مع اندلاع ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962 وتأسيس الجمهورية العربية اليمنية في شمال اليمن، برز اختلاف بين مشروعين أو توجهين لبناء الدولة: القوى الاجتماعية الحديثة، بما في ذلك «الضباط الأحرار»، يسعون لبناء دولة وطنية حديثة، بينما النخب التقليدية، وفي مقدمها شيوخ القبائل، يريدون دولة تتقاسم السلطة فيها المؤسسات الدولتية والقبلية. جولات النزاع بين الاتجاهين كانت سجالاً بين هاتين القوتين الاجتماعيتين. وفي 17 تموز/ يوليو 1978، توافق أعضاء مجلس الشعب التأسيسي على تنصيب علي عبد الله صالح رئيساً للجمهورية، كتسوية بين القوى التقليدية والقوى الحديثة، وبين مشروعيهما لبناء الدولة. فصالح يمثل نموذجاً للشخصية اللامنتمية، أو ذات الهوية المائعة. إذ على الرغم من انتمائه لقبيلة سنحان، إلا أنه ليس من عائلة مشيخية، فضلاً عن أن قبيلة سنحان كانت آنذاك قبيلة ضعيفة إلى درجة لا تمكِّنه من التعامل مع السلطة باعتبارها غنيمة. وعلى الرغم من انتمائه للمؤسسة العسكرية، إلا أنه لا يحمل مشروع البرجوازية العسكرية لبناء دولة وطنية حديثة، فهو ليس خريج كلية عسكرية، ولم يحصل على أي تعليم نظامي، لذلك كان الرئيس المصري أنور السادات يلقبه بـ"شاويش اليمن".
الدولة الهجين
بنى علي عبد الله صالح دولة «هجين»، تقوم على التداخل بين القبيلة ومؤسسات الدولة، بما يمكِّن النخب القبلية من ممارسة سلطتها عبر الأجهزة الرسمية، فقام بتفكيك وحدات الجيش الوطني، وفي مقدمها قوات المظلات، والعمالقة، والاحتياط، والوحدات المركزية، وأقصى الضباط اليساريين والقوميين ـ الذين يتبنون مشروع الدولة الوطنية ـ من قيادة الوحدات العسكرية، وأسس وحدات عسكرية وأمنية جديدة موالية له، وعين في المواقع القيادية لمعظمها ضباطاً من عشيرته، «بيت الأحمر» (وهذه ليست «آل الاحمر» شيوخ مشايخ قبيلة حاشد)، منهم: علي محسن الأحمر، محمد علي محسن الأحمر، وأخوه الشقيق محمد عبد الله صالح الأحمر، وأخواه غير الشقيقين علي صالح الأحمر ومحمد صالح الأحمر، وآخرون من قبيلته «سنحان» بشكل عام. ومع نهاية الثمانينات، كان ما يقرب من 70 في المائة من قادة الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية من قبيلة «سنحان»، والتي يشكل سكانها والمساحة التي تقيم عليها أقل من واحد في المائة من سكان الجمهورية العربية اليمنية ومساحتها آنذاك .
