الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:١٥ مساءً

وطن يبدأ من الساحات

جمال أنعم
الخميس ، ٢٠ اكتوبر ٢٠١١ الساعة ١١:٠١ صباحاً
هذه الشهور الثمانية في الساحات هي عمرنا الحقيقي.. ما طالت بل طالت القامات وارتفعت الهامات، لا وقت ضائع على من وجدوا كينونتهم واستعادوا حياتهم بعد طول ضياع، هذا وقت محسوب لنا بالكامل. هو ربحنا من العمر المضيع في سوق الخسارات، ميلادنا ابتدأ هنا في فضاءات الحرية، زمننا ابتدأ من هذه الميادين الموَّارةِ بالحياة.

هذه الساحات مغرب ?? سنة من القهر والاستبداد، ومطلع اليمن الجديد، قبلها العمر نصبٌ، تعبٌ مديد، أعمار في بطن الفساد المعمر.

هذي الشهور ما أقلها، كمخاض انعتاقٍ من عقود هوان. ما أقلها لكي نسترد الكثير الكثير من الروح والكبرياء.
أعمار الشعوب تقاس بالصحوات الكبرى، وبفترات اليقظة، والتواريخ المجيدة الفارقة.

تصورت عصابة الحكم أنها قادرة على تحويل هذا الزمن لحسابها المنتهي تماما. تصورت أنها قادرة على جعله لها، لا عليها. وتلك محاولة نهب أخيرة بائسة، لشهور ثائرة عصية على النهب، هي معبر اليمن إلى المستقبل، إلى حياة الحرية والكرامة.

تتكاثر التحديات بقدر التقدم في الدرب، وقد فرضت البداية تركيز الجهد والنظر صوب التحدي الحاكم، ظلت الطاقة مصوبة باتجاه واحد، ظل كل ماعدا إسقاط النظام مغْفَلا، وربما مؤجلا بالضرورة..

مع اندفاعاتنا وتقدمنا، برزت أمامنا تحديات التقدم, ويمكن تأطيرها في ثلاثة مستويات:
تحديات على مستوى الذات الثائرة الفردية والجمعية، وتحديات الواقع، وتحديات الخارج.
وجد الثوار أنفسهم في مواجهة مشكلات وعوائق كثيرة تم تجاوزها والتغلب عليها ومعالجتها باهتمام وسعة أفق وإدراك، وحسٍّ عالٍ بالمسئولية.

أسقطت رهانات التشظي والتفخيخ من الداخل, سقط الرهان على إخماد الروح وكسر الإرادة, وانكسرت سطوة القوة, وخاب خيار العنف أمام الصدور المتسلحة بالإيمان والثقة والجسارة, ازداد الثوار صلابة وتماسكاً, وازداد النظام تداعياً وانهياراً. فشلت كل محاولات تعويق الثورة, وانكشفت جميع مخططات الإثم والجريمة, بقيت الساحات واقفة بشموخ تنجز مهماتها دون كلل أو ملل، تحقق أهدافها باندفاعاتها الباسلة وبتأنيها وكمونها المتحفز, والثورات الشعبية في أحايين وبحسب المحلل السياسي د. عمار حسن: «لا تحقق أهدافها بالضربة القاضية بل بالنقاط». والأمر مرهون بحسب رأيه «ببقاء الحالة الثورية ساخنة على الأرض»..

لقد استبد بالثوار قلق الانتظار، وهو أمر صحي يؤشر على عافية الروح المناضلة وحساسيتها تجاه الوهن وبواعث القعود.
عاش الثوار في حماس دائم للانطلاق, لا شيء يثقل عليهم سوى القعود والاستسلام لسأم الترقب والانحباس داخل الساحات.
لقد أدرك ثوار اليمن أن الثورة حركة دائمة نشطة، متحررة من قيود الزمان والمكان, انطلاق دائم نحو الفضاءات, قفْزٌ فوق الحواجز والأسوار, تمرُّد على كل إسار, اقتحامٌ دائم للمناطق المسيَّجة والمحظورة, توسيعٌ لنطاق الحضور والتأثير والفعالية.

الفعل الثوري عمل دائب, شعاره الانتشارُ، لا الانحشار, لا ينغلق أو يختنق, هو كسرٌ للقيود وتجاوز للحدود.
الساحات أفقٌ للاحتشاد والتشكل, ومنطلق للعواصف والرعود والغضب المنساح.

يدرك الثوار أن التغيير يتوقف حين نقف عند وسائل وأماكن لا تتغير، ويعلمون أن الساحات ميادين ثورة مفتوحة عصية على التسوير والتأطير, مندفعة صوب كل الجهات, محمية بذاتها, ليست للانتظار ولا للراحة والاسترخاء.

ليست للسكن والسكون والاستكانة, يستشعر الثوار معنى التورط في علاقة حميمية مُقْعِدة مع الأمكنة المسكونة بهم وبذكرياتهم العزيزة, حيث وجدوا أرواحهم وانعقدت بينهم روابط ووشائج متينة, وعلاقات حياة أساسها الحرية والشعور بالإباء الوطني المشترك.

إن الثورة بمنطوق حركة هذه الساحات لا تسكن حيزاً بعينه, إلا لتسكن قلب اليمن بكامله.
تثبت هذه المسيرات المقتحمة, التي تخرج كل يوم بشغف وجرأه واندفاع, أن الثورة ماضية، وأنها قادرة على الاقتراب، متى ما شاءت، من رجل البارود المختبئ خلف مخازن الذخيرة، ووراء ما تبقى من حراس المغارة.

هو الآن يموت.. يموت رعبا.. لهذا يقتل بجنون. كمن يحدق في هاويته. هو الآن يدرك أنه بيد الثوار، مجرما مقتادا.. هم أقرب إليه، غير أنهم يريدونه ميتا بالتقسيط..
الثوار هنا يحتشدون للدفاع عن وطن يبدأ من الساحات ولا ينتهي أبدا.