الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٣٤ مساءً

القاعدة ... الجن الذين زادونا رهقا

علي منصور
السبت ، ٠٧ سبتمبر ٢٠١٣ الساعة ١٢:٤٠ مساءً
يمكن لأي مراقب للأوضاع في اليمن أن يلحظ بسهولة هول ما وصل اليه الحال من انتشار سرطاني لخلايا القاعدة وتواجد لبؤر الارهاب التكفيري في أرجاء اليمن واحتضان لمعتنقي هذا الفكر وايوائهم من قبل القبائل في عدة مناطق، والاغتيالات شبه اليومية لعناصر الأمن والجيش، والهجمات المتكررة بطائرات بدون طيار في شرق البلاد ووسطها. ومن يتمعن في هذه الأحداث وتطوراتها المستمرة لابد له أن يتساءل كيف تدهور الحال في يمن الإيمان والحكمة الى هذا المستوى وبهذه السرعة؟ ما الذي جعل اليمن تقفز الى واجهة المعركة العالمية مع الارهاب حتى اصبحت امريكا تعتبر فرع القاعدة في جزيرة العرب اخطر الفروع؟ وماهي الاخطاء السياسية والأمنية التي ارتكبت والتي سمحت للأوضاع بالتدهور الى هذا الحد؟ وأخيراً، كيف يمكن الخروج من هذا المستنقع الذي لاشك أن بقاء البلد فيه بدون حسم سيؤدي الى مزيد من التدهور والى القضاء على ما تبقى من امل في مستقبل افضل؟
اما فيما يخص وصولنا الى هذا الحال فلا شك ان عدة عوامل قد تظافرت على ذلك. أولها الجهل المستشري بين القبائل خصوصاً في المناطق النائية، مما سمح للتكفيريين باللعب بعواطفهم الدينية وغسل ادمغتهم وتأليبهم على الدولة "الفاسدة" والغرب "النصراني" (وهي نفس عملية غسل الدماغ التي مارسها الحوثي في صعده) وبالتالي خلق تعاطف ديني وفكري مع التكفيريين ساهمت في إيجاده أيضاً لحاهم الطويلة وشواربهم المحفوفة والألقاب الموحية التي يخلعونها على انفسهم، من قبيل ابو جعفر اليمني وابو يحي الليبي وابو الليث السعودي...وأمير كذا وامارة كذا... كل هذا ساهم في غسل ادمغة القبائل ومناصرتهم وحمايتهم والاستعداد لتوفير البيئة الحاضنة لهم. ومما ساهم أيضاً في هذا التعاطف حالة الفشل التنموي الذريع للدولة وحكوماتها المتعاقبة التي تركت اجزاء شاسعة من البلاد بدون حضور قوي للدولة امنياً وتنموياً، وافتقار سكان تلك المناطق للخدمات والرعاية الاجتماعية، في الوقت الذي يستشري فيه الفساد في كافة مفاصل الدولة وتزداد مراكز القوى ومن جاورها من الأطراف والحواشي ثراءً وفحشاً، وكل هذا تحت أنظار أغلبية مسحوقة من السكان يعيشون على الكفاف بل وتحت الكفاف، مما جعلهم هدفاً للاستقطاب والتجييش ضد الدولة.

ودعونا هنا تعيد التأكيد على الدور الكبير الذي يلعبه الجهل في كسب تعاطف بسطاء الناس وتسهيل اصطيادهم وتجنيدهم لصالح الارهاب، الى درجة أنه لولا ادراك هؤلاء المتعاطفين لمخاطر المجاهرة بالانتماء الى للقاعدة لخرجوا علنا ملتفين حول رايتها التضليلية مثلما التف الكثيرين حول الحوثي وشعاراته الجوفاء. فالجهل سلاح ماض بيد الطغاة والطامعين في السلطة والارهابيين يستغلونه لغسل الأدمغة وحشد الأنصار لممارسة العنف وارتكاب الجرائم التي يسعون من خلالها لتحقيق مآربهم... تماماً مثلما يستغله الحكام الطغاة الذين يحرصون على تجهيل شعوبهم لتسهل قيادتها وتسييرها في الاتجاه المطلوب. وقد رأينا كيف يتم تعريض الجهلة لأقصى درجات غسل الدماغ الى حد تفجير انفسهم او كما شاهدنا ذلك الحوثي وهو يصرح ان "سيده حسين والرسول سواء".

