادت من شحنات الأسلحة إليهم، كجزء مما يصفه مسؤولون عسكريون واستخباراتيون أمريكيون بأنه «جهد إيراني متنامٍ لتوسيع نطاق نفوذ طهران في منطقة الشرق الأوسط بأكملها»، بحسب تقرير لـ (نيويورك تايمز). وبحسب التقرير حاولت إيران - في الشهور الأولى من العام 2012م - أن ترسل إلى اليمن مواد تستعمل في صنع أجهزة تفجير تعرف باسم الأسلحة الخارقة للدروع شديدة الانفجار (إي إف بي)، بحسب مسؤول أمني يمني رفيع المستوى، وهذه المواد كانت قد أرسلت في سفن شحن خرجت من تركيا ومصر ورست في عدن. وقال مسؤول يمني: إن هذه الشحنة كانت في طريقها إلى بعض رجال الأعمال اليمنيين الذين ينتمون إلى المتمردين الحوثيين، قبل أن يتم اعتراضها من قبل الحكومة.
أما على الصعيد السياسي، فإن إيران تسعى إلى التأثير في المشهد السياسي اليمني من خلال الاتصال بجميع القوى السياسية الفاعلة من أقصى اليمين إلى اليسار، ومن جنوب اليمن حتى شماله؛ فإيران تدعم عبر وسطائها سياسيين في القوى اليسارية ممن شاركوا في الثورة الشعبية ولديهم عداء أيديولوجي مع حزب (الإصلاح) والتيارات السلفية؛ لإيجاد أرضية من القبول للتحالف أو التنسيق مع الحوثيين كقوة ممثلة لها في اليمن.
وقد استطاع الحوثيون - بحضورهم في الساحات الثورية في كثير من المحافظات اليمنية - استقطاب رموز وكوادر سياسية من أطياف مختلفة؛ فأوجد ذلك انشقاقاً في أوساط الساحات الثورية بين قوى مؤيدة للمبادرة الخليجية وأخرى رافضة على أساس من التبعية للرؤية الإيرانية.
وهناك تمويل مالي ودعم لوجستي مقدم لأحزاب سياسية بعضها تأسَّس بعد الثورة الشعبية، وبعضها لا يزال تحت التأسيس.
فإعداد الكوادر، ودعم الفعاليات، وكسب الولاءات، وأعمال التسلح، والمؤتمرات التي تعقد هنا وهناك بتمويل من طهران؛ كلها مظاهر يقف وراءها تمويل خارجي وعمل استخباري كشفت عنه الأيام، وصرح به الرئيس اليمني وقيادات أمنية وسياسية مختلفة. يضاف إلى ذلك التنسيق القائم بين الحوثيين والنظام السياسي السابق لإفشال العملية السياسية، من خلال القواعد التابعة للمؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم سابقاً)، والعاملة في أجهزة ودوائر الدولة المختلفة، وبسند من قوى قَبَلية موالية للنظام السابق ورئيسه علي صالح.
الأهداف والوسائل:
إلى جانب الأهداف الدينية المذكورة آنفاً، هناك أهداف أخرى تعددت التحليلات والرؤى حول طبيعتها وأبعادها. يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء - الدكتور عبدالله الفقيه - لصحيفة (الشرق الأوسط): «إيران تسعى من خلال أنشطتها التوسعية داخل اليمن إلى تحقيق عدة أهداف؛ فهي أولاً تريد زيادة قوتها الإقليمية، واستباق أي خسائر يمكن أن تلحق بها نتيجة ثورات (الربيع العربي). وإذا كانت تدافع باستماتة عن النظام السوري ودعمه بكل الطرق الممكنة حتى لا تخسر حليفاً استراتيجياً؛ فإن ما تقوم به في اليمن يمثل انعكاساً لليقين المتزايد بين السياسيين الإيرانيين بأن سقوط نظام الأسد هو مسألة وقت، وأن على إيران أن تبحث عن مناطق نفوذ جديدة في العالم العربي تعوض بها الخسائر الكبيرة المحتملة التي ستلحق بها من جراء سقوط النظام السوري، سواءً في سورية ذاتها أو بين الجماعات المرتبطة بالنظام السوري في لبنان والعديد من الدول العربية الأخرى».
إن تحقيق نفوذ إيراني في اليمن لا يمكن أن يتم في ظل وحدة مجتمعية ودولة مهيمنة ومستقرة؛ لذلك فهي تسعى في سبيل تقوية حلفائها إلى تفجير الأوضاع العسكرية في اليمن، وإيجاد حالة من الفوضى العارمة التي يمكن معها إعادة صياغة موازين القوى.
