حجة الفن في اليمن والجزيرة العربية بشكل عام.. الشاعر والفنان حسين أبو بكر المحضار واحد من أهم الأسماء التي من غير الممكن سقوطها من ذاكرة المتلقي والمحب لفن هذا الرجل الذي ملأ دنيانا فنا وعطاء ليس له حدود، والتقى بفنه وإبداعاته بكثير من فناني المملكة واليمن ودول مجلس التعاون، إلى جانب حناجر عربية كبيرة من غير أبناء المنطقة رددت إبداعه الفني، منهم وليد توفيق، راغب علامة والراحلة وردة الجزائرية وغيرهم الكثير. من الجديد الذي حرك سيرة هذا الفنان الكبير المحضار هو وفاة ابنه الوحيد محضار عن 52 عاما يوم الأحد الماضي، والذي ووري الثرى في حضرموت الثلاثاء بجوار قبر أبيه الشاعر الكبير ووالدته أيضا في الشحر في مقبرة الشيخ أحمد. كذلك أقام آل المحضار ومريدوه ومحبو فنه قبل ذلك، الجمعة الماضية، أمسية في جدة المدينة التي أحب وعمل فيها مع كبار فنانيها عن حياة المحضار شملت محاضرة للمؤرخ رياض باشراحيل الذي سبق له تقديم دراسة عن تاريخ المحضار وفنه تحولت إلى كتاب توثيقي.
ثم قدمت الفرقة الموسيقية، رفقة عدد من المطربين، الكثير من أبرز ما قدمه المحضار من أغنيات في مراحل مختلفة من حياته الحافلة بالإنجاز الفني والأدبي الذي سكن وجدان الناس، والتي كان منها: «عنب في غصونه، ذا اللي حصل من بعد، يا طير يا ضاوي إلى عشك، ليلة الفرح تذكر، الوداع، ولا بالاولة منك ولا هي الثانية»، وغيرها الكثير من أعماله الكبيرة.
من هو ؟
وحسين أبو بكر المحضار توفي في الخامس من فبراير عام 2000، الموافق 30 شوال 1420 في بلده اليمن، وتحديدا في الشحر ــ حضرموت، بعد رحلات علاج متعددة في المملكة خضع فيها للعلاج طويلا، المحضار من مواليد الشحر عام 1930، وله من الأبناء محضار (توفي الأحد الماضي) وأربع بنات متزوجات، ومن آميز صفات الإبداع لديه أنه رحل وهو يملك ناصية الكلام والموسيقى؛ لدرجة كان فيها إبداعه قبل رحيله ليس بحال من الأحوال أقل تألقا من عطاء شبابه. وكنت قد تصديت لبعض محاولات النيل من مستواه وعطائه الإبداعي التي أطلقها البعض جاء فيها: ومن أجل الاستيضاح أكثر اتجهت إلى المؤرخ لحياته وفنه رياض باشراحيل الذي أكد أن البعض يردد أن شعر المحضار في أواخر سني عمره كان أقل جودة وقوة من شعره في مطلع حياته.. وقال: «هذا طرح غير موضوعي لأنه لم يمس المحضار فحسب، ولكنه اتهام طال كبار شعراء العربية، ومنهم المتنبي وأمير الشعراء أحمد شوقي، وإن كان هذا حكما، فهو حكم ظالم لأنه يتجاهل سنة من أهم سنن الحياة عند كل البشر وليس المبدعين فحسب، ومنهم الشعراء، فمهما علا شأن الشاعر أو قصر فلا بد لشعره أن يواكب التغيير في حياته بحسب عمره.. فالتقدم بالعمر يعني زيادة النضج والتجربة ونمو مشاعره مع نمو المرحلة العمرية التي يعيش فيها. إذ أن الشاعر في كهولته ــ مثلا ــ لا بد أن يختلف قليلا أو كثيرا عنه في شبابه، وذلك بتأثير الدم الذي يجري في عروقه وتفتح وعيه، لان للشباب فورة وحرارة، وهو زمن العواطف الساخنة والمشاعر المتدفقة والأحاسيس الجارفة التي تجرف كالسيل كل شيء أمامها، والشاعر في هذه المرحلة يغرق في أحاسيس الشباب وأحلامه وعشقه، وتروق له المشاهد الجذابة والجمال البراق والحسن وفتنته فتنطق بكل ذلك قصائده، أما شعره في الكهولة أو الشيخوخة ــ أي في زمن النضج والاتزان، إن جاز التعبير ــ لا شك أن يكون انعكاسا للمرحلة التي يمر بها