الرئيسية / تقارير وحوارات / اليمن: قصة قدح القهوة من يد الولي إلى العالم
اليمن: قصة قدح القهوة من يد الولي إلى العالم

اليمن: قصة قدح القهوة من يد الولي إلى العالم

02 نوفمبر 2019 08:39 صباحا (يمن برس)
تتعرض الزراعة في اليمن لأضرار فادحة بفعل الحرب المدمرة. ويتصدر محصول البُن قائمة المنتوجات الزراعية الأكثر تضرراً.

 

الأرض اليمنية، تنتج سنوياً ما يزيد عن 20 ألف طن من البُن، ويصدر إلى الخارج ما نسبته 80 في المئة من هذا المنتج فائق الجودة والشهرة عالمياً، إلا أن منافذ التصدير الرئيسية القريبة من مناطق زراعة البُن، باتت متوقفة تماماً بفعل الحرب. فإلى موانئ البحر الأحمر المغلقة منذ سنوات (المخاء، الصليف، ميدي، وصولاً إلى الحديدة اليوم)، والتي تعتبر بوابات للتصدير والاستيراد، هناك أيضاً الموانئ البرية والجوية: مطار صنعاء الدولي، ومنفذ حرض البري.

 

ميناء عدن هو الوحيد، الذي يمكن التصدير عبره، لكن هناك مخاطر حتمية تواجه المزارعين الشماليين، إذا ما قرروا أن يتوجهوا بشاحناتهم إلى الجنوب (عدن)، إذ قتل أخيراً اثنان من تجار الشمال في “لحج” (جنوب اليمن) كانا عائدين من “عدن”.

 

وإذا كانت مشكلة التصدير، إحدى أكبر المعضلات التي سببتها الحرب، فإن أزمات المشتقات النفطية المتكررة منذ بداية النزاع (قبل 5 سنوات)، يمكن اعتبارها الاختناق الأشد الذي يكبد جميع المزارعين خسائر فادحة. فلا يكاد يمر شهر، إلا وطوابير السيارات والشاحنات بالمئات، أمام محطات الوقود، الذي ارتفع سعره بنسبة 300 في المئة، خلال الخمسة الأعوام الأخيرة، وصولاً إلى الانعدام تماماً، كما هو حاصل هذه الأيام.

 

12 باخرة معبأة بمادتي البنزين والديزل، على بُعد كيلومترات، من ميناء الحديدة، رابضة في مكانها، وسط المياه منذ أسابيع. وتقول السلطات في صنعاء إن التحالف بقيادة السعودية يعرقل وصولها إلى الميناء. وتكاد تتسبب هذه الأزمة بتوقف شبه تام للحركة في البلاد (تحديداً المحافظات الشمالية).

 

الأطراف المتقاتلة في اليمن تقوم بتزويد مقاتليها في كل الجبهات بورق “القات”، كمادة أساسية تندرج ضمن لوازم الدعم والامداد اللوجستي..

 

 أكثر القطاعات تضرراً، بسبب انقطاع الديزل والبنزين، هو قطاع الزراعة الحيوي، لا سيما أن توقيت هذه الأزمة الراهنة، متزامن مع موسم جني المحاصيل والثمار الرئيسية في اليمن: البُن، العنب، الرمان، البرتقال، ومحاصيل الذرة.

 

يقول ناجي عبدالله، وهو مزارع يمتلك 3 مضخات ومزرعة شاسعة فيها بُن وأصناف عدة من الفاكهة: “نحن نعيش في جهنم حقيقية. لا أرباح هذا الموسم. هذه كارثة”.

 

وإذا كانت مساحة الأرض المزروعة بالبُن، تقدر بـ35 ألف هكتار، وفقاً لتقديرات رسمية، فإن هذه الحقول والمدرجات تحترق من الظمأ هذه الأيام. كما أن عمليات جني البُن إن تمت، فهي تواجه عوائق جديدة: مشكلات النقل، والطحن، والتصدير إلى الخارج، وحتى فكرة الوصول إلى الميناء إن أُتيحت، غير ممكنة، حيث لا وقود.

 

هذه أبرز المعوقات التي يشكو منها مزارعو البُن في اليمن، فيما تتعاظم الشكوى الدائمة وهي التوسع الرهيب في زراعة شجرة “القات” داخل الحقول والوديان والقيعان الزراعية الخصبة في اليمن، واستحواذها، ليس على الأرض فقط، إنما على كميات ضخمة من المياه، حيث تستنزف مزروعات القات الهائلة المياه الجوفية بشكل مفجع. يدفع ذلك اليمن إلى صدارة البلدان المهددة بالعطش، وفقاً لتقرير أصدرته منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، الذي صنف اليمن “من بين أفقر 10 بلدان في العالم في مسألة المياه”. ويستهلك “القات”، كميات ضخمة من الماء تصل إلى 30 في المئة من المخزون الجوفي.

