لا تعكس تصريحات المسؤولين في طهران والرياض الحالة المتردية التي وصلت إليها علاقات البلدين في الآونة الأخيرة. ولعل الأرجح أن تشهد العلاقات بين البلدين تدهورا على ضوء ما سوف تؤول إليه الأوضاع في سورية التي دخلت مرحلة حرجة تزامنا مع بداية الشهر العشرين للحراك وبوادر انتقال شرارة الحرب الأهلية إلى دول الجوار. كما أن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة في إيران، واحتمالات توجيه ضربة إسرائيلية أو غربية لوقف مشروعها النووي ترمي بظلالها على العلاقات المتوترة، إضافة إلى اتهامات سعودية لإيران بتحريض أبناء الطائفة الشيعية في شرق المملكة والكويت والبحرين، ودعم الحوثيين في اليمن.
ومن غير المنطقي جس حرارة العلاقة بين البلدين عبر تصريحات محمد رضا مير تاج الدين نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية لصحيفة "عكاظ" السعودية منذ يومين. فالتصريح عام ويصدر في موسم الحج المقدس، ويأتي في إطار سعي الطرفين إلى منع أي احتكاك على أساس مذهبي بين الحجيج الشيعة والسنة. ولعل الأهم أن التصريح لم يتطرق إلى مواضيع الخلاف الأساسية بين البلدين مثل الموقف من سورية أو البحرين أو سواه من الملفات الشائكة بين الرياض وطهران.
ورغم أهمية لفتة العاهل السعودي الملك عبد الله بدعوة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للوقوف إلى يساره في أثناء استقبال الوفود المشاركة في قمة التعاون الإسلامي في مكة منتصف شهر آب/ أغسطس من العام الحالي إلا ان الخطوة تنبع في أغلب الظن من أن الملك عبد الله أراد قطع أي حديث عن فتنة شيعية سنية، وفي ذات الوقت التأكيد على أن إيران ليست مستهدفة من قرار تجميد عضوية سورية في المنظمة وتصعيد اللهجة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
صراع شيعي- سني
يزداد الحديث في الآونة الأخيرة عن مخاطر انجرار المنطقة إلى صراع على أساس طائفي. وتنطلق معظم التحليلات والتكهنات من موقفي طهران والرياض المتضادين عمليا في الملف السوري. وفيما بدا واضحا الاصطفاف الإيراني باكرا منذ بداية الأحداث بالتأكيد على أن ما يجري في سورية يعدّ مؤامرة خارجية على "ضلع" مهم في محور المقاومة لن تسمح بكسره، وأن ما يجري في سورية لا علاقة له بأحداث "الربيع العربي"، فإن السعودية اختارت الصمت طويلا قبل أن تقطعه رسالة الملك عبد الله في بداية أغسطس/ آب من العام الماضي للشعب السوري كشف فيها عن احتجاجه على "وحشية أعمال القمع" وأكد دعمه للثوار ضد نظام الأسد.
وصبت تصريحات الملك عبد الله الزيت على العلاقات المتوترة بين الطرفين عقب انحياز طهران الكامل للثورة في البحرين مقابل إرسال السعودية قوات درع الجزيرة لقمع الاحتجاجات وانهائها في مارس/ آذار 2011، واتهامات الرياض لإيران بمحاولة استثارة الشيعة في المناطق الشرقية والتدخل في الشؤون الداخلية من أجل زرع القلاقل والفتنة. وتعدى الموضوع ذلك إلى اتهام طهران بالتدخل في شؤون الكويت واليمن وغيرها من البلدان العربية.
الربيع العربي يكشف تراكمات عقود من الأزمات
ولا يجافي الحقيقة القول إن "الربيع العربي" كشف مدى الاختلاف بين السعودية وإيران، إلا أن استكمال الصورة يقتضي التوقف عند عدد من الأحداث المفصلية في العقود الأخيرة من حياة المنطقة وانعكاساتها على العلاقة بين الطرفين خصوصا إثر نجاح الثورة الإسلامية في طهران والاطاحة بحكم الشاه، ولعلّي في هذه العجالة أتوقف عند أبرز هذه الأحداث من وجهة نظري:
أولا: انحياز السعودية إلى جانب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حرب الخليج الأولى 1980-1988 إذ ساندت الرياض والدول الخليجية العراق في حربه وزودته بالأموال اللازمة لمواصلة الحرب مع النظام الإيراني الصاعد عقب الثورة الإسلامية في العام 1979.