الشاعر، ففي هذه المرحلة يركن إلى التفكير والتأمل والاتزان، بدلا من التدفق والحواس والأحلام، ويلجأ إلى الأسلوب النقي الصافي الذي لا ينشأ جماله من زينة لامعة، وإنما ينشأ من تناسق دقيق تام في الأداء والتعبير محتفظا في إبداعه الأخير بالحكمة وغنى التجربة الإنسانية وشرارة النبوغ وسحرها وجاذبيتها. لأن الشاعر يتطور مع نهر الزمن فيتطور معه شعره، ويكون هنا الاختلاف بين الشعر القديم والشعر الجديد عند كل الشعراء، ومنهم المحضار».. كان هذا ما نشرته قبلا في حوار مع رياض باشراحيل، وعن الإصدار الذي أثرى به الزميل باشراحيل المكتبة الفنية كان قد كتب الزميل نضال قحطان ما يلي:
«الشاعر والمؤلف ارتبطا ببعضهما بعلاقة وطيدة وعميقة، وكان باشراحيل يقوم بجمع شعره ويوثق خواطره ويلازمه في رحلاته وتنقلاته المختلفة، حيث دون منطوقه من وحي اللحظات الآنية وكون أرشيفا لما كتب عنه وأعد له ديوانيه الأخيرين (حنين العشاق) و(أشجان العشاق)، ومن ثم قام برصد أعماله خلال الـ 15 عاما الأخيرة من حياته فكتب وروى عنه الكثير في مشاركته من خلال الصحف والمجلات والفضائيات».
أما الكاتبة الكبيرة الدكتورة عزيزة المانع الأستاذة في جامعة الملك سعود، فتساءلت في مقال لها «المحضار.. شاعر للحب أم للمحرومين!!»، والذي جاء فيه:
«كانت بداية معرفتي الحقيقية بشعر الشاعر حسين أبو بكر المحضار، حين زرت حضرموت ضمن مجموعة من المثقفين السعوديين بدعوة من المهندس عبدالله بقشان، فأتاحت لي تلك الزيارة أن أتعرف على كثير من معالم حضرموت العريقة في تاريخها وثقافتها ومنشآتها العمرانية، وكذلك مشروعاتها الثقافية الحديثة التي ترعاها نخبة من أبناء حضرموت المخلصين مثل التعريف بالثقافة والفكر الحضرمي، ومن ذلك إهداء زوار حضرموت كتابا تعريفيا بشاعر حضرموت الأول حسين أبو بكر المحضار. فكان ذلك الكتاب بداية علاقتي الجميلة بشعر المحضار.
قد يعرف الناس المحضار شاعرا غنائيا يصدح بألحان الحب والشوق والوجد مما اشتهر به الشعر الغنائي، ولكن لعل القليل منهم الذين يعرفونه ذا اهتمامات أخرى غير تلك، كالاهتمامات التي تتصل بجوانب الحياة السياسية والاجتماعية والإنسانية، فالشاعر لم يكن صاحب قصائد حب فحسب، وإنما كان منغمسا إلى العمق فيما كان يجري في بلاده من أحداث سياسية واجتماعية تثير ألمه وتحرك شجونه فيمتشق قلمه ليغرق في بحور الشعر متخففا من تلك الآلام. من يقرأ شعار المحضار وما كان يلامس فيه من قضايا السياسة ومعاناة الفقراء ومظاهر الفساد وغيرها من صور الانحرافات السياسية والاجتماعية، يلحظ مدى التشابه بينه وبين شاعر مصر الشعبي بيرم التونسي، فكلاهما كان ينسج شعره من خيوط معاناة الطبقة الفقيرة والبائسة في مجتمعه».
الفن والسياسة في شعر المحضار
والمحضار كما وصف كثيرا ركب سفينة الفن لينجو من نيران السياسة بمعنى أنه استطاع أن يخدم أهدافه السياسية بصور اجتماعية شعرية قد لا تبدو أمام البعض سوى أغنية عاطفية، الامر الذي يدلل على حرفيته الكبيرة. وحسين أبو بكر المحضار الذي ملأ دنيا الفن في اليمن والمملكة والجزيرة العربية ككل بأعماله الفنية الكبيرة، كان أبو بكر سالم بلفقيه وطلال مداح ومحمد عبده وعبدالله الرويشد ومحمد عمر وكرامة مرسال وعبدالمجيد عبدالله ونبيل شعيل هم من صدح بأغنياته ونصوصه. ولعل معظمنا يتذكر محمد عبده وهو ينشد بعض نصوصه، وكذلك طلال مداح.