ثم الدولة السيامية
خلال العقدين الأولين من حكمه، طبق صالح استراتيجية تقوم على إضعاف القوى الاجتماعية الحديثة، والمؤسسات الوطنية والمدنية، وتعزيز القوى الاجتماعية التقليدية، مؤسساتهاعموماً، والقبلية منها بشكل خاص. فوسع في 8 ايار/ مايو 1979 مجلس الشعب التأسيسي من 99 عضواً إلى 159، لاستيعاب مزيد من شيوخ القبائل، وأسس «مصلحة شؤون القبائل» لتوزيع الريع عليهم. وأحيا البنى القبلية في المناطق التي كانت قد بدأت تضعف فيها. وفي العام 1985 ألغى «هيئات التعاون الأهلي للتطوير»، التي كانت تشكل واحدة من أنجح تجارب التنمية الريفية في العالم الثالث، ولعبت دوراً في التحديث الاجتماعي في الريف، واستبدلها بالمجالس المحلية الخاضعة للحكومة، وسهّل سيطرة شيوخ القبائل عليها، وأعاد «الجيش الشعبي» الذي يتقاسم مليشياته شيوخ قبائل حاشد وبكيل. وبالمحصلة العامة، أسس دولة تُتخذ القرارات الاساسية فيها خارج أجهزتها الرسمية، من قبل مجموعة صغيرة من «جنرالات سنحان» وبعض شيوخ القبائل، ما دعا البعض إلى وصف الوضع بـ«دولة رئيس الشيخ وشيخ الرئيس». وبعد توحيد دولتي اليمن عام 1990، تجدد النزاع بين النخب السياسية حول أسس بناء الدولة. وبعد انتصار صالح في حرب صيف 1994، شرع في تعميم نموذج نظامه السياسي على الدولة الموحدة. وفي العام 2000 ، بدأ الإعداد لمشروع توريث نجله الأكبر أحمد، وقامت خطته على بناء دولة سيامية، تتكون من جهازين متلاصقين، جهاز الدولة الوطنية وجهاز النظام العائلي. فعيّن ابنه عام 2000 قائداً للحرس الجمهوري، وفي العام 2001 عين ابن أخيه يحيى أركان حرب لقوات الأمن المركزي، وابن أخيه طارق قائداً للحرس الرئاسي، وابن أخيه هيثم نائباً له. وفي العام 2002 استحدث جهازاً للأمن القومي، في موازاة جهاز الأمن السياسي، وعين ابن أخيه عمار وكيلاً له. وقد بات الجيش العائلي يشكل ما يزيد عن نصف الجيش اليمني، حيث يتكون الحرس الجمهوري من 31 لواء، يبلغ عديدها حوالي 90 ألف جندي وضابط، وتتكون القوات الخاصة من 11 لواء يبلغ عديدها حوالي 30 ألف جندي وضابط، ويبلغ عدد أفراد الأمن المركزي 40 ألف جندي وضابط، فضلاً عن القوات الجوية بقيادة أخيه غير الشقيق محمد صالح الأحمر. وفي العام 2001 أسس مجلساً معيناً للشورى في موازاة مجلس النواب المنتخب.
الاستيلاء على المجتمع المدني
لم يقتصر الطابع السيامي على الدولة فحسب، بل امتد ليشمل المجتمع المدني. ففي موازاة الأحزاب السياسية المؤتلِفة في إطار «اللقاء المشترك»، دعم صالح تأسيس «التحالف الوطني للمعارضة». وفي موازاة «هيئة علماء اليمن» التي كان متحالفاً معها خلال العقدين الأولين من حكمه، أسس «جمعية علماء اليمن». وفي موازاة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية أسس «جمعية الصالح التنموية» التي يرأسها ويديرها نجله العميد أحمد، وجمعية «كنعان لفلسطين» التي يرأسها أبن أخيه العميد يحيى، فضلاً عن عدد كبير من الجمعيات والمراكز والمؤسسات غير الحكومية، والصحف والقنوات الفضائية التي يمولها من ميزانية الدولة. وفي موازاة البرجوازية (الوطنية والقبلية) أسس برجوازية عائلية، فدفع بأبنائه وإخوته وأبنائهم وأصهار العائلة للانخراط في المجال الاقتصادي، وأسس