السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٣٧ مساءً

عطش الأمومة ( 1 )

عباس القاضي
الجمعة ، ١٢ اكتوبر ٢٠١٢ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
بدأت تعي ما حولها ، والأيادي تتلقفها ، أب وأم ، وخمسة أخوة ، ولم لا ؟ وهي في بيت لا بنات فيها سواها ،، كانت بحق زهرة البيت ،،، فساتينها من أرقى الماركات ، وقد كان أخوها الأكبر يجلب مجلات الأسرة لا ليقرءوها ، ولكن ليتابعوا الموضة في تسريحة شعرها ، فقد وهبها الله جمالا أخاذا وشعرا كأنها قدمت من وراء البحار ،، كما كان أبوها يسميها بالهندية.

ولأنهم يخافون عليها فقد جعلوا بينها وبين الشارع سدا منيعا ، يجلبون لها أحيانا أطفالا من أقاربهم ، يلعبون معها لساعات محدودة في الأسبوع ، ولهذا تعلمت " جنى " حروفها الأولى من الكبار واكتسبت تفكيرهم وحتى تصرفاتهم ، فكبرت قبل أوانها ، لم تهرق كوبا على فراش ولم تكسر آنية كما يفعل الأطفال ، تمشي بحساب وتتكلم بمنطق ، فزادت الأسرة تعلقا بها ، لم تكن جنى بدعا من الأسرة المتفوقة أفرادها ، عندما دخلت المدرسة بل فاقتهم للاهتمام بها.

تنتقل من فصل إلى فصل ومن مرحلة إلى مرحلة وهي الأولى ، وفي البيت الأميرة المتوجة دون منازع ، لم يخطف منها الأضواء شاكر الذي جاء بعدها ،، حتى جاءت من بعده فدوى ، فبدأ الاهتمام ينتقل للضيفة الجديدة ، إلا أن رجاحة عقل جنى ونضوجها المبكر جعلها أمام المسئولية وجها لوجه ،، خاصة لما تمتلكه من حظوة عند أبيها الأمر الذي جعلها تحدد الميزانية الشهرية للبيت دون ممانعة كما كان يفعل مع أمها ، الأمر الذي حسن الوجبات الغذائية مما أسعد أخوتها .

لم تشعر بمرحلة المراهقة كبنات جنسها وذلك لانشغالها بالدراسة ومسئولية البيت ، ولم تتعود زميلاتها لزيارتها فشهرة البيت بأنها ذكورية حَدَّت من هذه الزيارات .

وعلى عتبات الجامعة جاء الكثير ليطلب يدها ، إذ كانت محط إعجاب الكثيرين أفرادا وأسر ، لكن الأب ومن وراءه أخوتها يرددون نفس العبارة : " ليس لدينا بنات للزواج " وفي كل مرة يقترب الأب من ابنته ليهمس في أذنها : أريدك يا ابنتي تحصلين على الدكتوراه ،، لن أريدك أقل مني أو من أخوتك ، الزواج يا ابنتي مسئولية ، وتعب قلب ، وقتل للطموح ،،، حتى عارف زميلها في الجامعة الذي خفق له قلبها ، صده أبوه وأخوتها ،، فقد كان عارف هو الطيف الوحيد الذي لامس قلبها ، فلما ذهب أغلقته بإحكام لتركز على ما هو متاح في حياتها ، وهي الدراسة .

الأولى على الدفعة بالجامعة ، قال لها أبوها وهي تلج من بوابة الجامعة ، وأردف : معيدة يا ابنتي ،، البوابة الأساسية للدراسات العليا ،، قالها بشموخ .ابتسمت لفرح أبيها ، أما هي فقد كان يوما حزينا ، فهذا اليوم هو عرس عارف من زميلتها سعاد ،، وقد حضروا للجامعة للتأكد من النتيجة ودعوة الزملاء ، هاهي سعاد تقترب وأبوها بجانبها ،، أخذ الدعوة وبعد أن ذهبت قطعها ووضع قصاصتها في جيبه ،، وهو يقول : ترهات يا ابنتي ، هؤلاء فاشلون أسماؤهم في ذيل القائمة ،، أمسك بمعصمها قافلا إلى البيت .

مرت سنة وهي معيدة ، نزلت منحتها للماجستير في جامعة محلية ، أنجزتها بثلاث سنوات .

عادت إلى جامعتها حتى يتم ترتيب بعثتها للدكتوراه .
يوم يفصلها عن السفر ، بدأت دقات قلبها يتزايد ،، الأسرة والحارة والزميلات في كفة وأختها فدوى في كفة ،
فـ فدوى كانت تنظر لـ جنى ليست أختا فحسب بل بمثابة أمها لرجاحة عقلها وار تباع جسمها، فهي لا تفارق حضنها .

جاء الليل ،، دموع أمها المنسكبة لا تنقطع وأختها فدوى كأنما أصابها المس ، وأبوها الذي ارتفع لديه الضغط والسكر إلى أرقام قياسية ، حتى أخوتها يتساءلون : أمنا الثانية ستغادرنا إلى بلد لا قريب فيها ،، غير حامد الذي هو أكثر هدوءا فهو سيرافقها ليرتب لها مقامها ودراستها .

أوت جنى و فدوى إلى الفراش ،، وكانت فدوى نحيلة الجسم تلتصق بجسم أختها ، كأنها طفلتها ،، ضمتها ضمة كادت أن تكسر أضلاعها ، وبصوت عال أرتج لها البيت لتصيح بصوت جنائزي : أين ستذهبين يا أمي ،، أي حضن يؤويني ؟ وأي صدر يدفيني ؟ حتى اجتمع كل أفراد الأسرة عند باب الغرفة ،، يهدئون من روعها والباب موصد من الداخل ،، عودوا إلى غرفكم ،، تقول جنى بصوت باك متحشرج ،،وأردفت : دعوها تنفس عما في صدرها فالبكاء علاجها ،، أنا معاك حبيبتي ، لا تنكدي علي في آخر ليلة معك تقولها والدموع تغسل وجهها ، غرست فدوى وجهها في صدر أختها ، وذهبت في غيبوبة حتى ظنت جنى أن فدوى قد فارقت الحياة .