ومن هنا، نجد أن الحوثيين حاولوا - ولا يزالون - بكل الوسائل، جرّ القوى الإسلامية إلى الدخول في صراع عسكري مسلح، عوضاً عن الحروب التي كانت تتم مع نظام صالح، وهذا ما دفعهم لمهاجمة السلفيين في صعدة، ومهاجمة الإصلاحيين (الإخوان المسلمين في اليمن) عقب الثورة الشعبية في أكثر من محافظة يمنية، كمحافظات الجوف وعمران وحَجّة، إضافة إلى محافظة صعدة ذاتها. وقد حذر مراقبون سياسيون وخبراء عسكريون من سيناريو من هذا القبيل يجري الإعداد له إيرانياً وحوثياً.
ومن أجل دعم تحرُّك كهذا، قامت إيران - عبر مخطط بدأ تنفيذه منذ اندلاع الاحتجاجات في اليمن - بتمويل عشرين وسيلة إعلامية فضائية وورقية وإلكترونية، وقد بدأت فعلاً بالسعي لاستخراج تصاريح سبع صحف مختلفة، اثنتان منها بدأتا بالصدور فعلاً، كما جرى تمويل إطلاق عشرة مواقع إلكترونية لجهات وأشخاص ومجموعات تعمل في إطار المخطط ذاته.. وهناك ثلاث قنوات فضائية موجهة للجمهور اليمني يجري تمويلها، إحداها تشرف عليها قناة (المنار) اللبنانية، وأخرى قناة (العالم) الإيرانية، والثالثة تشرف عليها قناة عراقية لم يتم الكشف عنها، مع دورات تدريبية تقدم في بيروت للكوادر الإعلامية عن طريق منظمات لبنانية تتبع جهات محسوبة على إيران، وتركيز هذه الدورات على قوى اليسار والإعلاميين الذين عملوا مع المؤتمر الشعبي العام ونظام الرئيس السابق علي صالح.
ومثَّل حزبا (الحق) و(اتحاد القوى الشعبية) جناحي الأجندة السياسية للمخطط الطائفي خلال حقبة ما بعد الوحدة اليمنية عام 1990م. ورغم وجود خلافات فكرية ومنهجية بين قيادة الحزبين، غير أنهما ظلا يمثلان غطاءً سياسياً وحقوقياً مسانداً لحركة الحوثي مع احتفاظهما بموقعيهما في تكتل (اللقاء المشترك).
وحيث وقفت طبيعة شروط الانتماء المغلقة التي ميزت الحزبين خلال الفترة السابقة عائقاً أمام تحول الحزبين إلى كيانات شعبية مفتوحة لكافة أبناء المحافظات اليمنية بمختلف مذاهبها؛ فإن الاستراتيجية الجديدة التي تسعى إليها إيران هي إنشاء أحزاب تضم قوى ناصرية واشتراكية وبعثية وصوفية، وشخصيات قد تخرج من (المؤتمر الشعبي العام) ومن تكتل (اللقاء المشترك)؛ لتمثل كيانات سياسية واسعة الانتشار والحضور في مواجهة المشروع الإسلامي (السُّني)؛ باعتباره العدو المشترك للجميع. وقد بدأت إجراءات التنسيق لإشهار بعض هذه الأحزاب من مدن محسوبة على المناطق السنية وربما الجنوبية.
من هذه الأحزاب (حزب الأمة) الذي تم الإعلان عنه في 5 يناير 2012م، وهناك شبه إجماع في أوساط المراقبين والمحللين السياسيين على أن الحزب واجهة سياسية جديدة لحركة الحوثي. وكذلك (الحزب الديمقراطي اليمني) الذي تم الإعلان عنه يوم 24 مايو 2010م، ويظهر من أدبياته ووثائقه الرسمية الصادرة عنه، ومن مواقفه السياسية؛ أنه جزء من التحالف الإيراني في اليمن.
منفذ بحري:
في حال أقام الحوثيون منطقة نفوذ مستقلة في شمال الشمال باليمن، تضم محافظتي صعدة والجوف وأجزاءً من محافظتي عمران وحجة، وغيرها؛ سيكون من الضروري إيجاد منفذ بحري لهم؛ للاستقلال كلياً عن الدولة المركزية في إدارة شؤونهم الاقتصادية. ويمثل ميناء (مِيدي) الساحلي - الذي يتبع إدارياً محافظة حَجّة على ساحل البحر الأحمر، والقريب من المياه السعودية - الخيار الأفضل؛ فهو أقرب المنافذ المائية إلى المنطقة الشمالية التي يسيطر عليها الحوثيون ومحاذٍ لها.