لهم شركات أعمال في قطاعات الخدمات النفطية، والمقاولات، ووكالات السيارات والمعدات، والتوريد، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ومشروعات استثمارية في مجالات الزراعة والعقارات والسياحة والنقل. ودعم على مستوى المنظمات شبه الحكومية، «اتحاد نساء اليمن» الموالي له في مقابل «اللجنة الوطنية للمرأة» التي تتمتع بقدر من الاستقلالية. وفضلاً عن توفر النظام العائلي على بنية مستقلة، تغلغل صالح في بنية الدولة الوطنية لإعادة تشكيلها بما يتلاءم مع مشروع التوريث. فحوَّل الوحدات الاقتصادية إلى وحدات عائلية، من خلال تعيين أقاربه في المواقع القيادية فيها، وفي مقدمها شركة الخطوط الجوية اليمنية، شركة التبغ والكبريت الوطنية، شركة النفط اليمنية، الصندوق الاجتماعي للتنمية، المؤسسة الاقتصادية (العسكرية سابقاً)، بنك التسليف الزراعي، الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد، الشركة اليمنية للاستثمارات النفطية، مصلحة أراضي وعقارات الدولة، والمؤسسة العامة للطرق والجسور... ومن أجل استيعاب الحلفاء الجدد وسعّ التقسيم الإداري، فرفع عدد المحافظات من 18 محافظة إلى 21 محافظة، ورفع عدد المديريات من 301 مديرية إلى 333 مديرية. وأسس عام 2001 المجالس المحلية، الأمر الذي أدى إلى تضخم جهاز الدولة، بحيث بلغ عدد موظفيها المدنيين والعسكريين عام 2011 حوالي 1.5 مليون موظف، يشكلون حوالي 12.5% من إجمالي السكان في سن العمل.
انتفاخ الدولة
تضخم الدولة كتضخم النقود، لا يؤدي إلا إلى تدني قيمتها وضعف فعاليتها، لاسيما في ظل الإدارة العامة الموجهة بالأوامر لا بالأهداف، واختيار المسؤولين على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة، ومصادرة حق المجتمع في محاسبة كبار المسؤولين، وجعله حقاً حصرياً للرئيس. فقد بات كل همّ المسؤولين هو إدارة المؤسسات بما يرضي رئيس النظام العائلي ويحقق أهدافه، لا بما يحقق المصلحة العامة. وفضلاً عن الزج بالجيش الوطني في ست حروب مع جماعة الحوثي («أنصار الله») بمحافظة صعدة خلال الفترة 2004 2010، اضعف الأجهزة القضائية والشرطية بهدف تفتيت المجتمع وبذر النزاعات والحروب القبلية، وتحويل الشأن الأمني إلى شأن عشائري، وتحويل العدالة إلى شأن قبلي. فحسب دراسة للبنك الدولي عام 2005، فإن 70 في المائة من النزاعات تُحل خارج القضاء الرسمي.
تصفيات وما يلزم
اعتمد علي صالح استراتيجية عنف سياسي لإضعاف خصومه، بما في ذلك الاغتيالات السياسية. فهناك شكوك كثيرة حول وقوفه وراء الاغتيالات التي تعرض لها بعض قادة الحزب الاشتراكي اليمني خلال 1991-1993. وعندما بدأ التمهيد لمشروع التوريث، استعاض عن التصفيات بالإرهاب السياسي، لإضعاف الخصوم والحلفاء في آن. فعمل على إضعاف قوة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر أكبر حلفائه القبليين حتى نهاية تسعينات القرن العشرين، و«جنرالات سنحان» بمن فيهم أخوه غير الشقيق علي صالح الأحمر، وعلي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، الذي تعرض لعدد من محاولات الاغتيال، وأحمد فرج ومحمد إسماعيل القاضي اللذان قضيا في حادث غامض (انفجار طائرة مروحية) في محافظة شبوه عام 2001.
