في صباح يوم الأربعاء الموافق 21 أغسطس 2025، شهدت محافظة حضرموت لحظة فاصلة في تاريخ إدارة الأزمات المحلية، عندما خاطر محافظ المحافظة مبخوت مبارك بن ماضي بحياته وحياة فريقه لتنفيذ جولة تفقدية استثنائية وسط سيول جارفة كادت تجرف موكبه بالكامل. لم تكن هذه مجرد زيارة روتينية، بل كانت مخاطرة محسوبة حولت مفهوم القيادة الميدانية من مجرد شعار إلى استراتيجية حكومية قابلة للقياس والتطبيق، في وقت تواجه فيه 16 محافظة يمنية منخفضاً جوياً وصفته منظمة الأرصاد العالمية بـ"غير المسبوق".

السياق الكارثي: منخفض جوي يعيد تعريف التحدي
ضرب المنخفض الجوي الاستثنائي محافظة حضرموت ضمن 16 محافظة يمنية، مخلفاً سيولاً جارفة تجاوزت كميات الأمطار فيها 50 ملليمتر خلال ساعات قليلة - وهو معدل قياسي لمناطق عادة ما توصف بالجافة. السيول اجتاحت الطرقات الرئيسية في مديريات دوعن ووادي العين وحورة والقطن وشبام وسيئون، وقطعت خطوط الاتصال والإمداد، مما وضع آلاف المواطنين في مواجهة مباشرة مع كارثة طبيعية متصاعدة.
في ظل هذه الظروف الاستثنائية، والتي حذرت فيها الأرصاد الجوية من استمرارها لـ72 ساعة إضافية، اتخذ المحافظ قراراً جريئاً بالنزول إلى الميدان مباشرة، رافضاً الاكتفاء بالتقارير المكتبية أو الاعتماد على المعلومات الثانوية. هذا القرار، الذي بدا للبعض "مجازفة غير محسوبة"، كان في الواقع خطوة استراتيجية محسوبة تقوم على فلسفة إدارية واضحة: لا يمكن اتخاذ قرارات سليمة بشأن أزمة دون معاينة مباشرة لحجمها وتأثيرها.

القيادة تحت النار: 3 ساعات من المخاطرة المحسوبة
بدأت الجولة التفقدية مع فجر يوم الأربعاء، حيث توجه المحافظ ووكيل المحافظة لشؤون الوادي والصحراء عامر سعيد العامري إلى ست مديريات متضررة في رحلة استغرقت أكثر من ثلاث ساعات من التنقل المحفوف بالمخاطر. خلال هذه الساعات الحرجة، تجاوز الموكب الحكومي سيول وادي غبر والعقّاد وشبام ووادي بن علي، في مشاهد مثيرة أظهرت قوة المياه الجارفة التي غمرت الطرقات الرئيسية.
أكد مصدر محلي أن "السيول الجارفة في وادي غبر كادت تجرف موكب المحافظ، لولا سرعة سائق المركبة في المناورة"، في لحظات توتر حادة كشفت عن حجم الخطر الحقيقي الذي واجهه الفريق. لم تكن هذه مجرد مخاطرة عشوائية، بل كانت عملية محسوبة تهدف إلى جمع معلومات دقيقة ومباشرة عن حجم الأضرار، وتقييم الاحتياجات الفورية للمواطنين، والوقوف على إمكانيات الاستجابة المحلية بشكل مباشر.
الأهم من ذلك، أن هذه الجولة لم تكن مجرد عملية تفقد، بل كانت عملية اتخاذ قرارات فورية في الميدان. خلال الساعات الثلاث، أصدر المحافظ سلسلة من التوجيهات العاجلة شملت فتح جميع الطرق المتضررة فوراً، وتشكيل لجان تقييم فورية لحصر الأضرار، وصرف معونات إغاثية عاجلة للعائلات المتضررة، والاستجابة السريعة لطلبات المواطنين مع تأكيد أن "لا تأخير في تقديم الخدمة".

