رفض جهاد الرضوخ لواقع مرير حال دون تحقيق أحلامه، فعزم الشاب اليمني على عبور طرقات وعرة وبلدان غريبة وقارات عدة إلى أن انتهى به المطاف في إقليم غويانا الفرنسية، شمال قارة أمريكا الجنوبية.
"حين بلغت 13 عاما، أدركت أنني يمني للمرة الأولى"، يقولها جهاد مستذكرا حياته في السعودية، "ولدت وترعرعت بين مدينتي مكة وجدة".
حالما أنهى الشاب اليافع التعليم الإعدادي (صف التاسع)، بدأت حاجة ملحة تسيطر عليه لمساعدة أهله في "مصاريف المنزل"، لذا ترك الدراسة والتفت إلى العمل لجني بعض المال وإعالة باقي أخواته وإخوته العشرة.
"لم أكن راضيا عن الواقع الذي كنا نعيشه، فالعنصرية ضدنا في السعودية كانت لا تطاق"، لكن في الوقت نفسه علم جهاد أنه لا مجال للعودة إلى بلده الأم اليمن. "اختُطف خالي على يد جماعة تابعة للحوثيين وبقي مفقودا لعامين ونصف، ووالدي الذي كان يتردد إلى اليمن واجه مشاكل جمة، فهو معارض لحكم علي عبد الله صالح“، فاندثرت أحلام الشاب بالذهاب إلى مدينته حجة في شمال غرب اليمن.
أمضى اليافع عامان محاولا إيجاد أعمال يومية مختلفة، وباتت فكرة الهجرة بحثا عن الأمان والمستقبل الأفضل تسيطر على تفكيره، وفق قوله.
لم يعد جهاد اليوم ذاك القاصر الذي يبحث عن أعمال صغيرة، فهو اليوم يبلغ 18 عاما لكنه يشعر أنه "أكبر من ذلك بكثير". وبعد محاولات عدة تمكن أخيرا من الهجرة، لكنه لم يتوقع أن ينتهي به المطاف في إقليم غويانا الفرنسية، أحد أقاليم فرنسا وراء البحار، في عمق أمريكا الجنوبية.
ضرب وسجن في المغرب
عينان سوداوان ووجه أسمر مكتنز يحمل بين طياته خبايا رحلة طويلة بدأت في عام 2017، بعدما وافق والد جهاد على خطة وجد فيها المراهق ذو الـ15 عاما خلاصا من الواقع المتردي. وبما أنه كان قاصرا، دفع جهاد 150 دولار للحصول على تأشيرة تمكنه من دخول المغرب برفقة والده، لكن الخطة اقتصرت على سفره وحيدا.
"وصلت إلى الدار البيضاء بمفردي، وتوجهت بعدها إلى الناظور، مصمما على دخول مليلة وتقديم اللجوء في إسبانيا"، لكن الخطة لم تسر كما يجب.
في كل محاولة لعبور السياج ودخول جيب مليلة الإسباني في المغرب، كانت الأمور تشتد سوءا "في المرة الأولى تعرضت للضرب بالعصي والحديد على يد حرس الحدود المغربي وبقيت أسبوعا غير قادر على الحركة من شدة الضرب". و في المرة الثانية، احتجزت السلطات جهاد يومين قبل أن تطلق سراحه.
بقي جهاد على هذه الحال لثلاثة أشهر، متخبطا بين محاولات العبور الفاشلة والعنف الجسدي. يقول إنه خسر أكثر من ألفي يورو، "تعرضت للنصب على يد مهربين كانوا يقدمون لي وعودا واهية للدخول إلى إسبانيا".
"شعرت باليأس، وقالت لي والدتي ارجع إلينا، لكني لم أكن قادرا على تخيّل فكرة العودة إلى ذلك الواقع البائس والوضع المادي المتردي". صمم جهاد على إيجاد خطة بديلة، لكن "التعب أضناه" فقرر الذهاب إلى الرباط لأخذ قسط من الراحة والتفكير بمصيره.
تردى وضع الشاب الصحي وأصابه ”رمد العين“ (التهاب في غشاء العين)، ولم ينجح في الحصول على أي عناية طبية. وبعد أن تواصل مع القنصلية اليمنية في المغرب، شرح وضعه وحصل على إذن خروج من المغرب ليعود إلى السعودية من جديد.
لم تثنه التجربة المريرة تلك عن فكرة اللجوء إلى بلد يحترم حقوق الإنسان ويضمن له مستقبلا أفضل.