تكتل الانتهازيين والمنتفعين
بات الوصول إلى السلطة والثروة والمكانة الاجتماعية مرهوناً بالعلاقة بالنظام. ففي المجال الاقتصادي يقدَّر ما تم تنفيذه من أعمال عامة عبر المناقصات بحوالي 20 في المائة فقط من إجمالي الأعمال العامة التي تم تنفيذها عام 2004. وفي مخالفة صريحة لقانون الجامعات اليمنية، تم تعيين رؤساء للجامعات من بين من هم بدرجة أستاذ مشارك أو أستاذ مساعد. ولم تسْلم المؤسسة العسكرية من هذه الممارسات، فمنح بعض شيوخ القبائل رتباً عسكرية، ومنح الضباط الموالين رتباً عسكرية مخالِفة للقانون، ما أدى إلى تضخم كبير في الرتب العليا للضباط العاملين، فهناك أكثر من 15 ألف رتبة عقيد، فيما عدد الضباط الحاصلين على بعض الرتب الأدنى أقل من ذلك بكثير. وبالمحصلة العامة، تشكَّل تكتل محافظ من الانتهازيين والمنتفعين، المرتبطين ارتباطاً وجودياً بالنظام، المدافعين عنه حفاظاً على ما اكتسبوه دون حق أو منصب.
الغرور
حقق علي صالح بعض النجاح في إضعاف حلفائه القدامى، الأمر الذي ولد لديه شعوراً بأنه قد قضى على كل مصادر التهديد لبقائه في السلطة وتوريثها، فدفع في كانون الثاني/ يناير 2011 بمشروع للتعديلات الدستورية، وصفه سلطان البركاني (الأمين العام المساعد للحزب الحاكم)، بأنه لا يشكل فقط تصفيراً لعداد الولايات الرئاسية، بل تكسيراً له. ولم يكن يدرك أن نظامه سوف يؤتى من حيث لا يحتسب، حيث أشعل الطلاب والشباب بعد ذلك بشهر شرارة ثورة شعبية، ورفعوا شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ويبدو أن مستشاريه أقنعوه بأنها مجرد عدوى عاطفية، لذلك كرر كثيراً وصف الهبة الشعبية بأنها مجرد تقليد لما حدث في تونس ومصر، وكان يعتقد أن تنفيذ قدر من العنف غير المعلن، واستعراض القوة عن طريق تنظيم مظاهرات واعتصامات مضادة، وانحناء مؤقت لموجة الثورة عن طريق تقديم وعود بالإصلاح، يكفي للدفاع عن نظامه العائلي. ولما فشلت هذه الأساليب، تحول إلى المواجهة العسكرية الشاملة، فقال أثناء لقائه بأعضاء هيئة علماء اليمن: «أنا علي عبد الله صالح الحميري سوف أدافع عن سلطتي وسوف يسيل الدم للركب». ودشن ذلك بتنفيذ مجزرة جمعة الكرامة (18 آذار/ مارس 2011)، وتلتها جرائم متعددة. وأما النهاية فمعروفة. فقد اضطر مكرهاً للتنازل عن السلطة، ولكن الصراع معه ما زال جارياً لإخراجه تماماَ من المجال السياسي.
*عادل مجاهد الشرجبي
أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء
"السفير العربي" اللبنانية
الدولة الهجين
بنى علي عبد الله صالح دولة «هجين»، تقوم على التداخل بين القبيلة ومؤسسات الدولة، بما يمكِّن النخب القبلية من ممارسة سلطتها عبر الأجهزة الرسمية، فقام بتفكيك وحدات الجيش الوطني، وفي مقدمها قوات المظلات، والعمالقة، والاحتياط، والوحدات المركزية، وأقصى الضباط اليساريين والقوميين ـ الذين يتبنون مشروع الدولة الوطنية ـ من قيادة الوحدات العسكرية، وأسس وحدات عسكرية وأمنية جديدة موالية له، وعين في المواقع القيادية لمعظمها ضباطاً من عشيرته، «بيت الأحمر» (وهذه ليست «آل الاحمر» شيوخ مشايخ قبيلة حاشد)، منهم: علي محسن الأحمر، محمد علي محسن الأحمر، وأخوه الشقيق محمد عبد الله صالح الأحمر، وأخواه غير الشقيقين علي صالح الأحمر ومحمد صالح الأحمر، وآخرون من قبيلته «سنحان» بشكل عام. ومع نهاية الثمانينات، كان ما يقرب من 70 في المائة من قادة الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية من قبيلة «سنحان»، والتي يشكل سكانها والمساحة التي تقيم عليها أقل من واحد في المائة من سكان الجمهورية العربية اليمنية ومساحتها آنذاك .
