في مشهد غيّر معالم أحد أهم المنافذ البحرية في غرب اليمن، بات ميناء رأس عيسى الاستراتيجي في محافظة الحديدة خارج الخدمة تماماً بعد سلسلة من الغارات الجوية الأمريكية المكثفة.
هذا الميناء الذي شكّل لسنوات شرياناً اقتصادياً حيوياً، أصبح الآن مسرحاً للدمار والخسائر البشرية والمادية الفادحة، في تطور درامي يمكن أن يعيد تشكيل خارطة النفوذ والتحكم بالموارد في المنطقة.
تفاصيل الهجوم الجوي على ميناء رأس عيسى:
تحول ميناء رأس عيسى، المنشأة النفطية الاستراتيجية على الساحل الغربي لليمن، إلى هدف لهجوم أمريكي وُصف بأنه "الأكبر" و"الأكثر تأثيراً" منذ بدء الحملة الجوية الأمريكية قبل شهر.
وكشفت التقارير أن المقاتلات الأمريكية نفذت 14 غارة جوية مركزة على المنشأة، مما أدى إلى دمار واسع النطاق في منصات التفريغ والتخزين.
هذا الاستهداف المكثف جاء ضمن استراتيجية أمريكية معلنة تهدف إلى "إضعاف مصدر القوة الاقتصادية" للحوثيين، وفقاً لبيان القيادة المركزية الأمريكية التي أكدت أن الهدف ليس إيذاء الشعب اليمني بل حرمان جماعة الحوثي من مصدر تمويل رئيسي.
وفي حصيلة مأساوية، أعلن الحوثيون ارتفاع عدد ضحايا الهجوم إلى 74 قتيلاً وأكثر من 170 مصاباً، مما يجعل هذه العملية العسكرية الأعنف في سلسلة الاستهدافات الأمريكية منذ انطلاقها.
وأفادت مصادر محلية بأن الغارات استهدفت بشكل أساسي المنشآت النفطية ومنصات التحميل والتفريغ والخزانات، مما أدى إلى اندلاع حرائق هائلة التهمت أجزاء واسعة من الميناء.
وأشارت القيادة المركزية الأميركية إلى أن الضربات نجحت في "تدمير ميناء رأس عيسى بالكامل" وإخراجه عن الخدمة بشكل كلي، مما سيعطل عمليات استيراد النفط وتصديره عبر هذه المنشأة الاستراتيجية.
الميناء كمصدر اقتصادي للحوثيين:
لم يكن ميناء رأس عيسى مجرد منشأة بحرية عادية، بل مثّل منذ عام 2016 ثقلاً اقتصادياً حيوياً للحوثيين وشرياناً مالياً داعماً لعملياتهم.
وكشفت تقارير محلية أن الميناء تحول إلى بوابة رئيسية لتدفق شحنات النفط الإيراني إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة.
وبحسب التقديرات، فإن جماعة الحوثي استطاعت جمع ما يقارب 790 مليون دولار أمريكي من إيرادات البنزين والديزل والغاز الواصلة عبر الميناء في عام واحد فقط.
كما أدت الضرائب الباهظة التي فرضها الحوثيون على النفط والغاز إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 40% في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، حيث وجهت هذه الإيرادات لتمويل الأنشطة العسكرية وشراء الأسلحة وتهريب المعدات.
وعلى الرغم من فرض الولايات المتحدة حظراً على توريد الوقود عبر الميناء في أبريل الماضي، استمرت السفن في التدفق، مما دفع واشنطن إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسماً من خلال استهداف منصة التوريد مباشرة وإخراجها عن الخدمة.
التداعيات المستقبلية على المنطقة
من المتوقع أن يُحدث خروج ميناء رأس عيسى عن الخدمة تصدعاً جوهرياً في البنية الاقتصادية للحوثيين، الذين اعتمدوا بشكل كبير على عائدات النفط والوقود المستورد كمصدر رئيسي للتمويل.
ويرى محللون أن هذه الضربات قد تمثل نقطة تحول في المعادلة الاقتصادية للصراع في اليمن، حيث ستؤدي إلى تقليص قدرة الحوثيين على تمويل عملياتهم العسكرية وشراء الأسلحة.
وفي الوقت نفسه، هناك مخاوف من التأثيرات الإنسانية لهذا الاستهداف، إذ يمكن أن يؤدي نقص الوقود إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، خاصة في قطاعات النقل والكهرباء والصحة.
وتشير التقديرات إلى أن توقف الميناء قد يؤدي إلى ارتفاع أكبر في أسعار المشتقات النفطية، مما يزيد من معاناة السكان الذين يعانون أصلاً من ظروف اقتصادية صعبة في ظل الصراع المستمر.
وعلى الصعيد الاستراتيجي، يمثل استهداف ميناء رأس عيسى تحولاً في النهج الأمريكي تجاه الصراع في اليمن، حيث تسعى واشنطن إلى ضرب مصادر تمويل الحوثيين بدلاً من الاكتفاء بالعمليات العسكرية المباشرة.
ويعتبر الميناء، الذي بُني عام 1986 كمحطة عائمة لتصدير النفط، منشأة استراتيجية بامتياز نظراً لسعته التخزينية البالغة 3 ملايين برميل وقدرته على استقبال أكثر من 50 سفينة وناقلة بفضل أعماقه الطبيعية التي تصل إلى 50 متراً.
وتُثير هذه التطورات تساؤلات حول البدائل المتاحة أمام الحوثيين لتعويض هذه الخسارة الاقتصادية الكبيرة، وما إذا كانت ستدفعهم إلى مزيد من التصعيد أو قد تشكل ضغطاً يدفعهم نحو طاولة المفاوضات في نهاية المطاف. وستكون الأيام والأسابيع القادمة حاسمة في تحديد مسار هذه الأزمة ومدى تأثيرها على المشهد اليمني ككل.
أما الآن، فقد بات الميناء الذي كان يتمتع بمميزات استثنائية من حيث الموقع وقربه من الساحل وعمقه الذي أهّله لاستقبال ناقلات النفط العملاقة، خارج الخدمة تماماً، مخلفاً فراغاً اقتصادياً ولوجستياً قد يستغرق إعادة ملئه وقتاً طويلاً، خاصة في ظل الأوضاع المعقدة التي تشهدها اليمن واستمرار الصراع فيها.