الرحلة إلى أمريكا اللاتينية
في منتصف عام 2015، كانت جمهورية الإكوادور في أمريكا الجنوبية أعلنت عن ترحيبها باليمنيين على أراضيها من دون شرط الحصول على تأشيرة دخول. فرصة وجد فيها بعض اليمنيين طريقة لبلوغ أوروبا.
اقتضت الخطة بأن ”أصل إلى الأكوادور وأحجز من هناك تذكرة طيران إلى أي وجهة كانت، شرط أن يكون الترانزيت (توقف مؤقت في المطار أثناء العبور من دولة إلى أخرى) في إسبانيا"، خصوصا وأن هناك الكثير من الرحلات المتجهة إلى إسبانيا من أمريكا اللاتينية.
في عام 2019، همّ جهاد بالرحيل مرة أخرى، وقطع بلدانا وقارات مرورا بمصر وتركيا وبنما وكولومبيا، حتى وصل أخيرا إلى الإكوادور. ليكتشف فور وصوله أن الذهاب إلى إسبانيا لم يعد سهلا، فالسلطات كانت قد تنبّهت إلى وجود طريق تهريب من الإكوادور إلى إسبانيا وشددت إجراءاتها مانعة اليمنيين من الهبوط في مطار مدريد. تبدد الحلم من جديد.
علق جهاد في الإكوادور وتعرفّ على مجموعة من اليمنيين، فشلت محاولتهم أيضا في الذهاب إلى إسبانيا. "كنت أبحث عن أي طريقة، كان لا بد من إيجاد حل، فأنا لا أستطيع العودة إلى اليمن ولا إلى السعودية".
فكر جهاد بشتى الطرق، "استعلمت أن طريق التهريب إلى الولايات المتحدة الأمريكية خطر ويكلف ما لا يقل عن 25 ألف دولار"، يضحك متابعا "لم يكن لدي كل ذلك المال..".
المحطة الأخيرة في أمريكا الجنوبية لكنها ليست الوجهة النهائية
عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك، علم الشباب اليمنيون بوجود إقليم أوروبي في هذه القارة، "انبعث الأمل من جديد عندما علمنا عن إمكانية التوجه إلى غويانا الفرنسية، سعيا للحصول على أوراق تمكننا من الذهاب إلى باريس".
غابات وأنهار كان على جهاد ومن معه من اليمنيين قطعها. توجهوا إلى البيرو مشيا على الأقدام، ثم إلى البرازيل. "وصلنا إلى مدينة ماكابا البرازيلية، ومنها إلى نهر أويابوك الحدودي مع غويانا الفرنسية.. كانت رحلة منهكة".
بداية هذا العام، وصل إلى إقليم غويانا الفرنسية أخيرا، و بدأت معاناة جديدة من نوع آخر.
وبما أن الإقليم لا يوجد فيه مراكز استقبال للمهاجرين "كادا"، بقي جهاد حوالي شهرين مشردا ينام في مخيم أقامه طالبو لجوء على شاطئ عاصمة الإقليم، كايين. "كان الوضع سيء والمطر يهطل بغزارة إضافة إلى المناخ الحار".
ومع بداية الحجر الصحي وإجراءات الحد من انتشار فيروس كورونا، وافقت إحدى العائلات الفرنسية على استقباله في منزلها، "لم يسر ذلك على نحو جيد. كانوا يطلبون مني تنفيذ الأوامر ولم يعطوني طعاما كافيا".
"طفح الكيل"، وبعد مرور شهرين قرر جهاد الخروج، "بعد كل ما مررت به، كانت العودة إلى الشارع أهون بكثير بالنسبة لي..". ولم تمض أيام قليلة حتى التقى الشاب بناشطة فرنسية تدعى بولين، كانت قد أسست برفقة أشخاص آخرين مجموعة تقدم الدعم للاجئين.
تقول بولين، "لم يكن معقولا بالنسبة إلينا أن نرى هؤلاء الشباب اليافعين مشردين في الطرقات. كنا حاولنا سابقا جمع القليل من المال لاستئجار شقق Airbnb لكن بعد الأزمة الصحية الناجمة عن فيروس كورونا لم يعد ذلك الخيار قائما".
قررت الشابة الفرنسية استضافة جهاد في منزلها. يبدو الشاب مرتاحا لكنه لا يزال بعيدا عن تحقيق حلمه بالاستقرار، فمكتب حماية اللاجئين (أوفبرا) رفض طلب لجوءه، "يشككون في أقوالي ويتهمونني أني زورت جواز سفري وأني لست يمنيا". قدم جهاد طلب استئناف قرار الرفض أمام المحكمة الإدارية، ولا يزال ينتظر الرد.