وفي عودة لكتاب «المحضار مرآة عصره» نجد أن محطات الوفاء الصادق للشاعر الراحل الكبير ليؤرخ شعره الغنائي السياسي والاجتماعي الذي يعبر فيه عن أوضاع وطنه (اليمن) والعواصف السياسية التي حلت به خلال المرحلة (1963 ــــ 1990)، حيث استطاع بذكائه الوقاد وبصيرته الفذة أن يرتفع عليها ويركب سفينة نوح، ويتخلص منها ويخرج سالما في كل مرة فيصدق المحضار عندما قال: «ودخلت أنا وخرجت صاحي.. والموج من كل النواحي.. مجراي في مجرى سفينة نوح». ولعل تفوق المحضار في أخلاقه وسلامة فطرته وسمو سجاياه كان أحد أسباب حب الناس له، إضافة إلى تفوقه الفني.. فالمحضار بفطرته مهذب النفس كريم الأخلاق لا يعرف الحقد أو الانتقام أو العناد إلى قلبه سبيلا عندما يضمك مجلس معه أو تستمع إلى حديثه.
ويقسم الشعر الاجتماعي عند المحضار إلى قسمين الشعر الاجتماعي العام، والشعر الاجتماعي الذي يعد الفعل السياسي سببا مباشرا فيه. ومن الشعر الاجتماعي قصيدة «عصماء» قالها في حفل تكريم البعثة التعليمية السعودية في مسقط رأسه الشحر عام 1964م. والباب الرابع يتحدث عن الرؤى الفكرية والفنية في شعره، وتفاعل الشاعر مع المتغيرات السياسية والاجتماعية في وطنه، وقد برزت هنا البراعة التصويرية عند المحضار، عندما صاغ شعرا قضية جادة من قضايا الواقع بدقة متناهية داخل إطار من النقد والتهكم والفكاهة والسخرية، مثلما جاء في أبياته التي تصور أزمة الشباب مع العمل بعد أداء الخدمة العسكرية في اليمن والتي قال في مطلعها على لسان الشاب:
«خلصت خدمتي باسافر..
قالوا جلس تمم القاصر..
سنتين عدت وأنا صابر..
محسوف ومرتي محسوفة..
قلت العمل قالوا اتصبر..
لما قد النفط يتكرر..
وتكرر النفط وتبخر..
ولعاد شفت العمل شوفه»
.. صحيح أن الأبيات بسيطة وفكاهية، ولكن دلالاتها أعمق بكثير، فالشاعر لم يكتب هذا لغرض التسلية أو الترويح عن النفس، ولكنه كتبه للنقد بهدف تصحيح أوضاع الشباب وتوفير العمل المناسب لهم والبحث لمشاكلهم عن حلول ومخارج.
ويذكي هذا الباب مكانة المحضار الشعرية والفنية، وفي هذا الباب سجل عمالقة الطرب والشعر والموسيقى والنقد الفني من مبدعين ونقاد وأساتذة الجامعات شهاداتهم في شعر المحضار وألحانه وفنه الغنائي، وأشادوا بمكانته على المستوى العربي، ومنهم: الشاعر العربي المصري عبدالرحمن الأبنودي والشاعر العربي العراقي المرحوم عبدالوهاب البياتي، ومن اليمن د. عبدالعزيز المقالح، ومن المملكة الشاعر د. محمد عبود العمودي. وما وصل إليه المحضار من نجاح كبير وشهرة واسعة كان بفضل عاملين رئيسيين استطاع أن يصل بهما إلى قلوب الناس والتأثير فيها، أولهما: مواهبه الكبيرة شعرا وتلحينا، وثانيهما تجربة غنية استقاها من معين البيئة الحضرمية الثرية في بلده الشحر، هذه البيئة فتحت أمامه نوافذ للاطلاع على تراثه وتجارب معاصريه في آن معا، أثرت موهبته وتجربته في الشعر والفن.. وهو بلا شك ــ كما يقول المؤرخ رياض باشراحيل:
«مدرسة مستقلة من مدارس الغناء في منطقتنا. نال ما يستحقه من اهتمام جماهيري، إذ وضعه عشاق الطرب في جزيرة العرب في حدقات عيونهم، وكانت الجماهير تسأل عند صدور ألبومات غنائية لبعض المطربين ممن يشدون بأغنياته إذا ما كان فيها للمحضار أغنيات، وبعض الناس قد يعزف عن شراء الألبوم لعدم وجود أعمال غنائية محضارية فيه، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، وهذا الموقف الشعبي من إبداع المحضار دليل على منزلته العالية في وجدان جمهوره. إلا أنه لم ينل في حياته ولا بعد وفاته ما يستحقه من اهتمام إعلامي يليق بمكانته الشعرية والغنائية».