اما العامل الثاني لوصولنا الى هذا الحال فيتمثل في التوافق والانسجام الفكري لبعض مراكز القوى والنفوذ مع هذه الجماعات التكفيرية وقيامها باستغلالها واستخدامها في معاركها وصراعاتها ومناوراتها السياسية مع بعضها البعض، وحتى مع الجيران ومع الغرب. فكانت استعانة هذا البعض بهؤلاء التكفيريين اشبه بما وصفته الآية القرآنية من أنه "كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا"*. ومع أن قناعتي أن مراكز القوى التي استعانت بالقاعديين ليسوا من الانس، إلا أن "جن الجن" في هذا الركن من العالم وفي هذه الفترة من الزمان هم القاعديين التكفيريين الارهابيين، الذين ظنت بعض مراكز القوى ان بمقدورها الاستعانة بهم فلم تكن النتيجة إلا "رهقاً" امنياً نكب البلاد والعباد، يضاف الى ما بنا من رهق اقتصادي وتنموي وأخلاقي وفسادي و .

ولعل بداية الظرف الموضوعي الذي مهد "للرهق" الأمني كان حرب الانفصال التي تحالف فيها النظام مع التكفيريين، ليقوم بعدها بدفع الثمن من خلال التنازلات السياسية الكارثية التي الحقت ابلغ الضرر بالأمن القومي وفتحت الباب على مصراعيه لاختلالات لن تكفي عقود كثيرة لمعالجتها. ويأتي على رأس هذه التنازلات السماح بافتتاح جامعة الإيمان التي لا يخالجني شك في قربها الشديد بل وربما تماهيها مع الفكر التكفيري، خصوصاً ونحن نعلم اليوم ان كثير من المتطرفين وقياداتهم كانوا من تلامذة هذه الجامعة التي لا أعلم ان كانت مناهجها قد خضعت للمصادقة عليها من أي جهة مرجعية، ولا يعلم إلا الله ماذا يدرس فيها، ولازال حبل هذه الجامعة على الجرار. والى اليوم ماتزال هذه التحالفات المشبوهة لمراكز القوى المؤثرة مع هؤلاء التكفيريين مستمرة كنتيجة لحالة الصراع المستمر بين رئيس الواجهة علي صالح ورئيس الظل علي محسن. فالاثنان كانا من اوائل من استخدم ورقة الافغان العرب ومازالا مستمران في هذه اللعبة الى اليوم.

واما العامل الثالث في إيصال البلد امنياً الى ماهي عليه اليوم فيتمثل في الدور التآمري السعودي. ذلك اني اكاد اجزم أن المملكة لعبت منذ مدة ليست بقصيرة دوراً تأمرياً ضد اليمن استهدف نقل معركتها مع من تسميهم "الفئة الضالة" الى اليمن. ولعل بداية التخطيط لهذا الهدف كانت من افتعال عملية طرد الشيخ عبد المجيد الزنداني من المملكة وخروجه الى اليمن ليكون نواة استقطاب للأفغان العرب العائدين من افغانستان، الذين كانت مخاوف دول المنطقة منهم قد بدأت، ولم يكن أحد يدري كيف يتصرف معهم. والذين كان لجوء بعضهم الى اليمن مدعوماً بإرادة سياسية من مراكز القوى التي رأت فيهم ورقة يمكن استغلالها لمكاسب سياسية. ثم اكتمل التخطيط السعودي من خلال برنامج "المناصحة" الذي نفذته الداخلية السعودية "لاستتابة" المتطرفين أو "اصلاح" المتشددين الذين يقبض عليهم أو يسلمون أنفسهم طوعاً.