ثانيا: استطاعت إيران بناء علاقة قوية مع سورية منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، وصلت إلى شراكة استراتيجية في تسعينات القرن الماضي أثناء حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد وتواصلت في عهد وريثه الأسد الإبن. وعبر هذا التحالف استطاعت طهران الدخول إلى معادلة الصراع العربي الإسرائيلي من خلال دعم حركة حزب الله في لبنان، واختراق المقاومة السنية ببناء تحالف مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. وقدمت السعودية تنازلات واضحة في اتفاق الطائف 1989 عندما وافقت في الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان بالسماح لحزب الله بمواصلة حمل السلاح واعتباره سلاحا لمقاومة إسرائيل، وحينها بدا واضحا أن السعودية وافقت على تفويض سوري في لبنان أكبر بكثير من السابق، وصب هذا التفويض في مصلحة إيران بدرجة كبيرة.
ثالثا: وفيما انصب غضب المحافظين الجدد ولوبي "إسرائيل" على السعودية إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، وانطلق منظرو إدارة جورج بوش الإبن من أن 15 متهما من أصل 19 ممن نفذوا الاعتداءات على برجي التجارة العالمية من أصل سعودي لشن حملة على الرياض، وفي المقابل كانت إيران أكبر المستفيدين من غزو أفغانستان وتصفية حكم طالبان "السني"، واستطاعت في غمرة انشغال واشنطن في حربها الكونية ضد الإرهاب من قطع مراحل مهمة في برنامجها النووي خصوصا في ظل فترة حكم الرئيس محمد خاتمي الذي دعا إلى الحوار والانفتاح مع الغرب، واتسمت تصريحاته بالهدوء عكس خلفه أحمدي نجاد.
رابعاً: قدمت الولايات المتحدة هدية ثانية ثمينة لإيران باسقاط حكم عدوها اللدود صدام حسين بذريعة امتلاك اسلحة الدمار الشامل، وهو ما ثبت بطلانه لاحقاً، ومع عدم قدرة الولايات المتحدة على ضبط الأمور، وارتكاب مجموعة من الأخطاء الكبيرة مثل قانون اجتثاث البعث، وحل الجيش العراقي بدأت أمريكا بالغوص في المستنقع العراقي في مقابل استغلال إيراني سريع لحالة الفراغ القائم، ودعم الكتل"الشيعية" المؤيدة لها للدخول بقوة إلى العراق، وفرض مرشحيها ورؤيتها لتطور الأحداث.
خامساً: ترافق توسع النفوذ الإيراني في العراق بتراجع نظيره السعودي، لكن الأهم أن مخططات الشرق الأوسط الجديد، وبعده الكبير، التي أطلقتها وسوقت لها مهندسة الدبلوماسية الأمريكية أنذاك الآنسة كونداليزا رايس أدت إلى مزيد من ضعف الدور الإقليمي للسعودية وحليفتها مصر، فيما كانت إيران أكبر الرابحين ودعمت موقف سورية عبر ما عرف بـ "الهلال الشيعي" أو محور الممانعة بضم حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
سادساً: أصيبت الرياض بنكسة كبرى باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري ورجلها الأول في المنطقة في العام 2005، وتلا ذلك نكسة أخرى بصمود حزب الله لأكثر من 33 يوما في حرب تموز 2006 مما عزز دور إيران وقوتها في المنطقة بالتحالف مع محور الممانعة.
سابعاً: بعد استفراد حركة حماس بحكم قطاع غزة، وصمود القطاع لمدة ثمانية عشر يوما في وجهة آلة القتل والتدمير الإسرائيلية وفشل عملية "الرصاص المصبوب" نهاية 2008 بداية 2009 حصدت إيران نقاطا إضافية لمصلحة محورها الممانع.
ثامنا: استطاعت إيران تليين الموقف السوري الذي كان يملك أجندة أقرب إلى الموقف السعودي فيما يخص البنية السياسية للحكم في العراق، ومضت في مشروع تنصيب نوري المالكي في العام 2009، رغم اعتراضات السنة لطريقة إدارته السابقة ما وجه ضربة قوية موجعة أخرى للسعودية في العراق.