 

كما ضاعفت الحرب في البلاد، عمليات زراعة “القات” والتوسع في إنتاجه وتسويقه، بشكل لافت. ويعود السبب في ذلك، إلى أن الأطراف المتقاتلة في اليمن تقوم بتزويد مقاتليها في كل الجبهات بورق “القات”، كمادة أساسية تندرج ضمن لوازم الدعم والإمداد اللوجستي.

 

كان اليمنيون وحتى فترة، ليست بعيدة، يعتمدون على القهوة في بث الحماسة والنشاط لدى اضطلاعهم بمسؤوليات العمل والبناء والشغل والقتال، اليوم يكاد الوضع يختلف. لقد دخل “القات” كمادة كيف جديدة ومنشطة، وهو اليوم في الجبهات يقاتل لمصلحة جميع الأطراف. أما “البُن” ففي المخازن ينتظر انفراجة في أزمة الديزل وأزمة الموانئ المغلقة.

 

تسجل هذه المادة حكاية “بُن اليمن”، في القرون الماضية، وكيف بلغت شهرته الآفاق، ولا تزال. لكن هذه العلامة اليمنية الفريدة تواجه اليوم تحديات وجود حقيقية.

 

طقوس “القهوة” في اليمن السعيد  

 

من عادة المزارع اليمني، أن يبدأ يومه باحتساء أقداح من القهوة الدافئة قبل الشروق. وهذا طقس قديم انتظمت به حياة المزارعين منذ مئات السنين. وفي المساء، كانت القهوة هي المشروب المفضل للزُهاد والمتصوفة، إذ تمدهم بالنشاط والقوة في صلاة الليل.

 

في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، كان البرتغاليون يجوبون السواحل الغربية لليمن، وعندما رست إحدى سفنهم بالقرب من قرية يمنية متكئة على الشاطئ، نزلت مجموعة من البحارة إلى البر متجهة إلى بيت ومسجد أبيض صغير في طرف القرية، وهناك استقبلهم شيخ جليل تحت سقيفة من النخل وضيفهم على قهوة.

 

هذا الشيخ هو الفقيه الصوفي علي بن عمر الشاذلي، وهو أول من شرب القهوة في اليمن، كما تقول الروايات والبرتغاليين الذين ضيفهم، في بيته، هم أول من ذاق طعم القهوة من الأوروبيين. ومع مرور الزمن تحولت تلك السقيفة إلى أكبر سوق عالمي للبُن، أو ما بات يعرف بـ”موكا كوفي” (ميناء المخاء).

 

قهوة “سليمان القانوني” المسكوبة في نهر “الدانوب”

 

“قهوة البُن”، لا تمنح عشاقها النشاط والحيوية فقط، ولكن أيضاً توقظ فيهم الروح وتبعث المزاج والكيف. ولعل قائد جيوش سليمان القانوني، أخطأ التقدير، في نهاية القرن الـ16 عندما انكسرت جيوشه على أبواب “فيينا”، وفي حوزته 500 كيس من القهوة، كان مصطفى باشا جلبها من اليمن، ليشربها لاحقاً، مع جنوده خلال احتفالات النصر، لكن خطته فشلت وخسر المعركة!

 

 كان على جنود السلطان أن يشربوا قهوتهم  أولاً!

 

لم تكن القهوة معروفة لدى جيش الامبراطورية النمساوية، الذي صد التُرك وكسرهم، على بُعد 80 كلم من العاصمة، وإلا لما أحرقوا أطناناً من البُن، ورموها في نهر “الدانوب”.

 

 مئات الأكياس والمعدات التي تركها الجيش المهزوم، وقفل عائداً إلى اسطنبول، ورائحة البُن المحروق وراءه والقهوة المسكوبة في النهر تفوح في سماء جيوش الامبراطورية المنتصرة.

 

أحد جنود النمسا، الذي وقعت يده على بضعة أرطال من البُن، والأخرى على أسير من الأتراك، دفعه الفضول ليسأل الأسير، عن قيمة هذه المادة، وهما يستنشقان رائحة البُن المهدورة تفوح وكيف يتم تجهيزها، فأنجز له الأسير المهمة، ثم أعطاه فنجاناً من القهوة العربية. ومن لحظتها افتتح هذا الجندي أول مقهى في “فيينا”. ومن هناك، من مدينة الإمبراطورة ماريا تريزا وعاصمتها الأثيرة، انطلقت رحلة القهوة اليمنية، إلى بقاع أوروبا والعالم، ولكن، ويا للأسف، تحت اسم: القهوة التركية.