النتائج الملموسة: من المخاطرة إلى النموذج المعياري
حققت الجولة التفقدية الخطيرة نتائج فورية قابلة للقياس، مما يبرهن على فعالية نهج القيادة الميدانية المباشرة في إدارة الأزمات. أولاً، تم تقييم الأضرار بدقة عالية ومعلومات مباشرة، مما مكّن من اتخاذ قرارات مدروسة بشأن توزيع الموارد وأولويات التدخل. ثانياً، ضمنت الزيارة المباشرة وصول المساعدات إلى المناطق الأكثر تضرراً دون تأخير، حيث تم تحديد الاحتياجات الفعلية بناءً على المعاينة المباشرة وليس على التقارير المكتبية.
ثالثاً، عززت الجولة ثقة المواطنين في قدرة الحكومة المحلية على الاستجابة السريعة والفعالة للأزمات، حيث رأوا المسؤولين يشاركونهم المخاطر فعلياً وليس نظرياً. رابعاً، مكّنت الزيارة من تطبيق مبدأ "اللامركزية في اتخاذ القرارات"، حيث تم اتخاذ قرارات فورية في الميدان دون الحاجة للرجوع إلى إجراءات بيروقراطية معقدة قد تؤخر الاستجابة.
الأهم من ذلك، أن هذه الجولة أسست لنموذج جديد في إدارة الأزمات يقوم على "القيادة من المقدمة" بدلاً من "القيادة من المكتب". هذا النموذج يضع المسؤول الحكومي في موقع المواطن العادي، مما يضمن فهماً أعمق لطبيعة التحديات واتخاذ قرارات أكثر واقعية وفعالية. لقد أثبتت هذه التجربة أن القائد الذي يخاطر بسلامته من أجل شعبه يحصل على معلومات أدق وثقة أكبر ونتائج أفضل من القائد الذي يعتمد على التقارير المكتبية.
الرد الاستباقي على منتقدي "المخاطرة غير المحسوبة"
واجهت جولة المحافظ انتقادات من بعض المواطنين الذين وصفوها بـ"المجازفة غير المحسوبة"، متسائلين عن كيفية قيام ممثل الدولة بالمخاطرة بحياته وحياة مرافقيه في ظروف خطيرة. هؤلاء المنتقدون، رغم حسن نيتهم، فشلوا في فهم الفرق الجوهري بين "المخاطرة العشوائية" و"المخاطرة المحسوبة لتحقيق هدف استراتيجي". الجولة لم تكن استعراضاً أو مغامرة شخصية، بل كانت قراراً إدارياً مدروساً يهدف إلى تحقيق أقصى فعالية في إدارة الأزمة.
المفارقة أن هؤلاء المنتقدين أنفسهم كانوا سيوجهون انتقادات أشد لو اكتفى المحافظ بالبقاء في مكتبه وأصدر قرارات بناءً على تقارير قد تكون ناقصة أو متأخرة. القيادة الحقيقية تتطلب أحياناً اتخاذ قرارات صعبة ومحفوفة بالمخاطر، لكن هذه المخاطر تصبح مبررة عندما تحقق نتائج ملموسة لا يمكن تحقيقها بطرق أخرى. الانتقادات نفسها تثبت نجاح النموذج، لأنها تعكس اهتماماً حقيقياً بسلامة المسؤول، وهو ما يؤكد أن المواطنين يقدرون النهج الجديد حتى لو كانوا يخشون عليه.
علاوة على ذلك، فإن الانتقادات تجاهلت النتائج الفعلية للجولة والتي أثبتت صحة القرار. لو كانت النتائج سلبية أو لم تحقق الأهداف المرجوة، لكان للانتقادات مبرر قوي. لكن النتائج الإيجابية الملموسة تؤكد أن "المخاطرة المحسوبة" كانت الخيار الصحيح في هذه الظروف الاستثنائية، وأن القيادة الميدانية المباشرة هي الطريقة الأكثر فعالية لإدارة الأزمات المعقدة.
الآثار الاستراتيجية طويلة المدى: نحو نموذج إداري جديد
تتجاوز أهمية هذه الجولة التفقدية النتائج الفورية لتؤسس لنموذج إداري جديد قد يغير مفهوم الحوكمة المحلية في المنطقة. أولاً، أثبتت التجربة أن "القيادة الميدانية المباشرة" ليست مجرد شعار، بل استراتيجية قابلة للتطبيق حتى في أخطر الظروف، مما يفتح المجال أمام تطبيقها في أزمات أخرى مستقبلية. ثانياً، وضعت التجربة معايير جديدة لتقييم أداء المسؤولين الحكوميين، حيث لم تعد الكفاءة تُقاس فقط بالقرارات المكتبية، بل بالقدرة على اتخاذ قرارات صائبة في الميدان تحت الضغط.
ثالثاً، ستساهم هذه التجربة في تطوير خطط مستقبلية أكثر فعالية لمواجهة التغيرات المناخية، حيث أن المعلومات المباشرة التي تم جمعها خلال الجولة ستكون أساساً لبناء نظام إنذار مبكر متطور وخطط استجابة أكثر واقعية. رابعاً، يمكن أن تصبح هذه التجربة نموذجاً يُحتذى به في محافظات أخرى، مما يرفع مستوى إدارة الأزمات على المستوى الوطني.
الأهم من ذلك، أن هذه التجربة أعادت تعريف العلاقة بين المواطن والمسؤول الحكومي، من علاقة هرمية تقليدية إلى علاقة شراكة في مواجهة التحديات. عندما يرى المواطن مسؤوله يشاركه المخاطر الفعلية، فإن ذلك يخلق رابطاً أقوى من الثقة والانتماء، مما يعزز فعالية السياسات الحكومية ويضمن تعاوناً أفضل من المجتمع في تنفيذها. هذا النموذج من "القيادة التشاركية في المخاطر" قد يكون بداية لتحول جذري في مفهوم الخدمة العامة، من "تقديم خدمات للمواطنين" إلى "المشاركة الفعلية مع المواطنين في مواجهة تحدياتهم".
