في مشهد مرعب يهز الضمير الإنساني، ابتلعت مياه البحر الأحمر 550 روحاً بشرية منذ مطلع العام الجاري فقط، في موجة هجرة جنونية من القرن الأفريقي إلى اليمن المنكوب. والأكثر صدمة أن هذه الأرقام المرعبة لم تردع آلاف المهاجرين الآخرين الذين يراهنون بحياتهم على "قوارب الموت" في رحلة عذاب قد تكون الأخيرة، بحثاً عن حلم بسيط قد يكلفهم كل شيء.
جمال خضير، الذي نجا من رحلة الجحيم قبل 5 سنوات، ما زالت الكوابيس تطارده كل ليلة. "كنا 120 شخصاً في البحر، محشورين كالسردين في قارب متهالك" يروي جمال وهو ينظف السيارات في شوارع صنعاء لإعالة أسرته المكونة من 4 أفراد. "كانت الرحلة تعباً وعطشاً وجوعاً، والذين كانوا في سفينة وراءنا مات الكثير منهم" يضيف بصوت مختنق، بينما فهمي عثمان البالغ من العمر 17 عاماً فقط، يعيش الآن في عدن بعد أن تحدى الموت وانتصر عليه في معركة البقاء الوحشية.
الأرقام تكشف حجم المأساة الحقيقي: 3400 وفاة واختفاء في العقد الأخير، أي بمعدل وفاة واحدة كل يوم تقريباً، بينما سجل عام 2023 وحده دخول 97 ألف مهاجر إلى الأراضي اليمنية. والمفارقة المذهلة أن هؤلاء يختارون اليمن - البلد الذي يعاني من حرب مدمرة منذ عقد كامل - كملاذ أخير من جحيم أوطانهم. حميد بن يحيى الشجني، الباحث في الشؤون العربية، يفسر هذا التناقض: "اليمن كان عبر تاريخه بلداً مضيافاً حتى في أوقات الشدة، والمجتمع اليمني أقل عنصرية مقارنة ببقية شعوب المنطقة".
انهيار مؤسسات الدولة اليمنية وعدم قدرة السلطات على ضبط السواحل ساهما في تحويل البلد إلى ممر مفتوح للمهاجرين اليائسين. معظمهم يعتبر اليمن مجرد محطة مؤقتة قبل الانتقال لاحقاً إلى دول الخليج عندما تتحسن أوضاعهم المادية، لكن الواقع يحتجزهم في دوامة من البؤس والأمل المؤجل. منظمة الهجرة الدولية دقت ناقوس الخطر أمس الأربعاء، داعية لتفكيك شبكات التهريب التي تستغل يأس البشر وتحولهم إلى سلعة رخيصة في تجارة الموت المربحة.
بينما يستعد المزيد من المهاجرين لركوب البحر في الأشهر القادمة، والتوقعات تشير إلى أن أعداد 2025 ستكون أعلى من العام الماضي، يبقى السؤال المؤلم معلقاً في الهواء: كم من الأرواح البريئة ستبتلعها أمواج البحر الأحمر قبل أن يتحرك العالم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المأساة الإنسانية المستمرة؟ الوقت ينفد، والبحر لا يرحم، وأحلام الفقراء تتحول إلى كوابيس تطارد الأحياء والأموات على حد سواء.