 

كيف انتقلت حكاية هذا المشروب العجيب من قدح في يد ولي وفقيه صوفي فقير في أقاصي اليمن، إلى شراب مفضل في يد الملوك والبحارة وقادة جيوش الإمبراطوريات العظيمة؟!

 

بعدما أجهزت حملات محمد علي باشا على الوهابية في الدرعية ومكة، عام 1818 اتجه الجيش المصري جنوباً وطمر السهل التهامي حتى وصل إلى المخاء، ليشرب القهوة اليمنية هناك محتفلاً بنصره المظفر.

 

وعندما قرر خليل باشا، العودة إلى مصر، تم تسليم ميناء المخاء إلى المهدي عبدالله إمام اليمن، مقابل 3 آلاف قنطار من البُن يسوقها الإمام سنوياً، إلى مطبخ حضرة سلطان الزمان محمد علي باشا، سلطان مصر. وحصلت مفاوضات طويلة بين القاهرة وصنعاء، بشأن قهوة السلطان، كشرط لا بد منه، للانسحاب والتسليم. وعندما قبل إمام اليمن ذلك الشرط أخذت الكمية تقل مع مرور الأعوام، فوجه سلطان مصر وكيله على الحجاز أحمد باشا يكن، بأن يوصل هذا الإنذار إلى إمام صنعاء، قائلاً: “لقد أعطيته بدل البُن بلاداً واسعة في نظير المقدار من البُن المتفق عليه”. (3 آلاف قنطار من البُن، أي ما يعادل 135000 كلم). 

 

عندما قرر خليل باشا، العودة الى مصر، تم تسليم ميناء المخاء الى المهدي عبدالله إمام اليمن، مقابل 3 آلاف قنطارا من “البُن” يسوقها الإمام سنويا

 

قهوة “تاجر البندقية”

 

تزرع الارض اليمنية، شجرة البن، منذ مئات السنين، وحتى القرن السابع عشر، كان المزارعون يحتكرون فكرة زراعتها، ويمنعون انتقال البذور أو الشتلات إلى خارج البلاد، إذ يعتبرونها أحد أسرارهم الوطنية.

 

بعض المصادر تقول إن الهولنديين، هم أول من نقل فكرة زراعة البُن إبان وجودهم في السواحل اليمنية، إلى مستعمرات عدة كانوا فيها. والبعض يقول إن تجار “البندقية”، هم أول من سبق إلى نقل الفكرة إبان الحضور الهولندي في الشواطئ العربية عام 1690، ثم تبعهم الهولنديون، حتى وصلت البذور إلى البرازيل عام 1727، لتصبح اليوم أهم البلدان المصدرة لـ”البُن” في العالم.

 

وعندما دخلت القهوة كمشروب سلطاني لدى الأتراك، تحول إلى ثقافة وطقس في المجتمع التركي، فافتُتح أول مقهى في العالم باسم (الكهاخان)، في القرن السادس عشر، حتى أصبح المشروب الأكثر شهرة هناك. وكان الأتراك يجلبونه معهم كجبايات من اليمن إبان وجودهم الأول هناك.

 

قهوة الفلاح اليمني الحقيقية

 

أثناء العناية بشجرة البُن، يلجأ الفلاح اليمني إلى أساليب لا تخلو من البراعة. ولأن هذه الشجرة تحتاج إلى كميات كثيرة من الماء، وإلى مناخ معتدل، يلجأ المزارعون في اليمن، الذين يسكن غالبيتهم في أعالي جبال، يتراوح ارتفاعها ما بين 1500 متر إلى 3000 متر وأكثر، فوق سطح البحر، فإن المزارع اليمني يحرص على غرس شجر البُن بالقرب من الأشجار الحراجية كـ”شجر الطنب” ذات الأوراق الكثيفة والارتفاع الشاهق، لأنها تمنح شجر البُن الدفء في مواسم البرد القارس ولتظللها من حرارة الشمس أيضاً. وإلا كيف يمكن جبال بني مطر اليمنية أن تنتج أجود أنواع البُن على الإطلاق وحقولها تقع في أعلى قمم الجزيرة العربية، إذ تغطيها الثلوج في ذروة الشتاء.

