السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٥٨ صباحاً

ثورة البن

نجيب محمد سعيد
الأحد ، ١٣ يناير ٢٠١٣ الساعة ١٢:٤٠ مساءً
طاب الجنا يا حقول البن يا أحلى المغاني "
يا سندس أخضر مطرز بالعقيق اليماني
يا سحر ماله حدود في الكون قاصي وداني
ما أحلى العقود القواني آه في الغصون الدواني
بن اليمن يا درر يا كنز فوق الشجر
من يزرعك ما افتقر
ولا أبتلى بالهوان"

رحم الله العملاقين اليمنيين .. الأديب والشاعر مطهر الإرياني ،صاحب هذه الكلمات ، والفنان الكبير ،صاحب الصوت الرخيم علي الآنسي ،الذي أبدع في اللحن والغناء لقصيدة الشاعر الإرياني الشهيرة " الحب والبن " ، وهي الأغنية التي ما ان تسمعها حتى تدنّدن معها بتلقائية ، وترتسم أمامك آلاف الصور عن الطبيعة اليمنية ، حتى يخيل لك أنك في واحة من الخضرة تجري المياه من جوانبها ، وتخترق خيوط أشعة الشمس من بين أغصان وأوراق أشجارها ، وترقص البلابل صادحة بأروع وأعذب الأصوات ، وتشتم رائحة البن الأصيل المتدلي من الأغصان الدواني لأشجار البن .. البن الذي شبه حبيباته الشاعر الكبير مطهر الإرياني بالدرر والكنز الذي يعتلي الشجر. نعم كم كان صادقاً شاعرنا الإرياني في تعبيره ووصفه للبن بالعقيق اليماني والكنز الذي لا يفتقر من يزرعه أو يبتلي بالهوان ، وما أحوجنا اليوم ، وكل يوم أن نتغنى بقصيدة الحب والبن ،وأن نصدح كل صباح :
" بن اليمن يا درر يا كنز فوق الشجر
من يزرعك ما افتقر
ولا أبتلى بالهوان"

