الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٢٨ مساءً

هدى أَم بشار؟

ماجد عبد الهادي
الخميس ، ٠٨ يناير ٢٠١٥ الساعة ٠١:٣١ مساءً
أشعر بالبرد، لا على غرار الفنان الجميل كاظم الساهر، في أغنيته الشهيرة "جسمك خارطتي" التي كتبها الشاعر الراحل، نزار قباني، وصارت تذيب قلوب العشاق، طرباً، بل بمعنى آخر غامض، وملتبس، يؤدي إليه، على ما أظن، اختلاط صور أطفال اللاجئين السوريين، الغارقين في وحل الصحاري العربية، مع بقايا طفولة شخصية، تأبى السقوط من غربال الذاكرة، فأجدني أرتجف أمام مشهد الرياح العاتية، على شاشة التلفزيون، حتى وأنا أجلس وسط درجة حرارة تفوق 25 مئوية، وعلى بعد ألفي كيلومتر من مخيمات الزعتري وعرسال وأضنة.

إنها فوبيا، قد تكون، ولعلّها غير مبررة، في الوقت نفسه، بالمعنى العلمي أو الواقعي. فليس في وسع "هدى"، العاصفة التي تضرب شرق المتوسط، أن تصل، مهما بلغت شدتها، إلى شواطئ الخليج العربي. هي قوية، عنيفة، هوجاء، وقد تستطيع اقتلاع خيم اللاجئين والنازحين السوريين، في سورية ولبنان والأردن وتركيا، كما يمكن لصقيعها أن يُجمّد قلوبهم، ألماً، من شدة البرد، أو كمداً، على ارتجاف أطفالهم، تحت وطأتها.

وليس في وسع "هدى"، أيضاً، أن تصيب بضررها أحداً ممّن يمتلكون البيوت ووسائل التدفئة الحديثة، والمكاتب، والسيارات التي لا تقل دفئاً، هناك، في شرق المتوسط، وفي جنوبه، كما في شبه جزيرة العرب. هي متورطة، على الأرجح، في التمييز بين الناس، على أسس اجتماعية، وربما سياسية، أو لعلّها نذرت استخدام قوتها العاتية، لسبب لا نعرفه، ضد الضعفاء المسحوقين، أصلاً، ودون الأقوياء، المنهمكين، منذ أيام، في السخرية منها، كما من اسمها، على صفحات الإنترنت.

وليس في وسع "هدى"، كذلك، وعلى ما تشي به التنبؤات بالأحوال الجوية، أن تكون مثل "كاترينا" التي ضربت الولايات المتحدة قبل سنوات، بلا تفرقة بين أبيض وأسود، أو بين غني وفقير. هي، أي "هدى" هذه، تبدو كأنها مصنوعة بمواصفات عربية، على الرغم من قدومها من أقصى شمال أوروبا، وهي، على طرافة اسمها، وتناقضه الصارخ مع فعلها، لا تختلف عن سابقاتها اللواتي كُنّ بلا أسماء معروفة، ولا تشذّ عن المعهود في سلوك الأقوياء، تاريخياً، على أرض تلك البلاد الواقعة شرق المتوسط.

في ما مضى من تجارب مشابهة، لمأساة اللاجئين السوريين مع العاصفة "هدى"، وأعني، على وجه التحديد، تجربة اللجوء الفلسطيني الذي أعقب النكبة عام 1948، كانت العواصف نكرات، تأتي على حين غرة، ومن دون أن يتنبأ بها أحد، أو يتحسّب الناس لأضرارها. وقد حدثتني أمي مرات ومرات، عن عاصفة مشابهة ضربت مخيمات اللاجئين عام 1950، ولم ينتبه الناس، آنذاك، لخطورتها، إلا بعدما غاصت خيمهم في الوحل، وغمرتها الثلوج. قالت إن عمي، الوحيد الذي كان شاباً، في مقتبل العمر، واستشهد في وقت لاحق، لم يجد غير وعاء غسيل الملابس البدائي (اللجن)، ليستعمله في كسح الثلج المتراكم أمام باب الخيمة، ويعمل مع شبان آخرين، أياماً عدة، قبل أن يتمكنوا من فتح الطريق إلى الشارع البعيد.

ستمر ستة عقود على تلك الحكاية المرسومة بكلام الأمهات البسيط، قبل أن تصير، اليوم، صوراً تلفزيونية ملونة. وسيتفرج العالم، في زمن ثورة الاتصالات، على ما تعامى عن رؤيته، إبّان تلك الحقبة الموغلة في الظلم، من دون أن ينشغل كثيراً بالأطفال المتحلّقين حول وسيلة دفء بدائية، لا تدفئ، ولا تقي شر الموت برداً. سيقال إنه غضب الطبيعة، الذي لا يستطيع أحد حياله سوى تقديم المساعدات البسيطة، وسيكون من شأن الاختلاف على اسم العاصفة، هدى، أو زينة، أن يُغيّب جواب السؤال الأهم عن اسم الإعصار الذي ألقى، أصلاً، بملايين الناس على قارعة الصحراء القاحلة الباردة؛ بشار الأسد.

"العربي الجديد"