وكنا في «عكاظ» قد قدمنا الشاعر المحضار طوال الثلاثين عاما الماضية بما يليق به من مكانة الشعراء الكبار، كما اهتممنا بمرافقته أثنا ء فترة علاجه في جدة أواخر أيامه، صحبة ربيبه الشاعر الكبير سالم بن علي المتواجد في حضرموت اليوم.
من أشهر أعماله
من أكثر أعماله المنتشرة عربيا مع زميله أبو بكر سالم بلفقيه، مثل «باشل حبك معي، يا زارعين العنب، يا طير يا ضاوي (كما الريشة)، سر حبي فيك غامض، على ضو ذا الكوكب الساري، يا جارنا، يا مسافر ع البلاد، يا حامل الأثقال خففها شوي، بين صندوق الكتب والطوابع، أعود له من بعد ما خانني.. استغفر الله، أسعد زمان الحب من وعدك إلى ألقاك، أساس النكد والجبر من كلمة، ولو حتى بكف الإشارة، خذ من الهاشمي ما تريده، قال بو محضار، قال من باتت دموعه سواكب، ما مع العاشق بصر غير الدموع، بداية الهجران غفوة»، ومع محمد عبده «وينك يا درب المحبة، ليلة الفرح» ومع طلال مداح «عنب في غصونه، ذا اللي حصل من بعد»، ومع عبدالله الرويشد " أنا باتبع قلبي ما علي بالناس، عويشق عسى الله يعينه»، ومع عبدالمجيد عبدالله «الله الله بالأمانة، طاب سمعون وادينا»، ومع محمد مرشد ناجي «دار الفلك دار، دعوة الأوطان، مكانه جبحكم يا آل باكرمان، فيه العسل ما غبه النوب».
آخر نشاط في ذكراه
وفي ذكرى الرحيل الأخيرة (الثانية عشرة) للرجل، الذي سجل في حياته حضورا طاغيا على خارطة الشعر والغناء والطرب في الخليج وجزيرة العرب، وتغنى بأغنياته الكبار والصغار؛ ووفاء لدوره الإبداعي والثقافي في تطوير ونشر الأغنية اليمنية، وتحديدا الحضرمية، وعرفانا بمكانته المتميزة بين شعراء وملحني عصره على المستوى العربي، كانت الشحر والمكلا وأبناء المدينتين من شعراء وأدباء ومثقفي محافظة حضرموت نظموا خلال أيام وأمسيات الكثير من الأنشطة الإبداعية، تحت إشراف مكتب وزارة الثقافة والسلطة المحلية في مديرية الشحر، وتحت رعاية المحافظة. وكانت البداية بندوة ثقافية عقدت بقاعة تعاونية صيادي الشحر احتضنت محاضرة وحلقة نقاشية ،بعنوان «التجليات السياسية والإبداعية عند المحضار» حاضر فيها الباحث رياض عوض باشراحيل. كما تخللت الندوة كلمة السلطة المحلية في الشحر، ألقاها المدير العام في المديرية حسين محمد باداهية العمودي، وألقى الشاعران جمال عبدالله حميد ومحمد سالم بن داؤود قصائد شعرية أشادت بتجربة الفقيد المحضار الشعرية وعطاءاته الفنية المختلفة. كما نظم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في حضرموت في نفس الفعالية أمسية حفل توقيع للكتاب. فيما قدم نائب رئيس اتحاد الأدباء والكتاب بساحل حضرموت الدكتور عبد القادر باعيسى قراءة نقدية لكتاب باشراحيل عن حياة الشاعر المحضار، أشاد فيها بجهود المؤلف والوجه التاريخي والفني للكتاب، مستعرضا بعضا من إبداعات ومزايا المحضار الشعرية، حضرها عدد من الباحثين والأدباء والمثقفين والإعلاميين والمهتمين.. قصائد ومداخلات دعت إلى مزيد من البحث وأرشفة أعمال المحضار في الشعر الغنائي والأوبريتات، ومنها أوبريت «بنت اليمن»، مع زميله أو ابنه في حياة الإبداع محمد المحضار. والمساجلات الشعرية وإبراز أعماله للجيل الجديد والمهتمين والباحثين في الشأن الشعبي والتراثي.
