الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٤:٣٤ صباحاً

الموت فقراً!

عباس القاضي
الثلاثاء ، ٠٩ ديسمبر ٢٠١٤ الساعة ١٠:٣٩ صباحاً
كان يدللها لا يرفض لها طلبا ،، فقد كانت غرفتها تضيق بالألعاب ،، كيف لا ،،وهي البكر التي جاءت بعد سبع سنوات من الانتظار ،، بدأت طلباتها تتأجل ،،والاهتمام بها يقل ،،فصحة الأب تتدهور يوما بعد يوم ،، أصيب بمرض يقربه للموت يوميا بالقدر الذي يبتعد فيه الأمل في الشفاء .

جاء اليوم الذي اكتظت فيه البيت بالرجال والنساء ،، والناس تقول : الله يرحمه ،، في الوقت الذي وصلت فيه سعاد من المدرسة .

فسحوا لها الطريق ،، دعوها تزور أباها وتنظر له النظرة الأخيرة ،، قالها صوت رجل من الحاضرين .

ألقت بحقيبتها في الطريق ،، تسير بذهول ،،يستقبلها صوت من الداخل : " سعليك " يا ابنتي ،، كلنا لهذه الطريق ، عبارات ينوء بعقلها الصغير.

احتضنتها أمها ،، قبل أن تصل إلى أبيها ،، وبصوت جنائزي : أصبحت يتيمة يا سعاد ،، كتب علينا الشقاء بقية العمر ،، أبوك سالم مات قبل ساعة ،، والنساء يثنين أمها من زيادة معاناة ابنتها ،،بهذه العبارات التي تفطر القلب ،، أفلتت سعاد من أمها ، ثم اتجهت إلى أبيها المسجى على فراش الموت ،، وألقت بجسدها الخائر عليه ،، فلو كان حيا ما تحمل سقوط جسدها عليه ،،، وبدأت تناجيه بصوت منخفض وتناديه بصوت عال ،، والحاضرون رجالا ونساء يسمعون لها باكين من شدة التأثر ،، حتى أن أحدهم سقط مغشيا عليه : أبي ،،، كلمني، قول لهم : إنني ما زلت حيا ،، كيف تموت ! من يطعمني ويسقيني ؟ من يدرسني ويكسيني ؟ من يشتري لي الألعاب ويفسحني ؟ ،،، أبي ، قل لهم أنا أمزح ،،، وأمسكت برأسه توجهه صوبها ،،، ها أنا أبنتك ، حبيبتك ، سعاد ،، كنت لا تذهب للعمل إلا وقد رأيتني رغم مشاكسات أمي ،،، تقول : أريد أن أكحل عيني برؤية سعاد قبل أن أذهب للعمل .

يد تمتد نحوها من الخلف ترفعها من إبطيها إنها يد عمتها بنفس الوقت تأتي خالتها من الأمام فتحضنها حتى لا ترى أباها وقت خروجه وهم يرفعونه فوق الأكتاف لتشييعه ،، لكن سعاد انهارت على سمع الأصوات وهم يرددون " لا إله إلا الله لا يبقى إلا الله " وأختها الصغيرة ميسون تبكي لبكائها وأمها والحاضرات من النساء .

صحت سعاد بعد أن انتهى كل شيء والمعزين من حولها يقولون : سالم لا يجوز له سوى الرحمة .

مرت أيام العزاء ،،، وانسدلت أمامها كل ما يذكرها بموت أبيها ،، وقد رحل بعد أن أنفق كل ما يملك بشراء الدواء العبثي الذي كان يغالط به نفسه ،، أملا بأن يخفف آلامه ليحكي لسعاد الحكايات والألغاز .

كذلك الأهل والأقارب نسوا سالم وعائلة سالم ،،، فهاهي سعاد وأمها وأختها أمام الحاجة وجها لوجه ، والذين كانوا يضربون صدورهم من أهله وأهلها اختفوا ، ولم يكلفوا أنفسهم حتى باتصال ، والمعضلة الكبرى أنهم سيمنعون أم سعاد من العمل ، كونها أرمل .

قالت لها : ابنتي لا سبيل إلا أن تعملي ،،، ما ذا أعمل ؟ ردت عليها سعاد ، قالت الأم نأخذ طبق بيض من البقالة دينا ،، ثم نغليها بالماء حتى تنجح ،،وتذهبي به إلى مكان يكون مزدحما ،، تجلسين على الأرض تبعيها هناك وأختك ميسون تبيع الماء بجوارك وتحرسك ، ردت عليها سعاد : لكن يا أمي قيمة البيض والغاز ،، كم ستكون الفائدة يا أمي ؟ .

قالت الأم : ما يدريك يا ابنتي ،،، لعل قلبا حنونا يشفق عليك وأختك ويعطيك قيمة الطبق كله بقيمة بيضة واحدة .

وها هي سعاد ،،، تقف على ناصية الشارع تبيع البيض ،،، وما زالت تنتظر ذلك المحسن الذي سيعطيها قيمة الطبق كله بقيمة بيضة واحدة .