في مشهد يفوق أفلام الخيال العلمي، تشهد اليمن اليوم ظاهرة اقتصادية مرعبة لم يعرفها العالم من قبل: عملة واحدة بثلاث قيم مختلفة تماماً داخل البلد الواحد! الدولار الأمريكي يُباع بـ535 ريال في صنعاء بينما سعره 1632 ريال في عدن - فارق صادم يتجاوز 1095 ريال يومياً، أي ما يعادل راتب موظف كامل يختفي بمجرد الانتقال من مدينة لأخرى. في كل دقيقة تمر، ملايين اليمنيين يشاهدون مدخراتهم تتبخر أمام أعينهم بصمت مطبق.
أحمد المنصوري، موظف حكومي من صنعاء ومعيل لستة أفراد، يروي مأساته بصوت مرتجف: "راتبي الشهري اليوم لا يكفي لشراء ما كنت أشتريه بثلث راتبي قبل خمس سنوات فقط". المشهد في محلات الصرافة يحبس الأنفاس: طوابير طويلة من المواطنين وأكوام من الأوراق النقدية تملأ الأكياس، بينما أصوات المساومة والجدال حول الأسعار تمتزج مع أنين الخيبة. التجار الذين يعملون بين المدن باتوا يعيشون كابوساً حقيقياً، حيث يتعاملون مع عملة واحدة لها قيمتان مختلفتان كالأرض والسماء - فارق نسبي يتجاوز 310% يجعل اليمن أشبه بكوكب آخر من كواكب الاقتصاد.
الجذور المرعبة لهذه المأساة تعود إلى عام 2015، عندما انقسمت المؤسسات النقدية مع بداية الصراع المسلح، مما خلق واقعاً اقتصادياً سوريالياً يشبه ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حين كانت النقود تُحرق لتدفئة البيوت. د. محمد العولقي، الخبير الاقتصادي، يؤكد بقلق بالغ: "نشهد حالة فريدة عالمياً - دولة واحدة بعملتين مختلفتين تماماً في القيمة، وهذا مؤشر على انهيار أعمق مما نتخيل". بينما تحقق مناطق معينة استقراراً نسبياً من خلال سياسات صارمة لضبط المضاربات، تغرق مناطق أخرى في دوامة انهيار تدريجي لا تتوقف، كأننا أمام بلدين منفصلين تماماً.
فاطمة الأهدل، أم لثلاثة أطفال من عدن، تختنق بالدموع وهي تحكي: "أرسل زوجي من صنعاء 100 ألف ريال لشراء الدواء، وصلتني قيمتها 30 ألف ريال فقط... كيف أفسر لأطفالي أن أبوهم يعمل ولكن النقود تختفي في الطريق؟" هذه ليست مجرد أرقام باردة، بل مأساة إنسانية تعيشها ملايين الأسر يومياً. صعوبة شراء الطعام والدواء باتت واقعاً يومياً، والتحويلات البسيطة بين المدن تحولت إلى مغامرات محفوفة بخسائر مؤكدة. المؤشرات تنذر بكارثة أكبر:
- المزيد من الهجرة الداخلية نحو المدن الأكثر استقراراً
- انهيار إضافي في القطاعات الخدمية والتجارية
- فقدان كامل للثقة في العملة الوطنية
بعد عقد كامل من الانهيار المستمر، يقف اليمن على مفترق طرق مصيري: إما توحيد المؤسسات النقدية ووضع سياسة صرف موحدة، أو الانزلاق نحو تقسيم نهائي للبلاد اقتصادياً قبل جغرافياً. الخبراء يحذرون: ما لم يتدخل المجتمع الدولي بحلول جذرية خلال الأشهر القادمة، فإن اليمن قد يصبح أول دولة في التاريخ الحديث تنقسم عملتها رسمياً قبل أن تنقسم سياسياً. السؤال الذي يؤرق الجميع: هل سيبقى اليمن بلداً واحداً بعملتين، أم ستنقسم العملة كما انقسم البلد، وتصبح معاناة اليمنيين مجرد رقم في كتب التاريخ الاقتصادي؟