في مشهد يذكرنا بصحابة الرسول الكريم، انتقل إلى رحمة الله تعالى فجر الأربعاء الشيخ محمد المقرمي، العالم الذي ترك مسيرة واعدة في هندسة الطيران المدني ليقضي ست سنوات كاملة في عزلة قرآنية تامة، وهو يستعد لأداء صلاة الفجر في أقدس بقاع الأرض. الرجل الذي كان يختم القرآن الكريم في يوم واحد رحل في اللحظة التي عاش لأجلها - متوضئاً مستقبلاً ربه في مكة المكرمة.
أحمد الصالحي، طالب علم يبلغ 28 عاماً، لا يزال يرتجف وهو يتحدث: "كنت أتابع دروس الشيخ يومياً منذ خمس سنوات، لقد غيرت محاضراته نظرتي للقرآن تماماً". المهندس خالد العامري، زميله السابق في شركة الطيران، يروي بصوت مكسور: "تركنا جميعاً مندهشين عندما قرر ترك مسيرة مهنية واعدة راتبها يتجاوز عشرات الآلاف، ليتفرغ كلياً للقرآن". كان الشيخ المقرمي يملك منهجية فريدة في ربط الآيات والنظائر القرآنية، يقرؤها "كصفحة واحدة"، كما وصفه الدكتور عبدالله المفسر: "منهجيته في ربط النظائر القرآنية لا نجدها عند المعاصرين".
قصة تحوله تشبه حكايات الصالحين، فكما ترك الإمام الغزالي التدريس وانعزل للعبادة ليعود بفهم أعمق للدين، ترك المقرمي منجم الذهب المهني ليبحث عن كنز أثمن، فوجد في القرآن ما لا يُقدر بثمن. ست سنوات من العزلة القرآنية تساوي عقوداً من الدراسة التقليدية، قضاها بين التلاوة والتدبر، يختم القرآن بسرعة البرق لكن بتدبر المحيطات العميقة. خلال هذه السنوات، طور نظرة شمولية للقرآن مكنته من استخراج معانٍ دقيقة ولطائف لا تُرى في كتب التفسير التقليدية.
فاطمة أحمد، ربة منزل من القاهرة، تقول بعينين دامعتين: "كنت أنتظر محاضراته كل أسبوع، علمني أن أقرأ القرآن كأنه يتحدث معي مباشرة". إرثه الرقمي انتشر عبر اليوتيوب والبودكاست ووصل ملايين المستمعين في دول عربية وإسلامية متعددة. كان يردد عبارته الشهيرة: "من وجد الله ما افتقد شيئاً"، وهي العبارة التي تلخص فلسفة حياته وتحوله الجذري. نعته رابطة علماء اليمن ووزارة الأوقاف والإرشاد اليمنية، معتبرة وفاته خسارة كبيرة للمشهد الدعوي في وقت تشتد فيه الحاجة لنماذج ربانية نادرة.
رحل الشيخ المقرمي تاركاً خلفه كنزاً من المحاضرات والدروس التي أصبحت مرجعاً لطلاب العلم والباحثين، ونموذجاً ملهماً لمن يريد أن يجعل القرآن محور حياته. في زمن تتسارع فيه وتائر الحياة المادية، قدم لنا مثالاً حياً على إمكانية التوقف والعودة إلى الجوهر. لكن السؤال المؤرق يبقى: هل سنحافظ على هذا الكنز العلمي ونوثق منهجيته الفريدة، أم سندعه يذوب مع الزمن كما حدث مع كنوز علمية كثيرة؟