الخميس ، ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:٥٠ صباحاً

عندما يكذب الواقع الأقوال

عبدالعزيز المقالح
السبت ، ٠٦ ديسمبر ٢٠١٤ الساعة ٠٦:٥٠ صباحاً
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في الأيام الماضية حالة من الاحتجاجات العاصفة وصلت في بعض المدن الكبيرة، في ولاية "ميزوري" وفي مدينة "فيرغسون" خاصة، إلى درجة التمرد، مما اضطر البيت الأبيض إلى الدفع بقوات من الجيش الاتحادي إلى التدخل، والسبب كما أذاعت وكررت وسائل الإعلام يعود إلى تبرئة ضابط أبيض من تهمة قتل صبي أسود بإطلاق الرصاص على رأسه . كان التبرير الذي استند إليه المحلفون أن الضابط الأبيض كان يدافع عن نفسه، وهو المبرر الذي تم استخدامه من قبل في جرائم سابقة بلا حصر، وهو ما يؤكد أن التفرقة العنصرية لا تزال تنهش قلب هذه الدولة العظمى وتتحكم في مفاصلها السياسية والاقتصادية والثقافية، وتوزع المواطنون إلى ثلاث فئات هي: البيض، الخلاسيون، السود . وهو تقسيم يجعل من أحاديث الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كلاماً في الهواء، كما يجعل من الرجل الأبيض سيد البلاد بلا منازع أو منافس .
والمعنى المخيف والصادم الذي يعكسه هذا الواقع أن ما قيل عن تحرير العبيد وطي صفحة الرق في هذا البلد الديمقراطي الكبير لم يكن سوى خدعة كلامية ساعد الإعلام على تصديرها إلى الداخل والخارج، في حين أن الحال لم يختلف كثيراً عما كان عليه قبل الرئيس "أبراهام لينكولن" الذي دفع حياته ثمناً لإلغاء التمييز وتحرير السود من العبودية التي صارت منذ ذلك الحين فعلاً مخزياً ومخجلاً لا تقره الأديان والقوانين، ولا تقبل به النفوس الكبيرة ذات النزوع الإنساني والشعور بأن الإنسان أياً كان لونه أو جنسه قيمة جديرة بالحرية والكرامة .
وما يزيد الوضع حرجاً ويبعث على العديد من الأسئلة أن الرئيس الحالي للولايات المتحدة ينتمي إلى طائفة السود الأفارقة، وأن انتخابه الاستثنائي غير المسبوق والذي لن يتكرر سيغدو موضع تساؤلات كبيرة عن انخفاض دوره وسيضعف من شعبية الرئيس المتدهورة، ويضيف سبباً رئيساً آخر إلى الأسباب الأخرى التي جعلته يفقد حالة الإجماع التي تم استقباله بها بعد فوزه مباشرة .
لقد تصدرت أنباء الاضطرابات التي عمّت بعض المدن الأمريكية واجهة الأحداث التي يرصدها الإعلام العالمي، وكان لها أصداؤها في أوساط المثقفين والقانونيين ومنظمات حقوق الإنسان، وللمرة الألْف وربما أكثر بكثير تقف دولة الديمقراطية الأولى وقضاؤها موقف المدان، وهي التي دائماً تدين، وسيظل ما حدث في مدينة "فيرغسون" الأمريكية مصدر إزعاج للنظام الديمقراطي في بلد تصل فيه التفرقة والتمييز إلى درجة تجعل من دخول بعض المطاعم وبعض الفنادق حكراً على البيض وحدهم لا يشاركهم فيها مواطن ملون، حتى لو كان الرئيس أوباما نفسه، فالإقصاء يتوقف على لون البشرة لا على ما يحمله صاحب هذه البشرة من فكر أو يمتلكه من مال، ويبدو أن التعليم مهما ارتقى لن يحل مشكلة التفرقة، كما أن الدساتير والقوانين أعجز من أن تحدّ من مشاعر الكراهية والاستعلاء الكامنة في الوجدان، وجدان السياسي والقاضي والمواطن الأبيض المشبع بالذاتية المفرطة والإحساس المريض بالتفوق .
إن العالم كله، وليست الولايات المتحدة وحدها التي تشهد هذا النوع المدمّر من التراجع في احترام الحقوق البشرية وفي النظرة الدونية إلى الإنسان الآخر أو المختلف لوناً أو جنساً أو عقيدة، وما يحدث من تلبّس السياسي بالديني واختفاء المصالح الذاتية وراء الشعارات شبه المقدسة . ويبدو أن العالم بقدر ما يتقدم علمياً وصناعياً يتأخر أخلاقياً ومعنوياً، وتلك هي المعالم الأولى للكارثة التي ستعود بالإنسان إلى ما هو أسوأ من حياة الغابة .