قال رئيس الهيئة التأسيسية لتيار نهضة اليمن "علي البكالي" إن الواقع المنزلق استدعى نخبة صاعدة من الأكاديميين والمثقفين والناشطين والشباب والطلاب والرجال والنساء الغيورين على وطنهم ومستقبل أجاليهم، لتقوم بواجبها لاستعادة الدولة وإنقاذ اليمن من الصراعات والحروب والعنف والتطرف والإرهاب، وتضع حدا لتدوير الفوضى والصنمية .
وأضاف البكالي في مقال بعنوان «تيار» من أجل «نهضة اليمن» : "لا تزال الطبقة السياسية التي باتت كلها رهن الاستلاب أو التشرد لا تعي دورس التاريخ، ولا تدرك المخاطر التي تحدق بما تبقى من كيونة المجتمع، وعناصر وجوده" .
اليكم نص المقال كاملا :
المجتمعات لا تخطو إلى المستقبل بحمولات الماضي، سيما إذا كان مغرقا في الظلام وموغلا في التخبط، والثقافة التي لا تتجاوز أسار عهود التخلف لا تعدو أن تكون استدوام الصراع المجتمعي، وتدوير لأدواته وأماكن تموضعه.
لم تكن مشكلة اليمن الراهنة على الحقيقة إلا استنطاق مكثف لثقافة الفوضى التي عصفت باليمن على مدى 12 قرن من الزمن، وقد غافلتها على الحقيقة نخبة الجمهورية ضآنة مقدرتها على تخطي المرارة عبر متغير الاستبدال للأشخاص دون بلوغ التغيير مداه في تعديل الأفكار والانساق والبيئة الحاضنة.
عند إمعان النظر في طبيعة الديالكتيك الذي أستجمع هذا التراكم من الفوضى والفشل الطويل يلوح للباحث السياسي جذر الإشكال وجوهره ومضمونه ..إنه في الأصل تعطيل متعمد لقانون الديالكتيك الطبيعي عن أداء مهمته في النظام الإجتماعي من خلال فرض نخبوية مستدومة عبر معاملات إنتاج طائفية أو مذهبية أو شبه إقطاعية لا أدرية، ظلت تعيد إنتاج نفسها طوال قرون وعقود خلت من خلال إعادة تدوير الصراع والفوضى والعنف، مع تبديل تموضعاته وشخوصه، على حساب الشعب اليمني المسحوق، وطبقاته الكادحة.
في هذه الجذرية بالذات تكمن المشكلة اليمنية، وتتكثف في صورة ثقب أوزون يختزل وجود الشعب ومصالحه وطموحاته، في أنانيات فجة لا ترى في جموع اليمنيين سوى رعية للكدح والبؤس، أو حشد من البلاهة والتصفيق، أو سلم بال لإعادة تصعيد وانتاج أبناء الذوات، ذات النزعات العنصرية أو الجهوية أو المناطقية، بعيدا عن فكرة الدولة الجمعية والمصير التاريخي ومطلب التطور الاجتماعي.
طوال ما يربو على 11 قرن من عمر اليمن، ظلت الإمامة بصورتها الكهنوتية العنصرية وتحالفاتها الطبقية تنتج الصورة العامة لشعب مسحوق، رمته الأقدار في مغارات الفوضى والجهالة والتخلف المريع، وإلى جوار هذه الصورة الباهته قامت بعض الصور الإنعكاسية لبقايا جهويات توارثية بنزعات ما قبل الدولة والمجتمع والتاريخ لتضيف لمشهد البؤس الاجتماعي تعقيدا أخر .
ولدت اليمن مجدها يومي الـ 26 من سبتمبر والـ 14 من أكتوبر، فتحررت من الإمامة والاستعمار دفعة واحدة، ووضعت قدمها لأول مرة في التاريخ على طريق المجتمع الحديث والدولة العصرية، معلنة أفول عصر الظلام والاستعباد وصراع التخلف والجهل .
عادة وفي لحظات ميلاد الأمم تتواكب الشروط النفس زمنية مع قوانين حركة التاريخ، لتتغلب القيم الوليدة على منظومة القيم التقليدية البالية، لقد كان ذلك حلم الأحرار الذي صاغته أهداف الثورة ورؤيتيهما ليمن المستقبل الحديث الموحد الناهض .
غير أن انعكاسات الظروف المحيطة بلحظة الميلاد أعاد ابتعاث القيم البالية من دفائنها، ودفع بها للوقوف بوجه روح التحديث والعصرنة، في مضمار صراع طويل أنهك الروح الوطنية الجمهورية، وحافظ على خمائر ما ضد الدولة، وحال دون تغيير جذري عميق .
لقد تشكل من ذلك التضاد القيمي المفتعل بين خمائر الماضي وروح الحاضر ثنائية توليفية عززت تناقض الذات وقهر الطموح، وفي ظلت التدخلات القصدية الداعمة لقيم التقليدية في عقود الجمهورية، على حساب الروح الشعبية، عادت النخبوية التقليدية بتحالفاتها القديمة الجديدة لتقف متلونة، دون بلوغ التغيير مداه الطبيعي .
