أعلن المحقق العدلي في قضية اختفاء الإمام موسى الصدر إخلاء سبيل هنيبعل القذافي مقابل كفالة مالية بلغت 11 مليون دولار، منهياً بذلك عقداً كاملاً من الاحتجاز دون محاكمة فعلية. القرار الذي صدر بعد جلسة استجواب مطولة في بيروت صباح اليوم، يثير تساؤلات حول العدالة والإجراءات القانونية في قضية ظلت عالقة لأكثر من أربعة عقود.
وقال محامي القذافي شربل الخوري إن فريق الدفاع سيرفع طلباً لإلغاء الكفالة التي وصفها بأنها "شرط تعجيزي ومستحيل التنفيذ". الكفالة البالغة 11 مليون دولار تُعد من أعلى المبالغ المسجلة في تاريخ القضاء اللبناني، ما يطرح تساؤلات حول إمكانية تنفيذها عملياً.
عُقدت الجلسة أمام المحقق العدلي القاضي زاهر حمادة في قصر العدل، بحضور فريق دفاع متعدد الجنسيات ضم المحامي الفرنسي لوران بايون واللبناني شربل خوري. كما حضر وكلاء الادعاء عن عائلات الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدرالدين، بمن فيهم رئيس المحامين الدوليين أنطوان عقل وأبناء الضحايا.

خلال الجلسة، نفى القذافي امتلاكه أي معلومات تتعلق بمصير الصدر أو رفيقيه، مؤكداً أنه لم يكن سوى في الثالثة من عمره عند وقوع الحادثة عام 1978. هذه النقطة تُعتبر محورية في القضية، حيث يصعب تصور إمكانية طفل في الثالثة من العمر الاطلاع على معلومات حساسة أو المشاركة في أحداث سياسية معقدة.
وبعد مداولات مطولة، قرر القاضي إخلاء سبيله مع منعه من مغادرة لبنان، على أن يبقى خاضعاً للتحقيق القضائي حتى البت النهائي في القضية. هذا الشرط يعني أن القضية لم تُغلق نهائياً، وأن التحقيقات ستستمر رغم الإفراج المشروط.
ورغم أن عائلة الصحافي عباس بدرالدين وافقت على طلب الإفراج، إلا أنها أبقت على ادعائها ضد القذافي، بينما لم تصدر مواقف علنية مماثلة من عائلتي الصدر ويعقوب. هذا التباين في المواقف يعكس تعقيدات القضية والتوترات المختلفة بين الأطراف المعنية.

ليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها ملف هنيبعل القذافي تفاعلاً قضائياً وسياسياً في لبنان. ففي عام 2019، وجّه وزير العدل اللبناني آنذاك سليم جريصاتي كتاباً إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي، طالب فيه بالتحقق من ظروف توقيف هنيبعل والتأكد من خلوّه من أي مخالفات قانونية. استند جريصاتي في كتابه إلى مراسلات من اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في جنيف.
طالبت منظمات حقوقية عدة في السنوات الماضية بإطلاق سراحه فوراً، معتبرةً أن استمرار احتجازه يحمل أبعاداً سياسية. كما رفع فريق الدفاع شكوى أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف، معتبراً أن توقيفه "تعسفي وغير قانوني". هذه الانتقادات الدولية سلطت الضوء على طول فترة الاحتجاز دون محاكمة عادلة.
هنيبعل القذافي، المولود عام 1975، هو الابن الرابع لمعمر القذافي من زوجته صفية فركاش. بعد سقوط نظام والده عام 2011، لجأ إلى الجزائر ثم إلى سلطنة عمان حيث عاش تحت الإقامة الجبرية. في ديسمبر 2015، دخل إلى لبنان بظروف غامضة، ليختطف لاحقاً في منطقة بعلبك من قبل مجموعة مسلحة قبل تسليمه إلى قوى الأمن الداخلي.

منذ ذلك الحين، بقي القذافي موقوفاً في سجن رومية المركزي، من دون صدور حكم نهائي بحقه. واعتبر فريق دفاعه أن احتجازه لمدة تقارب عشر سنوات من دون محاكمة فعلية يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون اللبناني والمعاهدات الدولية. كما أكد محاموه أن حالته الصحية تدهورت خلال فترة سجنه.
قضية اختفاء الإمام موسى الصدر لا تزال من أكثر الملفات حساسية في لبنان والعالم العربي. الصدر، الذي وُلد في مدينة قم الإيرانية لعائلة لبنانية من الجنوب، برز في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كزعيم ديني وسياسي للطائفة الشيعية. أسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ثم أطلق عام 1974 "حركة المحرومين" التي أصبحت لاحقاً نواة حركة أمل.
في 25 أغسطس 1978، سافر الصدر إلى ليبيا بدعوة رسمية من معمر القذافي سعياً للتوسط بين الفصائل اللبنانية المتنازعة أثناء الحرب الأهلية. لكن بعد ستة أيام، اختفى أثره ورفيقيه بعد لقائهم مسؤولين ليبيين. السلطات الليبية زعمت أنه غادر إلى روما، لكن التحقيقات الإيطالية نفت ذلك، لتتحول القضية إلى لغز سياسي وإنساني دام أكثر من أربعة عقود.
بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، ظهرت معلومات متضاربة حول مصير الصدر. ورغم تشكيل لجان تحقيق مشتركة بين بيروت وطرابلس منذ عام 2012، لم يسجّل أي تقدم فعلي في تحديد مصير الإمام ورفيقيه. كما لم تصدر السلطات الليبية أي بيان رسمي تعليقاً على التطورات الأخيرة، في وقت تشهد البلاد انقساماً بين حكومتين متنافستين.
القرار القضائي اللبناني أثار ردود فعل متباينة. فبينما اعتبر فريق الدفاع أنه انتصار للعدالة بعد سنوات من الاحتجاز غير المبرر، رأى آخرون أن الخطوة تحمل أبعاداً سياسية، وربما تمهّد لإغلاق ملف القضية تدريجياً. الكفالة المالية الباهظة تطرح تساؤلات حول الغاية الحقيقية من هذا المبلغ وإمكانية سداده عملياً.
هذا القرار يأتي في وقت تواجه فيه المنطقة تحديات سياسية وأمنية جديدة، حيث تستمر التطورات في غزة والمفاوضات الدولية لوقف إطلاق النار في جذب الانتباه الإقليمي والدولي. كما يثير التساؤل حول مدى تأثير الضغوط الدولية على القرارات القضائية المحلية، خاصة في القضايا ذات الطابع السياسي المعقد.