تاسعا: لا يمكن إهمال عامل دعم إيران للحوثيين في اليمن في صراعهم مع الرئيس علي عبد الله صالح وتشجيع نزعتهم الانفصالية، واضطرار الرياض إلى الخروج عن تقاليدها المعروفة وإرسال قوات للتصدي لتمرد الحوثيين.
عاشرا: شكلت عودة أعداد كبيرة من أعضاء القاعدة إلى السعودية واليمن في شكل خاص عقب الغزو الأمريكي على أفغانستان ضاغطا كبيرا على الأمن القومي السعودي، خصوصا مع توطن القاعدة في جنوب اليمن واستخدامها مركزا لانطلاق الهجمات على السعودية.
ومن عرض النقاط العشر السابقة يتضح أن التنافس على الدور الإقليمي الأول في المنطقة لم ينقطع بين طهران والرياض منذ نجاح الثورة الإسلامية في العام 1979، وأن عوامل وظروفا إقليمية ودولية لعبت دورا في ترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك، وسعى كل منهما إلى نسج علاقات مع دول المنطقة لترجيح كفته.. فتارة تحالفت السعودية مع العراق وأخرى مع مصر من أجل كبح صعود الدور الإيراني، فيما فتحت طهران علاقات مع سورية وحزب الله والمقاومة الفلسطينية زادت من الأوراق الإقليمية التي توظفها في صراعها مع الغرب من جهة، وفي معركة تثبيت نفسها كقوة إقليمية رائدة في المنطقة.
وقف "الربيع العربي" أو تصديره للطرف الآخر
سوقت طهران انتصار الثورة في تونس ومصر على أنه "صحوة" إسلامية، وانهيار للمشروع الأمريكي وانتصار لمشروع المقاومة وتحالف الممانعة. فيما تحوطت السعودية بإمطار المواطنين بنحو 36 مليار دولار من المساعدات المباشرة، وبرامج استثمارية بقيمة 400 مليار دولار حتى نهاية العام 2014، وزينتها ببعض الإصلاحات السياسية المحدودة. ووجهت الإتهامات إلى إيران بمحاولة إثارة "الشيعة" في شرقي البلاد. وبادرت سريعا في شكل حاسم باستخدام القوة المفرطة في البحرين، كما سعت إلى إيجاد حل للمسألة اليمنية بما يضمن عدم انتقال الثورات إلى المملكة.
ومازال الخطر ماثلا بانتقال نار الثورات إلى المملكة نظرا لتوفر عوامل موضوعية وذاتية إضافة إلى المأزق السياسي الذي تواجهه في ظل ملك يبلغ من العمر 89 عاما، ووفاة وليين للعهد في أقل من سنة، وعدم وجود آلية واضحة لنقل السلطة إلى الأجيال المقبلة في العائلة الحاكمة بعد رحيل الرعيل الأول من أبناء الملك عبد العزيز.
وتزداد المخاوف في طهران من "ربيع إيراني" عقب أحداث البازار، وانهيار قيمة العملة الإيرانية وظهور ثغرات في الجانب الاقتصادي بفعل العقوبات الأوروبية والأمريكية التي أسهمت في خنق قطاع الطاقة الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد. ويزداد المأزق الإيراني في ظل اتضاح موقف الرئيس المصري محمد مرسي للشارع الإيراني من موضوع الأزمة السورية رغم الدور الذي منحه لإيران ضمن الرباعية الإقليمية بالاضافة إلى السعودية وتركيا.
والواضح أن كلا من إيران والسعودية تسعى لمنع انتشار "الربيع" في حدودها من اتجاهين متعاكسين فطهران تسعى إلى نجاح الثورة في البحرين وإسقاط الثورة في سورية من أجل تثبيت محور الممانعة والمقاومة بدور "شيعي" بارز. فيما عملت السعودية وتعمل على منع انتصار الثورة في البحرين، ووقف انتشارها في المناطق الشرقية من المملكة بشتى السبل، وفي نفس الوقت فإنها تأمل بنجاح الثورة في سورية انطلاقا من أن هذا الانتصار يفتح على انحسار الدور الإيراني في المنطقة، وتراجع إيران عن برنامجها النووي.