في رثاء بن سهل للمحضار
وكان الشاعر الدكتور حسين بن سهل قد القى قصيدة رثاء في الأمسية التأبينية للمحضار جاء فيها:
يا دمعة الحزن في الخد تنحدر
هذا قضاء الإله الحق والقدر
هذا سليل التقى والمجد شاعرنا
في موكب حوله الأكباد تنفطر
من كل صوب أتته الخلق باكية
قد هدها الهول والإعياء والسهر.
" عكاظ " السعودية
ثم قدمت الفرقة الموسيقية، رفقة عدد من المطربين، الكثير من أبرز ما قدمه المحضار من أغنيات في مراحل مختلفة من حياته الحافلة بالإنجاز الفني والأدبي الذي سكن وجدان الناس، والتي كان منها: «عنب في غصونه، ذا اللي حصل من بعد، يا طير يا ضاوي إلى عشك، ليلة الفرح تذكر، الوداع، ولا بالاولة منك ولا هي الثانية»، وغيرها الكثير من أعماله الكبيرة.
من هو ؟
وحسين أبو بكر المحضار توفي في الخامس من فبراير عام 2000، الموافق 30 شوال 1420 في بلده اليمن، وتحديدا في الشحر ــ حضرموت، بعد رحلات علاج متعددة في المملكة خضع فيها للعلاج طويلا، المحضار من مواليد الشحر عام 1930، وله من الأبناء محضار (توفي الأحد الماضي) وأربع بنات متزوجات، ومن آميز صفات الإبداع لديه أنه رحل وهو يملك ناصية الكلام والموسيقى؛ لدرجة كان فيها إبداعه قبل رحيله ليس بحال من الأحوال أقل تألقا من عطاء شبابه. وكنت قد تصديت لبعض محاولات النيل من مستواه وعطائه الإبداعي التي أطلقها البعض جاء فيها: ومن أجل الاستيضاح أكثر اتجهت إلى المؤرخ لحياته وفنه رياض باشراحيل الذي أكد أن البعض يردد أن شعر المحضار في أواخر سني عمره كان أقل جودة وقوة من شعره في مطلع حياته.. وقال: «هذا طرح غير موضوعي لأنه لم يمس المحضار فحسب، ولكنه اتهام طال كبار شعراء العربية، ومنهم المتنبي وأمير الشعراء أحمد شوقي، وإن كان هذا حكما، فهو حكم ظالم لأنه يتجاهل سنة من أهم سنن الحياة عند كل البشر وليس المبدعين فحسب، ومنهم الشعراء، فمهما علا شأن الشاعر أو قصر فلا بد لشعره أن يواكب التغيير في حياته بحسب عمره.. فالتقدم بالعمر يعني زيادة النضج والتجربة ونمو مشاعره مع نمو المرحلة العمرية التي يعيش فيها. إذ أن الشاعر في كهولته ــ مثلا ــ لا بد أن يختلف قليلا أو كثيرا عنه في شبابه، وذلك بتأثير الدم الذي يجري في عروقه وتفتح وعيه، لان للشباب فورة وحرارة، وهو زمن العواطف الساخنة والمشاعر المتدفقة والأحاسيس الجارفة التي تجرف كالسيل كل شيء أمامها، والشاعر في هذه المرحلة يغرق في أحاسيس الشباب وأحلامه وعشقه، وتروق له المشاهد الجذابة والجمال البراق والحسن وفتنته فتنطق بكل ذلك قصائده، أما شعره في الكهولة أو الشيخوخة ــ أي في زمن النضج والاتزان، إن جاز التعبير ــ لا شك أن يكون انعكاسا للمرحلة التي يمر بها الشاعر، ففي هذه المرحلة يركن إلى التفكير والتأمل والاتزان، بدلا من التدفق والحواس والأحلام، ويلجأ إلى الأسلوب النقي الصافي الذي لا ينشأ جماله من زينة لامعة، وإنما ينشأ من تناسق دقيق تام في الأداء والتعبير محتفظا في إبداعه الأخير بالحكمة وغنى التجربة الإنسانية وشرارة النبوغ وسحرها وجاذبيتها. لأن الشاعر يتطور مع نهر الزمن فيتطور معه شعره، ويكون هنا الاختلاف بين الشعر القديم والشعر الجديد عند كل الشعراء، ومنهم المحضار».. كان هذا ما نشرته قبلا في حوار مع رياض باشراحيل، وعن الإصدار الذي أثرى به الزميل باشراحيل المكتبة الفنية كان قد كتب الزميل نضال قحطان ما يلي:
«الشاعر والمؤلف ارتبطا ببعضهما بعلاقة وطيدة وعميقة، وكان باشراحيل يقوم بجمع شعره ويوثق خواطره ويلازمه في رحلاته وتنقلاته المختلفة، حيث دون منطوقه من وحي اللحظات الآنية وكون أرشيفا لما كتب عنه وأعد له ديوانيه الأخيرين (حنين العشاق) و(أشجان العشاق)، ومن ثم قام برصد أعماله خلال الـ 15 عاما الأخيرة من حياته فكتب وروى عنه الكثير في مشاركته من خلال الصحف والمجلات والفضائيات».