 

تسكب سلسلة الجبال الغربية اليمنية، مياهها في سهل تهامة الفسيح وعبر هذا السهل تقطع الوديان طريقها مسرعة باتجاه البحر الأحمر. ومن هذه الجبال الشاهقة في الاتجاه نفسه، تنسكب قهوة البُن أيضاً، البُن الأفضل في العالم، ويذهب إلى الأقاصي. إنها جبال السُراة التي تبدأ من الطائف شمالاً وتنتهي بردفان ويافع في أقصى الجنوب.

 

معظم مزروعات البُن اليمنية، في الجبال، وبعضها في الوديان معتدلة الحرارة. ولا يستقر البُن على نوع واحد وفقاً للتسمية والجودة وطريقة العناية بها. فعلى مستوى شكل الشجرة هناك البُن التفاحي والدوائري والعديني. ويكتسب البُن تسميته نسبة إلى المناطق التي يزرع فيها، ويمكن ترتيب جودته على التوالي، المطري، اليافعي، الاسماعيلي، الحمادي، البرعي، الخولاني، العديني، الريمي، الرازحي، الأهجري، الحيمي.

 

والمُزارع اليمني، بارع في اختيار قهوته أيضاً.

 

إذا كان معروفاً في العالم أن نواة حبة “البُن” هي التي تباع وتحمص وتغلى كمشروب، فإن المزارع اليمني الذي اكتشف القهوة قبل 600 سنة، لا يزال يحتفظ  بقهوته الخاصة ولا يفرط بها: قهوة القشر، وهي قهوة اليمني الحقيقية.

 

والقشر تباع للداخل فقط ولا يتم تصديرها، إذ يفرق اليمني بين قهوة القشر (غلاف النواة) وقهوة الصافي (النواة)، ومن حيث المذاق فإن قهوة القشر (بكسر القاف وتسكين الشين) تفوق الصافي في مذاقها الفريد، خصوصاً إذا غُليت على نار الحطب الهادئة لوقت أطول. ولذا فالقشر لا يباع إلا في الداخل، لأنها قهوة الفلاح اليمني المفضلة.

 

“اليوم العالمي للقهوة”، تزامنت احتفالاته هذه المرة مع موسم جني “البُن” في موطنه الأول: اليمن. لكن، هل لا تزال قهوة اليمني الحقيقية، إلى اليوم، سراً من الأسرار التي لم يكتشفها العالم بعد، قهوة القشر الفريدة!

 

في منتصف القرن السادس عشر، وفي أحد مقاهي الحرم المكي، احتفل الناس بالمولد النبوي جوار البيت وأخذوا يتناولون الأقداح، فانقسم الناس الى فريقين: بين من يجيز وبين من يحرم..

 

القهوة في “لسان العرب” وفي ذهن الكنيسة

 

القهوة في “لسان العرب” معناها: الخمر، وكانت أوروبا في عصر التنوير تطلق عليها: نبيذ المسلمين. وقبل ذلك كان الجدل محتدماً في أوروبا، إذ تتصدر الكنيسة في بريطانيا فكرة التحريم، بعدما تقدم الأسقف لاند وهو أحد كبار أساقفة “كانتربري”، بمذكرة إلى مجلس العموم البريطاني طالب فيها بتحريم “القهوة”، وصدر تشريع بذلك عام 1637.

 

قبل ذلك أيضاً، وعلى خُطى الكهنوت ذاته، ولكن في الضفة الأخرى هذه المرة، أصدر السلطان مراد الرابع مرسوماً بمنع تعاطي القهوة، ووجه بهدم المقاهي داخل اسطنبول واحداً واحداً، بل أمر بإعدام بعض الأشخاص المخالفين. وهكذا استمرت حروب التحريم وامتدت إلى مكة ومصر، بينما ظل اليمني يرتشف قهوته، غير مكترث.

 

عاشت الصوفية، في الجبال الغربية من اليمن وفي تهامة، دهراً تحتسي قهوة البُن، وتقيم مناسباتها الدينية، كالمولد النبوي، وعاشوراء وجمعة رجب والشعبانية، وغيرها، على وقع المدائح والحضرات الليلية، وأقداح القهوة المعتقة بالزنجبيل، لكن في مكة الأمر مختلف. ففي منتصف القرن السادس عشر، وفي أحد مقاهي الحرم المكي، احتفل الناس بالمولد النبوي بجوار البيت وأخذوا يتناولون الأقداح، فانقسم الناس إلى فريقين: بين من يجيز وبين من يحرم، واستمر الانقسام عقوداً. وهكذا مضى اليمن يشرب قهوته على طريقة الشاذلي، ويلتزم الصدارة، الجودة فقط.
شارك الخبر