واستطرادا؛ فإن الحديث عن صراع شيعي- سني في المنطقة ليس في محله تماما، فالخلاف بين الطائفتين أقل بكثير من الخلاف بين الكنائس المسيحية، وأن المعركة تدور الآن حول رغبة السعودية وأطراف أخرى في تجريد طهران من كل المكاسب التي حققتها في العقود الأخيرة، فيما تسعى إيران إلى تثبيت دورها كقوة عظمى في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
"روسيا اليوم"
ومن غير المنطقي جس حرارة العلاقة بين البلدين عبر تصريحات محمد رضا مير تاج الدين نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية لصحيفة "عكاظ" السعودية منذ يومين. فالتصريح عام ويصدر في موسم الحج المقدس، ويأتي في إطار سعي الطرفين إلى منع أي احتكاك على أساس مذهبي بين الحجيج الشيعة والسنة. ولعل الأهم أن التصريح لم يتطرق إلى مواضيع الخلاف الأساسية بين البلدين مثل الموقف من سورية أو البحرين أو سواه من الملفات الشائكة بين الرياض وطهران.
ورغم أهمية لفتة العاهل السعودي الملك عبد الله بدعوة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للوقوف إلى يساره في أثناء استقبال الوفود المشاركة في قمة التعاون الإسلامي في مكة منتصف شهر آب/ أغسطس من العام الحالي إلا ان الخطوة تنبع في أغلب الظن من أن الملك عبد الله أراد قطع أي حديث عن فتنة شيعية سنية، وفي ذات الوقت التأكيد على أن إيران ليست مستهدفة من قرار تجميد عضوية سورية في المنظمة وتصعيد اللهجة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
صراع شيعي- سني
يزداد الحديث في الآونة الأخيرة عن مخاطر انجرار المنطقة إلى صراع على أساس طائفي. وتنطلق معظم التحليلات والتكهنات من موقفي طهران والرياض المتضادين عمليا في الملف السوري. وفيما بدا واضحا الاصطفاف الإيراني باكرا منذ بداية الأحداث بالتأكيد على أن ما يجري في سورية يعدّ مؤامرة خارجية على "ضلع" مهم في محور المقاومة لن تسمح بكسره، وأن ما يجري في سورية لا علاقة له بأحداث "الربيع العربي"، فإن السعودية اختارت الصمت طويلا قبل أن تقطعه رسالة الملك عبد الله في بداية أغسطس/ آب من العام الماضي للشعب السوري كشف فيها عن احتجاجه على "وحشية أعمال القمع" وأكد دعمه للثوار ضد نظام الأسد.
وصبت تصريحات الملك عبد الله الزيت على العلاقات المتوترة بين الطرفين عقب انحياز طهران الكامل للثورة في البحرين مقابل إرسال السعودية قوات درع الجزيرة لقمع الاحتجاجات وانهائها في مارس/ آذار 2011، واتهامات الرياض لإيران بمحاولة استثارة الشيعة في المناطق الشرقية والتدخل في الشؤون الداخلية من أجل زرع القلاقل والفتنة. وتعدى الموضوع ذلك إلى اتهام طهران بالتدخل في شؤون الكويت واليمن وغيرها من البلدان العربية.
الربيع العربي يكشف تراكمات عقود من الأزمات
ولا يجافي الحقيقة القول إن "الربيع العربي" كشف مدى الاختلاف بين السعودية وإيران، إلا أن استكمال الصورة يقتضي التوقف عند عدد من الأحداث المفصلية في العقود الأخيرة من حياة المنطقة وانعكاساتها على العلاقة بين الطرفين خصوصا إثر نجاح الثورة الإسلامية في طهران والاطاحة بحكم الشاه، ولعلّي في هذه العجالة أتوقف عند أبرز هذه الأحداث من وجهة نظري:
أولا: انحياز السعودية إلى جانب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حرب الخليج الأولى 1980-1988 إذ ساندت الرياض والدول الخليجية العراق في حربه وزودته بالأموال اللازمة لمواصلة الحرب مع النظام الإيراني الصاعد عقب الثورة الإسلامية في العام 1979.