أما الكاتبة الكبيرة الدكتورة عزيزة المانع الأستاذة في جامعة الملك سعود، فتساءلت في مقال لها «المحضار.. شاعر للحب أم للمحرومين!!»، والذي جاء فيه:
«كانت بداية معرفتي الحقيقية بشعر الشاعر حسين أبو بكر المحضار، حين زرت حضرموت ضمن مجموعة من المثقفين السعوديين بدعوة من المهندس عبدالله بقشان، فأتاحت لي تلك الزيارة أن أتعرف على كثير من معالم حضرموت العريقة في تاريخها وثقافتها ومنشآتها العمرانية، وكذلك مشروعاتها الثقافية الحديثة التي ترعاها نخبة من أبناء حضرموت المخلصين مثل التعريف بالثقافة والفكر الحضرمي، ومن ذلك إهداء زوار حضرموت كتابا تعريفيا بشاعر حضرموت الأول حسين أبو بكر المحضار. فكان ذلك الكتاب بداية علاقتي الجميلة بشعر المحضار.
قد يعرف الناس المحضار شاعرا غنائيا يصدح بألحان الحب والشوق والوجد مما اشتهر به الشعر الغنائي، ولكن لعل القليل منهم الذين يعرفونه ذا اهتمامات أخرى غير تلك، كالاهتمامات التي تتصل بجوانب الحياة السياسية والاجتماعية والإنسانية، فالشاعر لم يكن صاحب قصائد حب فحسب، وإنما كان منغمسا إلى العمق فيما كان يجري في بلاده من أحداث سياسية واجتماعية تثير ألمه وتحرك شجونه فيمتشق قلمه ليغرق في بحور الشعر متخففا من تلك الآلام. من يقرأ شعار المحضار وما كان يلامس فيه من قضايا السياسة ومعاناة الفقراء ومظاهر الفساد وغيرها من صور الانحرافات السياسية والاجتماعية، يلحظ مدى التشابه بينه وبين شاعر مصر الشعبي بيرم التونسي، فكلاهما كان ينسج شعره من خيوط معاناة الطبقة الفقيرة والبائسة في مجتمعه».
الفن والسياسة في شعر المحضار
والمحضار كما وصف كثيرا ركب سفينة الفن لينجو من نيران السياسة بمعنى أنه استطاع أن يخدم أهدافه السياسية بصور اجتماعية شعرية قد لا تبدو أمام البعض سوى أغنية عاطفية، الامر الذي يدلل على حرفيته الكبيرة. وحسين أبو بكر المحضار الذي ملأ دنيا الفن في اليمن والمملكة والجزيرة العربية ككل بأعماله الفنية الكبيرة، كان أبو بكر سالم بلفقيه وطلال مداح ومحمد عبده وعبدالله الرويشد ومحمد عمر وكرامة مرسال وعبدالمجيد عبدالله ونبيل شعيل هم من صدح بأغنياته ونصوصه. ولعل معظمنا يتذكر محمد عبده وهو ينشد بعض نصوصه، وكذلك طلال مداح.