لذلك؛ قال وزيرٌ في حكومة الوفاق اليمنية إن «رغبة الحوثيين المتواصلة في السيطرة على ميناء ميدي الاستراتيجي تأتي بطلب مباشر من قيادات الحرس الثوري الإيراني».
وكشف مصدر في وزارة العدل اليمنية عن قيام الحوثيين خلال السنوات الأخيرة، وبإيعاز من طهران ورؤوس أموال إيرانية؛ بشراء مساحات كبيرة من الأراضي المجاورة لميناء ميدي على الحدود مع السعودية والواقع في إطار محافظة حجة.
وفي السياق ذاته، علَّل مسؤول حكومي في محافظة حجة التحرك الحوثي في المحافظة بـ «رغبة الحوثيين في السيطرة على مناطق مشرفة على ميناء ميدي والتحكم في الطرق الرابطة بين أهم مديريات المحافظة؛ لتحقيق أهداف تقف خلفها إيران». وأضاف: «المستهدف من نشاط إيران ليس اليمن، بل الخليج، وتحديداً السعودية، لكن اليمن والحراك والحوثيين هم أدوات فقط تستخدمها طهران لتنفيذ أجندتها، ولا نستبعد أن تتعامل حتى مع القاعدة للإضرار بالسعودية».
ومما يزيد الوضع خطورة هو أن ميناء (ميدي) لا يخضع لإشراف ومراقبة السلطات اليمنية المعنية؛ ولهذا طالب وزير النقل في حكومة الوفاق الوطني - الدكتور واعد باذيب - بتسليم ميناء ميدي إلى وزارة النقل.
وأشار الوزير - في مقابلة مع قناة (السعيدة) اليمنية - إلى أن الميناء ليس موجوداً في أصول مؤسسة البحر الأحمر ولا يتبع وزارة النقل.
استغلال القضية الجنوبية للسيطرة على المنافذ البحرية:
نشطت إيران مؤخراً في استقطاب الحراك الجنوبي في الداخل والخارج، إلى الحدِّ الذي ظهرت معه الاتهامات المتبادلة بين الأطراف المختلفة في الحراك بهذا الشأن.
فقد استنكر حسن باعوم - وهو ثاني أكبر زعيم انفصالي جنوبي - علاقة علي سالم البيض بإيران، وقال: «لا نريد من البيض أن يتحول من عميل للشيوعية إلى عميل للشيعة الإيرانية».
ويقول القيادي في الحراك الجنوبي العميد عبدالله الناخبي - في تصريح لـ (الجزيرة نت) -: إن الواقع يفيد بأن أعمال الشغب التي شهدتها عدن مؤخراً، لا سيما التفجيرات وقطع الطرقات؛ يقف وراءها عناصر الحراك التي تدربت في إيران وبدعم من بقايا نظام الرئيس السابق، مضيفاً أن علاقة بقايا النظام السابق بالحراك المسلّح غير خافية، فهناك سيارات وأطقم عسكرية محملة بالسلاح تُسلَّم للقيادات بالحراك التي تنهج العنف، مؤكداً وقوف نجل صالح الذي يقود الحرس الجمهوري وأعوانه وراء تسهيل تصدير السلاح والأموال لعناصر الحراك المسلح.. «لتحقيق مقولة المخلوع إنه إذا رحل عن السلطة ستدخل اليمن في حرب أهلية».
وأضاف أن «التدريبات العسكرية لمجاميع من عناصر الحراك التابعة للبيض تجري في إيران وبإشراف الحرس الثوري، وفي لبنان يتولى تدريبهم (حزب الله)، ومن ثم يعودون إلى عدن لخلق الاضطرابات والفوضى».
وفي الفترة الأخيرة ذكر القيادي البارز في الحراك الجنوبي ورئيس (اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني لأبناء الجنوب) - محمد علي أحمد -؛ أن أغلب قيادات الحراك ذهبوا إلى إيران لاستجدائها من أجل تقديم الدعم، مشيراً إلى أن إيران تريد تحويل الجنوب إلى ميدان صراع طائفي. ولفت في الجلسة الختامية لمؤتمر أبناء الجنوب، إلى أن المد الإيراني في اليمن لا يتوقف عند دعم الحركة الحوثية الشيعية في شمال اليمن، مضيفاً: «إيران طلبت من قيادات الحراك تجنيد وتعليم وتدريب 6500 شاب من الجنوب».
ولم يعد يخفي الانفصاليون الجنوبيون علاقتهم بإيران وترحيبهم بدعمها، فقد سبق أن قال زعيمهم علي سالم البيض: إن «إيران دولة موجودة في المنطقة وقادرة ولها دور كبير، وهي جارة للعرب وسند لهم، وقد ساعدت لبنان وفلسطين وحزب الله، وما من دولة عربية قامت بما تقوم به إيران من أجل تعزيز الصمود في لبنان في وجه إسرائيل».