ثانيا: استطاعت إيران بناء علاقة قوية مع سورية منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، وصلت إلى شراكة استراتيجية في تسعينات القرن الماضي أثناء حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد وتواصلت في عهد وريثه الأسد الإبن. وعبر هذا التحالف استطاعت طهران الدخول إلى معادلة الصراع العربي الإسرائيلي من خلال دعم حركة حزب الله في لبنان، واختراق المقاومة السنية ببناء تحالف مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. وقدمت السعودية تنازلات واضحة في اتفاق الطائف 1989 عندما وافقت في الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان بالسماح لحزب الله بمواصلة حمل السلاح واعتباره سلاحا لمقاومة إسرائيل، وحينها بدا واضحا أن السعودية وافقت على تفويض سوري في لبنان أكبر بكثير من السابق، وصب هذا التفويض في مصلحة إيران بدرجة كبيرة.
ثالثا: وفيما انصب غضب المحافظين الجدد ولوبي "إسرائيل" على السعودية إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، وانطلق منظرو إدارة جورج بوش الإبن من أن 15 متهما من أصل 19 ممن نفذوا الاعتداءات على برجي التجارة العالمية من أصل سعودي لشن حملة على الرياض، وفي المقابل كانت إيران أكبر المستفيدين من غزو أفغانستان وتصفية حكم طالبان "السني"، واستطاعت في غمرة انشغال واشنطن في حربها الكونية ضد الإرهاب من قطع مراحل مهمة في برنامجها النووي خصوصا في ظل فترة حكم الرئيس محمد خاتمي الذي دعا إلى الحوار والانفتاح مع الغرب، واتسمت تصريحاته بالهدوء عكس خلفه أحمدي نجاد.
رابعاً: قدمت الولايات المتحدة هدية ثانية ثمينة لإيران باسقاط حكم عدوها اللدود صدام حسين بذريعة امتلاك اسلحة الدمار الشامل، وهو ما ثبت بطلانه لاحقاً، ومع عدم قدرة الولايات المتحدة على ضبط الأمور، وارتكاب مجموعة من الأخطاء الكبيرة مثل قانون اجتثاث البعث، وحل الجيش العراقي بدأت أمريكا بالغوص في المستنقع العراقي في مقابل استغلال إيراني سريع لحالة الفراغ القائم، ودعم الكتل"الشيعية" المؤيدة لها للدخول بقوة إلى العراق، وفرض مرشحيها ورؤيتها لتطور الأحداث.
خامساً: ترافق توسع النفوذ الإيراني في العراق بتراجع نظيره السعودي، لكن الأهم أن مخططات الشرق الأوسط الجديد، وبعده الكبير، التي أطلقتها وسوقت لها مهندسة الدبلوماسية الأمريكية أنذاك الآنسة كونداليزا رايس أدت إلى مزيد من ضعف الدور الإقليمي للسعودية وحليفتها مصر، فيما كانت إيران أكبر الرابحين ودعمت موقف سورية عبر ما عرف بـ "الهلال الشيعي" أو محور الممانعة بضم حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
سادساً: أصيبت الرياض بنكسة كبرى باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري ورجلها الأول في المنطقة في العام 2005، وتلا ذلك نكسة أخرى بصمود حزب الله لأكثر من 33 يوما في حرب تموز 2006 مما عزز دور إيران وقوتها في المنطقة بالتحالف مع محور الممانعة.
سابعاً: بعد استفراد حركة حماس بحكم قطاع غزة، وصمود القطاع لمدة ثمانية عشر يوما في وجهة آلة القتل والتدمير الإسرائيلية وفشل عملية "الرصاص المصبوب" نهاية 2008 بداية 2009 حصدت إيران نقاطا إضافية لمصلحة محورها الممانع.
ثامنا: استطاعت إيران تليين الموقف السوري الذي كان يملك أجندة أقرب إلى الموقف السعودي فيما يخص البنية السياسية للحكم في العراق، ومضت في مشروع تنصيب نوري المالكي في العام 2009، رغم اعتراضات السنة لطريقة إدارته السابقة ما وجه ضربة قوية موجعة أخرى للسعودية في العراق.
تاسعا: لا يمكن إهمال عامل دعم إيران للحوثيين في اليمن في صراعهم مع الرئيس علي عبد الله صالح وتشجيع نزعتهم الانفصالية، واضطرار الرياض إلى الخروج عن تقاليدها المعروفة وإرسال قوات للتصدي لتمرد الحوثيين.