وفي عودة لكتاب «المحضار مرآة عصره» نجد أن محطات الوفاء الصادق للشاعر الراحل الكبير ليؤرخ شعره الغنائي السياسي والاجتماعي الذي يعبر فيه عن أوضاع وطنه (اليمن) والعواصف السياسية التي حلت به خلال المرحلة (1963 ــــ 1990)، حيث استطاع بذكائه الوقاد وبصيرته الفذة أن يرتفع عليها ويركب سفينة نوح، ويتخلص منها ويخرج سالما في كل مرة فيصدق المحضار عندما قال: «ودخلت أنا وخرجت صاحي.. والموج من كل النواحي.. مجراي في مجرى سفينة نوح». ولعل تفوق المحضار في أخلاقه وسلامة فطرته وسمو سجاياه كان أحد أسباب حب الناس له، إضافة إلى تفوقه الفني.. فالمحضار بفطرته مهذب النفس كريم الأخلاق لا يعرف الحقد أو الانتقام أو العناد إلى قلبه سبيلا عندما يضمك مجلس معه أو تستمع إلى حديثه.
ويقسم الشعر الاجتماعي عند المحضار إلى قسمين الشعر الاجتماعي العام، والشعر الاجتماعي الذي يعد الفعل السياسي سببا مباشرا فيه. ومن الشعر الاجتماعي قصيدة «عصماء» قالها في حفل تكريم البعثة التعليمية السعودية في مسقط رأسه الشحر عام 1964م. والباب الرابع يتحدث عن الرؤى الفكرية والفنية في شعره، وتفاعل الشاعر مع المتغيرات السياسية والاجتماعية في وطنه، وقد برزت هنا البراعة التصويرية عند المحضار، عندما صاغ شعرا قضية جادة من قضايا الواقع بدقة متناهية داخل إطار من النقد والتهكم والفكاهة والسخرية، مثلما جاء في أبياته التي تصور أزمة الشباب مع العمل بعد أداء الخدمة العسكرية في اليمن والتي قال في مطلعها على لسان الشاب:
«خلصت خدمتي باسافر..
قالوا جلس تمم القاصر..
سنتين عدت وأنا صابر..
محسوف ومرتي محسوفة..
قلت العمل قالوا اتصبر..
لما قد النفط يتكرر..
وتكرر النفط وتبخر..
ولعاد شفت العمل شوفه»
.. صحيح أن الأبيات بسيطة وفكاهية، ولكن دلالاتها أعمق بكثير، فالشاعر لم يكتب هذا لغرض التسلية أو الترويح عن النفس، ولكنه كتبه للنقد بهدف تصحيح أوضاع الشباب وتوفير العمل المناسب لهم والبحث لمشاكلهم عن حلول ومخارج.
ويذكي هذا الباب مكانة المحضار الشعرية والفنية، وفي هذا الباب سجل عمالقة الطرب والشعر والموسيقى والنقد الفني من مبدعين ونقاد وأساتذة الجامعات شهاداتهم في شعر المحضار وألحانه وفنه الغنائي، وأشادوا بمكانته على المستوى العربي، ومنهم: الشاعر العربي المصري عبدالرحمن الأبنودي والشاعر العربي العراقي المرحوم عبدالوهاب البياتي، ومن اليمن د. عبدالعزيز المقالح، ومن المملكة الشاعر د. محمد عبود العمودي. وما وصل إليه المحضار من نجاح كبير وشهرة واسعة كان بفضل عاملين رئيسيين استطاع أن يصل بهما إلى قلوب الناس والتأثير فيها، أولهما: مواهبه الكبيرة شعرا وتلحينا، وثانيهما تجربة غنية استقاها من معين البيئة الحضرمية الثرية في بلده الشحر، هذه البيئة فتحت أمامه نوافذ للاطلاع على تراثه وتجارب معاصريه في آن معا، أثرت موهبته وتجربته في الشعر والفن.. وهو بلا شك ــ كما يقول المؤرخ رياض باشراحيل:
«مدرسة مستقلة من مدارس الغناء في منطقتنا. نال ما يستحقه من اهتمام جماهيري، إذ وضعه عشاق الطرب في جزيرة العرب في حدقات عيونهم، وكانت الجماهير تسأل عند صدور ألبومات غنائية لبعض المطربين ممن يشدون بأغنياته إذا ما كان فيها للمحضار أغنيات، وبعض الناس قد يعزف عن شراء الألبوم لعدم وجود أعمال غنائية محضارية فيه، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، وهذا الموقف الشعبي من إبداع المحضار دليل على منزلته العالية في وجدان جمهوره. إلا أنه لم ينل في حياته ولا بعد وفاته ما يستحقه من اهتمام إعلامي يليق بمكانته الشعرية والغنائية».
وكنا في «عكاظ» قد قدمنا الشاعر المحضار طوال الثلاثين عاما الماضية بما يليق به من مكانة الشعراء الكبار، كما اهتممنا بمرافقته أثنا ء فترة علاجه في جدة أواخر أيامه، صحبة ربيبه الشاعر الكبير سالم بن علي المتواجد في حضرموت اليوم.