إذ يبدوا أن خريجي هذا البرنامج كانوا ثلاثة أنواع: فمنهم من "تم إصلاحه" واعيد دمجه في المجتمع، ومنهم من ظل على قناعاته وتم تخييره بين السجن أو المغادرة الى اليمن، ومنهم من أنقلب 180 درجة وتم تجنيده استخباراتياً وإرساله الى اليمن للتجسس على الارهابيين وتسهيل اصطيادهم. ومن خلال هذه الأعداد بالإضافة الى الأفغان اليمنيين تكونت القاعدة في جزيرة العرب. النجاح السعودي تطلب ايضاً حبكات استخباراتية سعودية غربية شارك فيها العملاء السعوديين المغروسين ضمن القاعدة، وتم من خلالها تحويل الانظار الى اليمن والخطر القادم منها. ولعل بداية هذه العمليات كانت استهداف الأمير محمد بن نايف في اغسطس عام 2009 من قبل متطرف اسمه عبد الله عسيري "دخل السعودية من اليمن"، ثم جاءت بعد ذلك قنبلة سروال عبد المطلب في ديسمبر من نفس العام، وأخيراً المتفجرات المرسلة في حبر طابعة الى شيكاغو في اكتوبر 2010... ولا ننسى هنا التذكير بأن عميل مزروع للمخابرات السعودية في اوساط القاعدة في اليمن هو الذي حصل على رقم الطرد المتجه الى شيكاغو (ولعله هو الذي أرسل الطرد) لتقوم الاستخبارات السعودية بتزويد الاستخبارات الغربية برقمه ثم يعود الابن الضال "ويستسلم" للسلطات السعودية... فلا شك لدي أن السرعة التي انتقلت بها المعلومة عن رقم الطرد من المرسل الى الاستخبارات السعودية ثم الغربية تدل على أن المرسل لم يكن إلا عميل مزروع لغرض إرسال الطرد وتضخيم الخطر القاعدي في اليمن. وبالفعل كانت هذه العملية هي القشة الاخيرة في الحبكة السعودية، ولا زلنا الى اليوم تحت الحظر بالنسبة لإرسال الطرود الى الغرب.

هذا الإنجاز السعودي العظيم ساعد على تحقيقه تواطؤ دولي مدفوع بالحرص على تجنيب الإقتصاد العالمي ما سيحل به لو لم يجد القاعديين الخارجين من العراق مستقراً حاضناً لهم بعيداً عن الأراضي السعودية ... ولنا أن نتخيل كيف كانت ستصبح أسعار النفط لو أن هذا النشاط الإرهابي القاعدي المحموم الذي شهدته اليمن خلال السنوات الخمس الماضية كان على الأراضي السعودية ... وما الذي كان سيحدث لإقتصاد العالم المترنح منذ سنوات لو أن السعودية شهدت ولو شيئ يسير مما جرى ويجري اليوم في اليمن من ضربات جوية اسبوعية ويومية بالطائرات بدون طيار. ولاشك أن نقل المعركة مع الإرهاب الى اليمن بعد أن انحسارها من العراق كان الحل الأمثل والمناسب لكل الأطراف، إلا اليمن.

ولاشك أن هذا التواطؤ الدولي مع المخطط السعودي لم يأت من فراغ. فالسعودية ثاني اثنين من الدول المدللة في العالم (الدولة الاخرى اسرائيل)، واللتين بمقدورهما الإفلات من أي عقوبات دولية، بدليل انها افلتت من كل تبعات تفجيرات 11 سبتمبر. فلو أن 15 من ال 19 ارهابي الذين نفذوا "غزوة نيويورك" كانوا من دولة اخرى غير السعودية لنالها الويل والثبور وعظائم الامور... وانظروا الى ما جرى لنا في اليمن وكل جريرتنا في هذا الإرهاب لم تتعدى "قنبلة في سروال" مواطن نيجيري (مش حتى يمني) وطرد بريدي بليد يثير الريبة بمحتواه وعنوان المرسل. والأمر والأدهى هو انه في الحالتين لم تنفجر أي من القنبلتين ولم يتضرر أحد. ومع ذلك لازلنا الى اليوم محاصرين في ارسال الطرود البريدية الى اوروبا والغرب.

لكن من المهم أن ندرك وأن يدرك اخواننا في المملكة أن هذا النجاح ليس إلا نجاحاً مرحلياً تكتيكياً وليس نجاحاً إستراتيجياً، بمعنى أنه لن يقضي على المشكلة ويخلص المملكة منها الى الأبد... ذلك أن المخزون البشري السعودي من المتطرفين الذين لديهم الإستعداد لمغادرة منصات المتفرجين والإنضمام الى القاعديين مازال مخزوناً ضخماً ومستمراً في النمو والتكاثر لأن المنظومة المجتمعية التعليمية والسياسية السعودية التي أنتجته بادئ ذي بدء مازالت في كامل عنفوانها ونشاطها... وكل ما ادخل عليها من إصلاحات لايعدوا الجراحات التجميلية التي لم تصل الى جذور الوباء وأساسه. بمعنى أن هذا النجاح في اليمن لا مناص من أن يصبح مع الوقت نجاحاً مرحلياً ويرتد على السعودية بهجمة أكبر وأشرس إذا استمر اليمن بدون حكومة قوية واستقرار وتمكنت القاعدة من مواصلة الإنتشار بين القبائل اليمنية واستمرت في النمو واستقطاب المزيد من الأنصار. فهذا بالضرورة سيؤدي بالقاعديين الى التوسع بنشاطهم الى خارج اليمن وحينها ستكون الأراضي السعودية المحطة الأقرب لهذا الانتشار. والتاريخ القريب يعلمنا من افغانستان أن هذا ما حدث. فالذين يبصقون بالإرهابيين في سماء الآخرين سرعان ما يجدون وجوههم مبتلة... فأمريكا ومعها مصر السادات والسعودية بصقت بالإرهابيين في سماء الروس في افغانستان فابتل وجههم جميعاً عندما اغتيل السادات ثم تعرضت امريكا لهجمات الحادي عشر من سبتمبر وتعرضت السعودية لهجمة الخُبر... وإذا كانت المملكة قد نجحت في بصق ارهابييها في سماء اليمن فسرعان ما ستجد وجهها مبلولاً... ولو بعد حين.