ثم الدولة السيامية
خلال العقدين الأولين من حكمه، طبق صالح استراتيجية تقوم على إضعاف القوى الاجتماعية الحديثة، والمؤسسات الوطنية والمدنية، وتعزيز القوى الاجتماعية التقليدية، مؤسساتهاعموماً، والقبلية منها بشكل خاص. فوسع في 8 ايار/ مايو 1979 مجلس الشعب التأسيسي من 99 عضواً إلى 159، لاستيعاب مزيد من شيوخ القبائل، وأسس «مصلحة شؤون القبائل» لتوزيع الريع عليهم. وأحيا البنى القبلية في المناطق التي كانت قد بدأت تضعف فيها. وفي العام 1985 ألغى «هيئات التعاون الأهلي للتطوير»، التي كانت تشكل واحدة من أنجح تجارب التنمية الريفية في العالم الثالث، ولعبت دوراً في التحديث الاجتماعي في الريف، واستبدلها بالمجالس المحلية الخاضعة للحكومة، وسهّل سيطرة شيوخ القبائل عليها، وأعاد «الجيش الشعبي» الذي يتقاسم مليشياته شيوخ قبائل حاشد وبكيل. وبالمحصلة العامة، أسس دولة تُتخذ القرارات الاساسية فيها خارج أجهزتها الرسمية، من قبل مجموعة صغيرة من «جنرالات سنحان» وبعض شيوخ القبائل، ما دعا البعض إلى وصف الوضع بـ«دولة رئيس الشيخ وشيخ الرئيس». وبعد توحيد دولتي اليمن عام 1990، تجدد النزاع بين النخب السياسية حول أسس بناء الدولة. وبعد انتصار صالح في حرب صيف 1994، شرع في تعميم نموذج نظامه السياسي على الدولة الموحدة. وفي العام 2000 ، بدأ الإعداد لمشروع توريث نجله الأكبر أحمد، وقامت خطته على بناء دولة سيامية، تتكون من جهازين متلاصقين، جهاز الدولة الوطنية وجهاز النظام العائلي. فعيّن ابنه عام 2000 قائداً للحرس الجمهوري، وفي العام 2001 عين ابن أخيه يحيى أركان حرب لقوات الأمن المركزي، وابن أخيه طارق قائداً للحرس الرئاسي، وابن أخيه هيثم نائباً له. وفي العام 2002 استحدث جهازاً للأمن القومي، في موازاة جهاز الأمن السياسي، وعين ابن أخيه عمار وكيلاً له. وقد بات الجيش العائلي يشكل ما يزيد عن نصف الجيش اليمني، حيث يتكون الحرس الجمهوري من 31 لواء، يبلغ عديدها حوالي 90 ألف جندي وضابط، وتتكون القوات الخاصة من 11 لواء يبلغ عديدها حوالي 30 ألف جندي وضابط، ويبلغ عدد أفراد الأمن المركزي 40 ألف جندي وضابط، فضلاً عن القوات الجوية بقيادة أخيه غير الشقيق محمد صالح الأحمر. وفي العام 2001 أسس مجلساً معيناً للشورى في موازاة مجلس النواب المنتخب.
