على مدار التاريخ، أدخل السل الرعب في النفوس حيث تسبب هذا المرض سنويا في وفاة عدد كبير من البشر وقد دفع ذلك كثيرين لتلقيبه بالطاعون الأبيض.
وخلال منتصف القرن التاسع عشر، قيل عن السل إنه وراء ربع الوفيات السنوية بكل من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وقد تراوحت أعراض هذا المرض القاتل بين الحمى والسعال الدامي والقشعريرة والتعرق الليلي وفقدان الشهية وفقدان الوزن والتعب وآلام الصدر واحمرار الخدين وتحول لون البشرة للشاحب.
وخلال العهد الفكتوري، أثر السل بشكل كبير على المجتمع الإنجليزي حيث اقتبست نساء تلك الفترة معايير الجمال من أعراض مرض السل فعمدن للامتناع عن الأكل وارتداء الكورسيهات والفساتين الضيقة عند مستوى الخصر لتنحيف أنفسهن واستخدمن مساحيق التجميل لتلميع بشرتهن وإضفاء اللون الوردي على خدودهن.
وطيلة القرون المنقضية، تسبب مرض السل في وفاة عدد هائل من الشخصيات التاريخية البارزة، ولعل أبرزهم الملحن البولندي فريدريك شوبان (Frédéric Chopin) والمؤلف الروسي أنطون تشيخوف (Anton Chekhov) والكاتب التشيكي فرانز كافكا (Franz Kafka) والكاتبة النيوزيلندية كاثرين مانسفيلد (Katherine Mansfield) والروائي البريطاني جورج أوريل (George Orwell) والرسام والنحات الفرنسي أنطوان واتو (Antoine Watteau) والرسام الإيطالي أميديو موديلياني (Amedeo Modigliani) والشاعر الإنجليزي جون كيتس (John Keats) ونابليون الثاني، ابن نابليون بونابرت، والمؤلف المسرحي الفرنسي موليير (Molière). وبسبب قتله للعديد من عمالقة الفنون والأدب، اتجه عدد لا بأس من المؤرخين لتلقيب السل بالمرض الرومانسي.
أواخر القرن التاسع عشر، عرف العالم العديد من الاكتشافات التي ساهمت في بداية نهاية مرض السل. فخلال شهر آذار/مارس 1882، اكتشف ووصف العالم الألماني روبرت كوخ (Robert Koch) بكتيريا المتفطرة السليّة، أو كما تسمى أيضا عصية كوخ نسبة له، المسببة للمرض، محدثا بذلك ثورة طبية وبكتيريولوجية حقيقية بعد التمييز بينها وبين المتفطرة البقرية.
بداية من العام 1900، باشر الطبيب والمختص في علم الجراثيم والمناعة ألبرت كالميت (Albert Calmette) رفقة صديقه ومساعده البيطري كميل غيران (Camille Guérin) أبحاثها بمعهد باستور بمدينة ليل لإيجاد لقاح لمرض السل. بادئ الأمر عمل الرجلان على خلق وسط ملائم لزراعة البكتيريا المسببة للسل ومراقبتها واتجها عقب نجاحها في ذلك للاستعانة عام 1908 بإحدى سلالات السل البقري بهدف تضعيفها وخلق لقاح ملائم انطلاقا منها.
وسنة 1913، حقق الباحثان تقدما واضحا إلا أن أبحاثهما تعطلت وعرفت تأخرا بسبب الحرب العالمية الأولى. وسنة 1919، وبعد إجرائهما لما يزيد عن 230 عملية زراعة، 239 حسب بعض المصادر، حصل كل من كالميت وغيران على عصيات سليّة مضعفة فشلت في التسبب بمرض السل عند حقنها بعدد من الأرانب والأبقار والأحصنة. إلى ذلك، ابتكر هذان العالمان لقاح السل وأطلقا عليه اسم عصية كالميت غيران (Bacillus Calmette–Guérin) والتي تختصر حاليا بأحرف بي سي جي (BCG).
بأحد مستشفيات باريس يوم 18 تموز/يوليو 1921، قدمت أول جرعة شفوية من هذا التلقيح لطفل حديث الولادة فارقت أمه للتو الحياة بسبب مرض السل، وخلال الأيام التالية لم يلاحظ الباحثون ظهور أعراض جانية على الطفل. وبعد مئات التجارب الأخرى المشابهة الناجحة، باشر معهد باستور بليل سنة 1924 بإنتاج هذا اللقاح بكثافة وما بين ذلك العالم وعام 1928 حصل نحو 114 ألف طفل فرنسي على التلقيح.
إلى ذلك، رفض كثيرون استخدام لقاح BCG ضد السل خاصة عقب كارثة لوباك بألمانيا عام 1930 والتي راح ضحيتها 72 طفلا عقب حصولهم على تلاقيح احتوت نوعا غير مضعف من البكتيريا المسببة للسل. في الأثناء، وافقت لجنة الصحة التابعة لمنظمة عصبة الأمم على اعتماد هذا التلقيح سنة 1928 على الرغم من رفضه من قبل كثيرين، وقد انتظر الجميع نهاية الحرب العالمية الثانية ليحقق استخدام لقاح BCG قفزة عالمية حيث حصل ما بين 1945 و1948 ما يزيد عن 8 ملايين رضيع على جرعات منه بشرقي أوروبا لتجنب انتشار السل بالمنطقة.
بفضل لقاح BCG، ساهم كل من كالميت وغيران في إنقاذ عدد هائل من الأرواح البشرية حيث تراجع عدد الإصابات والوفيات بسبب مرض السل تراجعا هائلا مقارنة بما كان عليه بالقرون السابقة.