وما زاد الطين بلة أن النخبة ذات الحظ التعليمي المحدود من جيل النضال الثاني، قفزت خارج واقعها وبيئتها الوطنية، لتستورد الأفكار الأيديولوجية المعلبة، وتجعل منها مسطرة تحد بها مقاسات التغيير، وطموح الشعب، وأذواقه العامة، فكانت النتيجة أن فتح باب التصنيم وصناعة أبطال الورق والتصنيم على المستوى الداخلي، وعلى المستوى الخارجي فتحت اليمن بمصراعيها ساحة لصراعات إقليمية ودولية.
لقد أضافت الأيديولوجيا المستوردة للواقع اليمني مشكل جديد على مشكلاته الذاتيه، بتأكيدها على قيم التقليدية والاغترابية على حساب روح الشعب وضميره، والإنسان اليمني وذاته التاريخية، ومشكلاته الاجتماعية، ومعطيات البيئة المحلية، فخلقت بذلك ثلمة في جدار الهوية وشعور الانتماء والمواطنة.
وانصرفت أهداف الصراع عن ميدان الانتصار للقيم الجديدة والمجتمع العصري الناهض، إلى ميدان أخر هو ميدان التمترس خلف الأفكار الوافدة، والأيديولوجيات المبهمة، ولأن تلك الأفكار امتدادات لصراعات دولية وإقليمية صارت اليمن مسرحا لعملياتها الواسعة، وحاوية لمخلفاتها التدميرية للذات والواقع على السواء.
وإلى جوار تلك الإمتدادات المتعدية تشكلت أنانيات نفعية ضيقة رفعتها الأيديولوجيات اللاأدرية وظرف الصراع إلى النخبوية، عكست مصالحها من خلال تكثيف عوامل التناقضية والاغتراب، وفي ظل الضبابية الحاجبة لعقل الواقع، والتناقضية التي تغذيها التوجهات الخارجية والأنانية النخبوية، فتحت ثغور عدة في جدار الوطن والجمهورية، نفذت من خلالها دعوات الإمامة العائدة بأثواب المليشيا العنصرية، وأسار النزعات المناطقية، واتخذت من صراعات السلطة المتكلسه، والمعارضة التوليفية مدخلا للتعملق والانتشار والتعبئة الارتدادية.
وكنتيجة للتلقي السلبي من خارج البيئة، والتحشيد المضتاد بنزعة التصنيم والأدلجة، وجنوح النخب المصنوعة للانتصار للأنا على حساب الذات والجمهورية والوحدة الوطنية والدولة الضامنة وقع التصادم، وتفككت مؤسسات الدولة الشكلية، وانهارت القيم الجامعة، وتغولت نزاعات ما قبل الدولة، فحدثت بذلك الردة القيمية التي مهدت الطريق لسيطرة المليشيا الحوثية على صنعاء وعلى مؤسسات الدولة.
وفي ظل حماقة الجهل ورغبة الانتقام أخذت أطراف الصراع وأقطابه تفكر بعقل المراهق في استخدام المليشيا الإمامية الجديدة والنزعات المناطقية كأدوات للانتقام الأخير .. خمس عقود من التناقضية اللاأدرية كانت محصلتها النهائية سقوط الدولة وعودة صيحات الإمامة وأصوات التشطير، وتسليم البلاد للمشاريع الخارجية المتعددة، في مشهد دموي عنصري ومناطقي فج لم يكن أحد يتخيله.
ورغم ذلك لا تزال الطبقة السياسية التي باتت كلها رهن الاستلاب أو التشرد لا تعي دورس التاريخ، ولا تدرك المخاطر التي تحدق بما تبقى من كيونة المجتمع، وعناصر وجوده، وإن الواقع اليمني الراهن ومآلاته الكارثية لم تعد تخفى على ذي نظر، فقد بات كل شيء على المحك، الجمهورية والوحدة الوطنية، والديمقراطية والحرية والسيادة والاستقلال، والنسيج الاجتماعي ووحدة الجغرافيا والوجود الاجتماعي.
فضلا عن انهيار كلي لمنظومة القيم وسلم الأفكار، حيث استفحال دعوات العنصرية وأصوات القندلة والزنبلة، ونزعات التطرف وطغيان المعتقد الطائفي على الروح الوطنية، ناهيك عن صور ملشاوية متعددة تنازع فكرة الدولة والسلطة، وهو ما ينذر بكارثة لا على المستوى الوطني فحسب بل على المستوى الوجودي التاريخي لليمن.
لقد استدعى هذا الواقع المنزلق والمشكل العويص في الحقيقة جرس الإنذار المبكر لدى نخبة صاعدة من الأكاديميين والمثقفين والناشطين والشباب والطلاب والرجال والنساء الغيورين على وطنهم ومستقبل أجاليهم، لتقوم بواجبها التاريخي المسؤول تجاه وطنها، منطلقة من روح الشعب وآهاته، وواقع المشكلة ومعالجاته.
وكنتيجة للبحث القويم في جذور المشكل الوطني وعوامل التأثير الداخلي والخارجي، ومطلب الإنقاذ الملح، قررت مجموع العقول اليمنية الصاعدة الإنطلاق من خلال محطة بديلة متحررة من عوامل الاختزال للروح اليمنية، تسعى لاستعادة الدولة وإنقاذ اليمن من الصراعات والحروب والعنف والتطرف والإرهاب، وتضع حدا لتدوير الفوضى والصنمية، لترسي بذلك أسس المجتمع الحديث والدولة الناهضة، والشعب المنتج.
إنه ميلاد تيار نهضة اليمن .. من أجل دولة ضامنة .. ويمن ناهض .. ووطن آمن ومستقر.