نأتي الى كيفية الخروج من هذا المستنقع. إن اول ما نحتاج اليه هو تصحيح العلاقة مع المملكة. فما لم تبنى هذه العلاقة على أساس من الاحترام المتبادل وامتناع المملكة عن التدخل في شؤن اليمن فإن البلدان خاسران. استمرار المملكة في سياسة إضعاف الدولة اليمنية وشراء الولاءات القبلية وعرقلة بناء الدولة سيكون وبالاً على السعودية ايضاً. وليس ادل على ذلك مما حدث ويحدث في صعده. فلو كانت هناك دولة يمنية قوية لما وجدت الحركة الحوثية. ولو كانت سياسة شراء ولاءات المشايخ مجدية لكان المشايخ المدرجون في كشف اللجنة الخاصة قد اوقفوا المد الحوثي. وما تضخم الحركة الحوثية إلا مثال حي لفشل سياسة شراء الولاءات التي تتبعها السعودية في اليمن منذ عقود عدة. ولهذا لابد للمملكة أن تعيد النظر في هذه السياسة وأن تدرك تماماً أن استمرار ضعف الدولة اليمنية يعني استمرار نمو النشاط الارهابي في اليمن والذي لابد أن يصل الى المملكة عاجلاً أو آجلاً... والمثل يقول "من قارب الكير يحرق وإلا أمتلأ من غباره". فلابد، على الأقل، أن يصلهم الغبار.

الأمر الثاني هو أنه لابد من قيام الدولة ببسط نفوذها والتواجد بكامل اجهزتها الأساسية على مستوى المديريات في كامل الأراضي اليمنية. والجهاز الأمني لابد أن ينتشر وتتواجد عناصره وعيونه في ارجاء اليمن، ليتمكن من مراقبة التكفيريين وتمكين الدولة من إدارة المعركة معهم بصورة سليمة. وهذا التواجد سيتطلب تمويلات كبيرة، وهو ما يتطلب الحصول على دعم الدول الشريكة في مكافحة الارهاب لهذا الغرض.

وثالثاً، يجب فرض رقابة مشددة على المؤسسات التعليمية لضمان سلامة مناهجها الدراسية وخلوها من الفكر التكفيري. إن اخطر ما يمكن أن يهدد امننا القومي هو المناهج الدراسية التي تغرس قيم ومفاهيم مغلوطة لا تؤدي إلا الى تفتيت المجتمع الى فرق وجماعات تكفر بعضها البعض. المناهج المدرسية يجب أن تغربل وكذلك مناهج جامعة الإيمان يجب أن تخضع لمراجعة شاملة من قبل لجنة من رجال الدين يتم تشكيلها كلجنة دائمة مهمتها القيام بهذه المراجعات والإشراف على التنفيذ.

ورابعاً، يجب تنفيذ برامج إعلامية توعوية تستهدف الشباب اليمني في الحضر والريف ويتم من خلالها توضيح مغالطات الفكر التكفيري ومخاطر احتضان هذه الجماعات الارهابية.
وأخيراً لابد من حكومة فاعلة تكون قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل للشباب، فالبطالة المتفشية بين الشباب هي عامل مهم من عوامل نجاح الاستقطاب التكفيري للشباب.

* تقول كتب التفسير "أن أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة , ثم فشا ذلك في العرب , فلما جاء الإسلام عاذوا بالله " (ولو اني ارى ان العرب مازالت تعوذ بجن "الغرب")...