من أشهر أعماله
من أكثر أعماله المنتشرة عربيا مع زميله أبو بكر سالم بلفقيه، مثل «باشل حبك معي، يا زارعين العنب، يا طير يا ضاوي (كما الريشة)، سر حبي فيك غامض، على ضو ذا الكوكب الساري، يا جارنا، يا مسافر ع البلاد، يا حامل الأثقال خففها شوي، بين صندوق الكتب والطوابع، أعود له من بعد ما خانني.. استغفر الله، أسعد زمان الحب من وعدك إلى ألقاك، أساس النكد والجبر من كلمة، ولو حتى بكف الإشارة، خذ من الهاشمي ما تريده، قال بو محضار، قال من باتت دموعه سواكب، ما مع العاشق بصر غير الدموع، بداية الهجران غفوة»، ومع محمد عبده «وينك يا درب المحبة، ليلة الفرح» ومع طلال مداح «عنب في غصونه، ذا اللي حصل من بعد»، ومع عبدالله الرويشد " أنا باتبع قلبي ما علي بالناس، عويشق عسى الله يعينه»، ومع عبدالمجيد عبدالله «الله الله بالأمانة، طاب سمعون وادينا»، ومع محمد مرشد ناجي «دار الفلك دار، دعوة الأوطان، مكانه جبحكم يا آل باكرمان، فيه العسل ما غبه النوب».
آخر نشاط في ذكراه
وفي ذكرى الرحيل الأخيرة (الثانية عشرة) للرجل، الذي سجل في حياته حضورا طاغيا على خارطة الشعر والغناء والطرب في الخليج وجزيرة العرب، وتغنى بأغنياته الكبار والصغار؛ ووفاء لدوره الإبداعي والثقافي في تطوير ونشر الأغنية اليمنية، وتحديدا الحضرمية، وعرفانا بمكانته المتميزة بين شعراء وملحني عصره على المستوى العربي، كانت الشحر والمكلا وأبناء المدينتين من شعراء وأدباء ومثقفي محافظة حضرموت نظموا خلال أيام وأمسيات الكثير من الأنشطة الإبداعية، تحت إشراف مكتب وزارة الثقافة والسلطة المحلية في مديرية الشحر، وتحت رعاية المحافظة. وكانت البداية بندوة ثقافية عقدت بقاعة تعاونية صيادي الشحر احتضنت محاضرة وحلقة نقاشية ،بعنوان «التجليات السياسية والإبداعية عند المحضار» حاضر فيها الباحث رياض عوض باشراحيل. كما تخللت الندوة كلمة السلطة المحلية في الشحر، ألقاها المدير العام في المديرية حسين محمد باداهية العمودي، وألقى الشاعران جمال عبدالله حميد ومحمد سالم بن داؤود قصائد شعرية أشادت بتجربة الفقيد المحضار الشعرية وعطاءاته الفنية المختلفة. كما نظم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في حضرموت في نفس الفعالية أمسية حفل توقيع للكتاب. فيما قدم نائب رئيس اتحاد الأدباء والكتاب بساحل حضرموت الدكتور عبد القادر باعيسى قراءة نقدية لكتاب باشراحيل عن حياة الشاعر المحضار، أشاد فيها بجهود المؤلف والوجه التاريخي والفني للكتاب، مستعرضا بعضا من إبداعات ومزايا المحضار الشعرية، حضرها عدد من الباحثين والأدباء والمثقفين والإعلاميين والمهتمين.. قصائد ومداخلات دعت إلى مزيد من البحث وأرشفة أعمال المحضار في الشعر الغنائي والأوبريتات، ومنها أوبريت «بنت اليمن»، مع زميله أو ابنه في حياة الإبداع محمد المحضار. والمساجلات الشعرية وإبراز أعماله للجيل الجديد والمهتمين والباحثين في الشأن الشعبي والتراثي.
في رثاء بن سهل للمحضار
وكان الشاعر الدكتور حسين بن سهل قد القى قصيدة رثاء في الأمسية التأبينية للمحضار جاء فيها:
يا دمعة الحزن في الخد تنحدر
هذا قضاء الإله الحق والقدر
هذا سليل التقى والمجد شاعرنا
في موكب حوله الأكباد تنفطر
من كل صوب أتته الخلق باكية
قد هدها الهول والإعياء والسهر.
" عكاظ " السعودية