الاستيلاء على المجتمع المدني
لم يقتصر الطابع السيامي على الدولة فحسب، بل امتد ليشمل المجتمع المدني. ففي موازاة الأحزاب السياسية المؤتلِفة في إطار «اللقاء المشترك»، دعم صالح تأسيس «التحالف الوطني للمعارضة». وفي موازاة «هيئة علماء اليمن» التي كان متحالفاً معها خلال العقدين الأولين من حكمه، أسس «جمعية علماء اليمن». وفي موازاة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية أسس «جمعية الصالح التنموية» التي يرأسها ويديرها نجله العميد أحمد، وجمعية «كنعان لفلسطين» التي يرأسها أبن أخيه العميد يحيى، فضلاً عن عدد كبير من الجمعيات والمراكز والمؤسسات غير الحكومية، والصحف والقنوات الفضائية التي يمولها من ميزانية الدولة. وفي موازاة البرجوازية (الوطنية والقبلية) أسس برجوازية عائلية، فدفع بأبنائه وإخوته وأبنائهم وأصهار العائلة للانخراط في المجال الاقتصادي، وأسس لهم شركات أعمال في قطاعات الخدمات النفطية، والمقاولات، ووكالات السيارات والمعدات، والتوريد، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ومشروعات استثمارية في مجالات الزراعة والعقارات والسياحة والنقل. ودعم على مستوى المنظمات شبه الحكومية، «اتحاد نساء اليمن» الموالي له في مقابل «اللجنة الوطنية للمرأة» التي تتمتع بقدر من الاستقلالية. وفضلاً عن توفر النظام العائلي على بنية مستقلة، تغلغل صالح في بنية الدولة الوطنية لإعادة تشكيلها بما يتلاءم مع مشروع التوريث. فحوَّل الوحدات الاقتصادية إلى وحدات عائلية، من خلال تعيين أقاربه في المواقع القيادية فيها، وفي مقدمها شركة الخطوط الجوية اليمنية، شركة التبغ والكبريت الوطنية، شركة النفط اليمنية، الصندوق الاجتماعي للتنمية، المؤسسة الاقتصادية (العسكرية سابقاً)، بنك التسليف الزراعي، الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد، الشركة اليمنية للاستثمارات النفطية، مصلحة أراضي وعقارات الدولة، والمؤسسة العامة للطرق والجسور... ومن أجل استيعاب الحلفاء الجدد وسعّ التقسيم الإداري، فرفع عدد المحافظات من 18 محافظة إلى 21 محافظة، ورفع عدد المديريات من 301 مديرية إلى 333 مديرية. وأسس عام 2001 المجالس المحلية، الأمر الذي أدى إلى تضخم جهاز الدولة، بحيث بلغ عدد موظفيها المدنيين والعسكريين عام 2011 حوالي 1.5 مليون موظف، يشكلون حوالي 12.5% من إجمالي السكان في سن العمل.
انتفاخ الدولة
تضخم الدولة كتضخم النقود، لا يؤدي إلا إلى تدني قيمتها وضعف فعاليتها، لاسيما في ظل الإدارة العامة الموجهة بالأوامر لا بالأهداف، واختيار المسؤولين على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة، ومصادرة حق المجتمع في محاسبة كبار المسؤولين، وجعله حقاً حصرياً للرئيس. فقد بات كل همّ المسؤولين هو إدارة المؤسسات بما يرضي رئيس النظام العائلي ويحقق أهدافه، لا بما يحقق المصلحة العامة. وفضلاً عن الزج بالجيش الوطني في ست حروب مع جماعة الحوثي («أنصار الله») بمحافظة صعدة خلال الفترة 2004 2010، اضعف الأجهزة القضائية والشرطية بهدف تفتيت المجتمع وبذر النزاعات والحروب القبلية، وتحويل الشأن الأمني إلى شأن عشائري، وتحويل العدالة إلى شأن قبلي. فحسب دراسة للبنك الدولي عام 2005، فإن 70 في المائة من النزاعات تُحل خارج القضاء الرسمي.