وفي ديسمبر 2012م قال: «إن كنتُ قد تسلمت أموالاً من إيران، فإني كنت أفعل ذلك لمساعدة شعبي».
وأهم ما تطمع فيه إيران هو الوصول إلى مضيق (باب المندب) الذي يعتبر من أهم الممرات المائية في العالم، وهو ما يمثل تحكماً وتهديداً في الوقت ذاته لطرق الملاحة والإمداد العالمية.
استهداف المناطق السنية:
كشف مصدر حكومي يمني رفيع - لصحيفة (السياسة) الكويتية -، أن إيران أنفقت نحو بليون دولار لدعم مخططها لفصل الجنوب، وأنها رصدت ضعف هذا المبلغ لمواصلة تنفيذ المخطط وإقامة دولتين. واتهم المصدر - الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه - طهران باستغلال الأزمة والأوضاع الاقتصادية المتردية التي مرَّ بها اليمن عام 2011م، وأنها قامت باستقطاب نحو 1200 شاب من صنعاء وعدن وتعز وصعدة، ومناطق أخرى، من بينهم شيعة وسنة، وإرسالهم إلى سورية وبيروت؛ لتلقي تدريبات عسكرية على يد مقاتلي (حزب الله)، وأنها نقلتهم إلى مدينة (قُم) الإيرانية لمواصلة دارستهم الدينية هناك. وعبّر المصدر عن مخاوفه من تحويل هذا العدد الكبير من شباب اليمن إلى خلايا تخريبية تتحكم فيها إيران للقيام بأعمال تجسسية وتخريبية تخدم مصالح طهران عندما تعيدهم إلى بلادهم.
وهناك ابتعاث لطلاب يمنيين يجري على أشُده لإكمال الدراسات الدينية وبعض التخصصات الأخرى في إيران، وهو يحظى بدخول مجموعات «سنية» من الشباب ممن يرون في ذلك فرصة للخروج من مأزق «الحال الواقف» في اليمن.
وبعض هؤلاء شكلوا خلايا تجسس تعمل لصالح إيران. فقد أكد مصدر أمني يمني أن الأجهزة الأمنية أحرزت تقدماً في تفكيك خلايا إرهابية في مدينة تعز ترتبط بصورة مباشرة بـ «الحرس الثوري الإيراني».
وتعدّ محافظة تعز واحدة من أهم المناطق اليمنية السُّنية التي يستهدفها المشروع الإيراني مذهبياً وسياسياً وأمنياً. ويرى الخبير اليمني في علم الاجتماع السياسي - الدكتور عبد الملك محمد عبد الله عيسى -، أن الوجود السياسي للحوثيين في تعز أدى إلى دخول العامل الديني في الصراع داخل المحافظة، «رغم أنها مكون ديني واحد، وهو الشافعية».. وقال إن هذا العامل «يدفع - بحكم تركيبة المجتمع المناطقية والدينية والانقسامات العشائرية الموجودة في اليمن - إلى رد فعل»؛ فوجود الحوثيين في تعز «سيؤدي إلى نشوء طرف آخر موازٍ» لهم؛ «من أجل الحفاظ على الهوية»، موضحاً أن «هذا شيء طبيعي في تدافع الجماعات الدينية والجماعات التقليدية».
من جهته، أشار محافظ محافظة تعز السابق - حمود خالد الصوفي - إلى أن «تعز تطل على باب المندب، وتقع في أهم مكان في الجغرافيا الإقليمية». وقال: «نحن الآن في الوطن كله وفي تعز بالذات محاصرون بالأساطيل وبالفوضى في الصومال وبالتواجد الإيراني والإسرائيلي في المنطقة».
ختاماً:
يظهر مما سبق أن السياسة الإيرانية لا تختلف كثيراً عن سياسات الدول الاستعمارية، حيث تتدثر بالشعارات البرّاقة لتعيث في الأرض الفساد، ولسان حالها يقول: «إنما نحن مصلحون»، بينما الواقع يقول: «إنهم هم المفسدون». فقد دمر الاتحاد السوفييتي جزءاً واسعاً من العالم تحت شعار مقاومة «الرجعية والإمبريالية»، والغرب جاء بشعار «الحرية، والديمقراطية، وحرية الإنسان» كغطاء لنشر الدمار والخراب في الأرض.. وها هي إيران تسير على نفس الدرب رافعةً بإحدى يديها شعارات «الممانعة» و«الموت لإسرائيل وأمريكا»، بينما اليد الأخرى تبطش بالمسلمين سفكاً وتنكيلاً، وما أحداث سورية واليمن عن واقع هذا الحال ببعيدة.