عاشرا: شكلت عودة أعداد كبيرة من أعضاء القاعدة إلى السعودية واليمن في شكل خاص عقب الغزو الأمريكي على أفغانستان ضاغطا كبيرا على الأمن القومي السعودي، خصوصا مع توطن القاعدة في جنوب اليمن واستخدامها مركزا لانطلاق الهجمات على السعودية.
ومن عرض النقاط العشر السابقة يتضح أن التنافس على الدور الإقليمي الأول في المنطقة لم ينقطع بين طهران والرياض منذ نجاح الثورة الإسلامية في العام 1979، وأن عوامل وظروفا إقليمية ودولية لعبت دورا في ترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك، وسعى كل منهما إلى نسج علاقات مع دول المنطقة لترجيح كفته.. فتارة تحالفت السعودية مع العراق وأخرى مع مصر من أجل كبح صعود الدور الإيراني، فيما فتحت طهران علاقات مع سورية وحزب الله والمقاومة الفلسطينية زادت من الأوراق الإقليمية التي توظفها في صراعها مع الغرب من جهة، وفي معركة تثبيت نفسها كقوة إقليمية رائدة في المنطقة.
وقف "الربيع العربي" أو تصديره للطرف الآخر
سوقت طهران انتصار الثورة في تونس ومصر على أنه "صحوة" إسلامية، وانهيار للمشروع الأمريكي وانتصار لمشروع المقاومة وتحالف الممانعة. فيما تحوطت السعودية بإمطار المواطنين بنحو 36 مليار دولار من المساعدات المباشرة، وبرامج استثمارية بقيمة 400 مليار دولار حتى نهاية العام 2014، وزينتها ببعض الإصلاحات السياسية المحدودة. ووجهت الإتهامات إلى إيران بمحاولة إثارة "الشيعة" في شرقي البلاد. وبادرت سريعا في شكل حاسم باستخدام القوة المفرطة في البحرين، كما سعت إلى إيجاد حل للمسألة اليمنية بما يضمن عدم انتقال الثورات إلى المملكة.
ومازال الخطر ماثلا بانتقال نار الثورات إلى المملكة نظرا لتوفر عوامل موضوعية وذاتية إضافة إلى المأزق السياسي الذي تواجهه في ظل ملك يبلغ من العمر 89 عاما، ووفاة وليين للعهد في أقل من سنة، وعدم وجود آلية واضحة لنقل السلطة إلى الأجيال المقبلة في العائلة الحاكمة بعد رحيل الرعيل الأول من أبناء الملك عبد العزيز.
وتزداد المخاوف في طهران من "ربيع إيراني" عقب أحداث البازار، وانهيار قيمة العملة الإيرانية وظهور ثغرات في الجانب الاقتصادي بفعل العقوبات الأوروبية والأمريكية التي أسهمت في خنق قطاع الطاقة الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد. ويزداد المأزق الإيراني في ظل اتضاح موقف الرئيس المصري محمد مرسي للشارع الإيراني من موضوع الأزمة السورية رغم الدور الذي منحه لإيران ضمن الرباعية الإقليمية بالاضافة إلى السعودية وتركيا.
والواضح أن كلا من إيران والسعودية تسعى لمنع انتشار "الربيع" في حدودها من اتجاهين متعاكسين فطهران تسعى إلى نجاح الثورة في البحرين وإسقاط الثورة في سورية من أجل تثبيت محور الممانعة والمقاومة بدور "شيعي" بارز. فيما عملت السعودية وتعمل على منع انتصار الثورة في البحرين، ووقف انتشارها في المناطق الشرقية من المملكة بشتى السبل، وفي نفس الوقت فإنها تأمل بنجاح الثورة في سورية انطلاقا من أن هذا الانتصار يفتح على انحسار الدور الإيراني في المنطقة، وتراجع إيران عن برنامجها النووي.
واستطرادا؛ فإن الحديث عن صراع شيعي- سني في المنطقة ليس في محله تماما، فالخلاف بين الطائفتين أقل بكثير من الخلاف بين الكنائس المسيحية، وأن المعركة تدور الآن حول رغبة السعودية وأطراف أخرى في تجريد طهران من كل المكاسب التي حققتها في العقود الأخيرة، فيما تسعى إيران إلى تثبيت دورها كقوة عظمى في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
"روسيا اليوم"