ألا تكفينا هذه الكلمات وغيرها من الأشعار والأهازيج والأقوال والحكم والقصص والحقائق التاريخية والشواهد بأن تكون وجهتنا حاضراً ومستقبلاً نحو البن " الكنز " الذي أهملناه وأستبدلناه ب " القات " ، القات الذي قتل فينا الهمة وأخذ منا الصحة والمال والماء والأرض الزراعية ، وكل شي جميل . بالأمس قرأت خبراً حول تدشين مجموعة من الشباب اليمني حملة لقطع أشجارالقات ،وإستبدالها بزراعة شجرة البن ، بدأت في منطقة حراز على أن تنتشر في مختلف أنحاء البلاد خلال الأشهر المقبلة ، وقلت في نفسي ، ماذا لو صدقت النوايا ، وصحت عقول اليمنيين من غفوتها ، ونفضت غبار اللامبالاة عن كاهلها ، وأنتفضت في ثورة تعيد فيه مجد زراعة البن ، كما كانت عليه في السابق ،قبل أن تلتهم أشجار القات المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية والمدرجات ،على حساب زراعة البن ، وتذكّرت حينها ما أفضى به خبير البن المكسيكي الذي زار اليمن قبل سنوات قليلة حين قال : " فراعنة مصر تميزوا ببناء الأهرامات وفراعنة اليمن تميزوا ببناء مدرجات البن والفرق بينهما أن أبناء فراعنة مصر لم يستفيدوا من أجدادهم بعد موتهم أما أبناء فراعنة اليمن فإنهم يستفيدون من مدرجات البن حتى الآن" ، لكني أمعنت في التفكير في هذا الأمر ، ووجدته يحتاج إلى عمل وجهد إستثنائي ودؤوب ،بل معجزة لتحقيقه ،سيما وأن نحو 80 في المائة من الرجال في اليمن يمضغون القات، بينما تصل هذه النسبة إلى 60 في المائة بين النساء. كما وتحتل زراعة القات 40 في المائة من الأراضي الزراعية في البلاد ،وزراعته مرتبطة بالوضع السياسي ،وسبع عدد اليمنيين يعملون في إنتاج وتوزيع القات الذي يعد أكبر مصدر دخل بالريف وثاني أكبر مجال للعمل بعد الزراعة والرعي وقبل القطاع العام. كما أن هناك بالمقابل مشاكل ومعوقات يعاني منها مزارعي البن في اليمن بشكل عام هي مشاكل اقتصادية تتمثل في ندرة مياه الأمطار وعدم وجود منشآت للري التكميلي لتساعد المزارعين ، أيضاً انخفاض أسعار البن ومنافسة شجرة القات وعدم توفر جمعيات أو منظمات توعويه ترشد المزارعين عن كيفية الحفاظ على شجرة البن وزيادة المحصول السنوي ،والانجراف بسبب السيول وعدم القدرة على استصلاح المدرجات لعدم القدرة على تحمل التكاليف ، والممارسات الزراعية الخاطئة بعد الحصاد التي تؤدي إلى فاقد بنسبة 20% نتيجة عدم القيام بعملية "الفرز" في الوقت المناسب. والتوسع في زراعة القات على حساب البن لأنة ذو مردود مالي جيد ومقاوم للجفاف لفترات أطول من البن ، وتلك حقائق وواقع لايمكن القفز عليه ، بيد أنه فيما إذا وضعت الحكومة بجدية ،إستراتيجية وخطط واقعية علمية ومدروسة على المدى القريب والبعيد ، ووفق أهداف ورؤية واضحة لدعم إنتاج البن والتوسع في زراعته والترويج له عالمياً ، كمورد أساس ورئيس من موارد الاقتصاد اليمني ،ووضع معايير لجودة البن اليمني وتصنيفه بحسب كل منطقة في الجمهورية وتحديد مقاساته ومواصفاته ،وتصنيفه عالميا وتصديره كمنتج عضوي ، وهو ما يحتاج إلى خطوات تنفيذية سريعة من قبل وزارة الزراعة حتى يمكن الحصول على قيمة مضافة يستفيد منها المزارع والاقتصاد الوطني. كما يجب مواجهة قضية إغراق الأسواق اليمنية بالبن المستورد، لما لذلك من تأثيرعلى المنتج المحلي، فالبن اليمني يواجه بمنافسة شديدة من جميع الأنواع الأجنبية، الأمر الذي يثبط عزيمة المزارع ويقلل من تمسكه بزراعة البن ، كما على الحكومة تبني إستراتيجية تنظر للبن كمحصول إستراتيجي يدر العملة الصعبة ، ينبغي العناية به واستغلال كافة الأراضي المناسبة لزراعته ،وعلى أن تتولى شراء المحصول بسعر مشجع وتسوقه، ووضع دراسات لحل مشاكل المياة في مناطق زراعته وتوعية المزارعين بأهمية التوسع في زراعته وانشاء حلقة وصل بين المزارع ووزارة الزراعة والري و مراكز الدراسات والبحوث بالاضافة الى المشاركة في المعارض والمؤتمرات الدولية الخاصة بزراعة وإنتاج وصناعة وتصدير البن في العالم والتواصل مع المنظمات العالمية و المانحة للتنسيق لأي دعم والعمل على توفير امكانات تاسيس معامل التعليب والحفظ وتقديم الخدمات والإمكانيات اللازمة لمزراعي البن ومنحهم قروض ميسرة .. وأهداف اخرى ، حينها يمكن أن تتحقق الأمنيات ، ويلمس زارع ومنتج البن وحارسه وقاطفه وموزعه ومصدره ومتذوقه أن البن اليمني الذي يعتلي الصدارة في جودته ،يبعث مرة أخرى ويحوز الثقة بإقتدار، كما قال الشاعر الإرياني في رائعته (ياسحر ماله مثيل في الكون قاصي وداني ) وهو بالفعل (أي البن اليمني ) أجود منتج لايقارن أويستطيع أن ينافسه أي منتج في العالم . كما أن اليمن الدولة الوحيدة التي تنتج البن بطريقة طبيعية خالصة وهو ما أسهم في تعزيز جودته على النطاق المحلي والعالمي مقارنه بأنواع البن الأخري .. إن البن اليمني يمثل جزء من التراث التقليدي والهوية الأجتماعية المعبرعن الذائقة الرفيعة للمجتمع اليمني، وسنظل ننظر للبن باعتباره الشجرة الوطنية التي تحتفظ برمزية ثقافية وتاريخية بما استطاعت أن تختزله من هوية يمنية أصيلة حيث ما حطت في العالم ثمرةً ذاتَ مذاقٍ أثيرٍ لا يضاهيه مذاقُ أيُّ نوعٍ آخر من البن". وأن على الحكومة أن تضع من أولوياتها في هذه المرحلة ، توسيع رقعة زراعة البن في الأماكن التي تشكل بيئة مثالية لزراعته في اليمن،وتأكيد أن زراعة البن يجب أن يظل خياراً جاذباً لدى المزارعين ، وعلى الفعاليات المؤثرة كافة وفي طليعتها المؤسسات الإعلاميةالإسهام الفعال في تأكيد المزايا الهامة لزراعة البن ليس باعتباره محصولاً نقدياً ذا عائد مجزٍ فقط ولكن باعتباره رمزاً وطنياً أصيلاً يعبر عن خصوبة هذه الأرض وخيرها العظيم.