تصفيات وما يلزم
اعتمد علي صالح استراتيجية عنف سياسي لإضعاف خصومه، بما في ذلك الاغتيالات السياسية. فهناك شكوك كثيرة حول وقوفه وراء الاغتيالات التي تعرض لها بعض قادة الحزب الاشتراكي اليمني خلال 1991-1993. وعندما بدأ التمهيد لمشروع التوريث، استعاض عن التصفيات بالإرهاب السياسي، لإضعاف الخصوم والحلفاء في آن. فعمل على إضعاف قوة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر أكبر حلفائه القبليين حتى نهاية تسعينات القرن العشرين، و«جنرالات سنحان» بمن فيهم أخوه غير الشقيق علي صالح الأحمر، وعلي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، الذي تعرض لعدد من محاولات الاغتيال، وأحمد فرج ومحمد إسماعيل القاضي اللذان قضيا في حادث غامض (انفجار طائرة مروحية) في محافظة شبوه عام 2001.
تكتل الانتهازيين والمنتفعين
بات الوصول إلى السلطة والثروة والمكانة الاجتماعية مرهوناً بالعلاقة بالنظام. ففي المجال الاقتصادي يقدَّر ما تم تنفيذه من أعمال عامة عبر المناقصات بحوالي 20 في المائة فقط من إجمالي الأعمال العامة التي تم تنفيذها عام 2004. وفي مخالفة صريحة لقانون الجامعات اليمنية، تم تعيين رؤساء للجامعات من بين من هم بدرجة أستاذ مشارك أو أستاذ مساعد. ولم تسْلم المؤسسة العسكرية من هذه الممارسات، فمنح بعض شيوخ القبائل رتباً عسكرية، ومنح الضباط الموالين رتباً عسكرية مخالِفة للقانون، ما أدى إلى تضخم كبير في الرتب العليا للضباط العاملين، فهناك أكثر من 15 ألف رتبة عقيد، فيما عدد الضباط الحاصلين على بعض الرتب الأدنى أقل من ذلك بكثير. وبالمحصلة العامة، تشكَّل تكتل محافظ من الانتهازيين والمنتفعين، المرتبطين ارتباطاً وجودياً بالنظام، المدافعين عنه حفاظاً على ما اكتسبوه دون حق أو منصب.
الغرور
حقق علي صالح بعض النجاح في إضعاف حلفائه القدامى، الأمر الذي ولد لديه شعوراً بأنه قد قضى على كل مصادر التهديد لبقائه في السلطة وتوريثها، فدفع في كانون الثاني/ يناير 2011 بمشروع للتعديلات الدستورية، وصفه سلطان البركاني (الأمين العام المساعد للحزب الحاكم)، بأنه لا يشكل فقط تصفيراً لعداد الولايات الرئاسية، بل تكسيراً له. ولم يكن يدرك أن نظامه سوف يؤتى من حيث لا يحتسب، حيث أشعل الطلاب والشباب بعد ذلك بشهر شرارة ثورة شعبية، ورفعوا شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ويبدو أن مستشاريه أقنعوه بأنها مجرد عدوى عاطفية، لذلك كرر كثيراً وصف الهبة الشعبية بأنها مجرد تقليد لما حدث في تونس ومصر، وكان يعتقد أن تنفيذ قدر من العنف غير المعلن، واستعراض القوة عن طريق تنظيم مظاهرات واعتصامات مضادة، وانحناء مؤقت لموجة الثورة عن طريق تقديم وعود بالإصلاح، يكفي للدفاع عن نظامه العائلي. ولما فشلت هذه الأساليب، تحول إلى المواجهة العسكرية الشاملة، فقال أثناء لقائه بأعضاء هيئة علماء اليمن: «أنا علي عبد الله صالح الحميري سوف أدافع عن سلطتي وسوف يسيل الدم للركب». ودشن ذلك بتنفيذ مجزرة جمعة الكرامة (18 آذار/ مارس 2011)، وتلتها جرائم متعددة. وأما النهاية فمعروفة. فقد اضطر مكرهاً للتنازل عن السلطة، ولكن الصراع معه ما زال جارياً لإخراجه تماماَ من المجال السياسي.
*عادل مجاهد الشرجبي
أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء
"السفير العربي" اللبنانية