في كشف تاريخي مذهل، يفتح علي ناصر محمد، الرئيس الأسبق للجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية، أرشيف ذاكرته ليروي للعالم كيف ولدت أول جمهورية اشتراكية عربية قبل 55 عاماً. الرجل الذي تولى وزارة الدفاع وهو في عمر الـ23 عاماً فقط، يكشف أسرار اللحظة التي غيّرت مصير ملايين اليمنيين إلى الأبد، في شهادة حية قد تكون الأخيرة من آخر الشهود على هذا التحول المصيري.
في برنامج "الجلسة سرية" على قناة القاهرة الإخبارية، انتفض علي ناصر محمد من صمت دام عقوداً ليؤكد أن "عام 1970 شهد بروز الخيار اليساري الاشتراكي كخيار واضح في جنوب اليمن"، مشيراً إلى أنه تولى منصب وزير الدفاع عام 1969، قبل عام كامل من الإعلان الرسمي. فاطمة العامرية، المعلمة التي عاشت تلك الفترة، تتذكر: "كانت أصوات الخطابات الثورية تملأ ساحات عدن، والحماس يسري في عروق كل من آمن بحلم العدالة الاجتماعية."
لم تكن تلك مجرد صدفة تاريخية، بل نتيجة لصراع طويل هيمن فيه التيار اليساري وشكّل البرنامج السياسي للدولة الناشئة. كان العام مليئاً بالتحديات السياسية والعسكرية، تماماً كما حدث في مصر عام 1952، لكن مع طابع اشتراكي أكثر راديكالية. د. محمد الشعيبي، المؤرخ المتخصص في تاريخ جنوب اليمن، يؤكد أن هذا التحول كان كزلزال سياسي هز أركان النظام التقليدي في المنطقة، متأثراً بالمد الاشتراكي الذي اجتاح المنطقة العربية في الستينات.
بينما يحتفل البعض بذكرى تلك التجربة، يحمل آخرون ندوب تجربة مؤلمة. أحمد الجندي، مواطن من عدن، يروي بمرارة كيف فقد ممتلكاته بسبب سياسات التأميم، بينما تشير الإحصائيات إلى أن نظام التعليم المجاني ومحو الأمية حقق نجاحات لافتة خلال تلك الفترة. سالم القحطاني، الموظف الحكومي السابق الذي عمل في وزارة الدفاع، يتذكر "رائحة البخور التي كانت تملأ المساجد خلال احتفالات الإعلان، وملمس الأوراق الرسمية التي غيّرت مجرى التاريخ." اليوم، مع تجدد الصراع في اليمن، تطفو هذه الذكريات لتثير تساؤلات عميقة حول الطريق الذي لم يُسلك.
شهادة علي ناصر محمد اليوم ليست مجرد استرجاع للماضي، بل دعوة لفهم كيف تُولد الثورات وتموت، وكيف يمكن للتاريخ أن يكون مرآة للحاضر. في عالم يشهد تقلبات سياسية مستمرة، تبقى دروس تلك التجربة - بنجاحاتها وإخفاقاتها - منارة للتأمل. فهل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه، أم أن الدروس المستفادة ستقود اليمن لمسار مختلف نحو الوحدة والاستقرار؟