لست وحدي من سيقرأ الفاتحة، هذه الأيام، على أرواح شهداء الثورة والوحدة، أولئك الذين قضوا في سبيل الواجب، وهم يحلمون بأنهم يحققون حلم اليمن الواحد، ويقطعون دابر التخلف، وينشرون مبادئ العدل والحرية والمساواة. نعم لست وحدي من سيقوم بهذا الواجب، وإنما الشعب كله سيقرأ الفاتحة على أرواحهم، ليس ذلك فحسب، بل ويقرؤها على ذلك الزمن الذي كان الناس فيه يُحبُّون أوطانهم ولا يتردَّدون في أن يحملوها - لو استطاعوا - في حدقات أعينهم أو يتردَّدون لحظةً واحدةً في التضحية بأرواحهم دفاعاً عن هذه الأوطان وانتصاراً لحُرِّيَّتها وكرامتها.
لقد رَحَلَ ذلك الزمن الجميل، وَرَحَلَ معه المُتيَّمون بأوطانهم إلى حدِّ العشق، أُولئك الذين قضوا في ميادين الشهادة والشرف، يدفعهم إلى ذلك فيض الحُبّ والولاء الذي يستولي على المشاعر ويملأ القُلوب ويجعل كُلّ شيءٍ غير الوطن ثانوياً وعابراً ولا يستحقّ أدنى اهتمام، وهذا الشغف بالوطن والإيمان بتحريره وتطهيره وحمايته وصيانة كُلّ ذرَّةٍ في تُرابه، هُو الذي جعل الأعداء يُفكِّرون ألف مرَّةٍ ومرَّة قبل أن يُفكِّروا - مُجرَّد التفكير - في إيذائه أو التآمر عليه.
لقد رَحَلَ أُولئك المُتيَّمون الذين كانوا دائماً على استعدادٍ لكي يغسلوا بدمائهم الزكيَّة الكريمة كُلّ بقعةٍ تتلوَّث من أرض الوطن إذا ما عَبَرَ عليها مُحتلٌّ أو غازٍ أو مُستبدّ. حقَّاً، لقد رَحَلَ ذلك النوع من الْبَشَر الحريص على أن يظلَّ الوطن حُرَّاً نقيَّاً شريفاً، أُولئك الذين يشبهون في حُبِّهم لأوطانهم المُتصوِّفة والصُّلحاء والأولياء الذين يُقبِّلون الأرض في صلاتهم وينحنون تقديراً واحتراماً لما تفيض به ولو بالقليل من خيراتها.
وبعد غياب هؤلاء ظهرت أشكالٌ من الآدميين لا يشغلهم الوطن وهُمومه والعمل على الارتقاء به والارتفاع بمُستواه بقدر ما تشغلهم مصالحهم وما يفوزون به في هذا الوطن أو ذاك من مغانم، لقد صارت هذه المغانم هي وطنهم، من أجلها يصرخون ويقتتلون، وفي سبيلها يموتون.
والأخطر أن تنتقل عدوى هذا النوع من الْبَشَر إلى الأجيال الجديدة، إلى الشباب الذين تضاءلت أحلامهم الوطنية وتضاءل معها حُبّ الوطن وأصبحوا يهيمون في حُبِّ أشياءٍ لن تصل بهم إلى شاطئ الأمان، حتَّى وإن تحقَّق لهم منها الكثير، لأنَّها غير مُؤطَّرةٍ رُوحياً، ولا علاقة تربطها بحُبِّ المكان الذي نشأوا عليه وتغذَّوا بخيراته وتنسَّموا هواءه، شعار هؤلاء الجشعين (وطني مالي .. ومالي وطني!!)
ومن تحصيل الحاصل القول بأنَّ الذي لا يُحبّ وطنه المكان/الأُلفة والتاريخ، لا يُحبّ مُواطنيه ولا يحرص على أمنهم واستقرارهم مهما ادَّعى ذلك أو كذب، فهُو لا يعمل سوى لتحقيق مآربه الشخصية، وأقرأُ مُنذُ أيَّام، بل مُنذُ شُهور، سلسلةً من الكتابات الغريبة تصدر عن هذا الطرف أو ذاك، يتسابق إلى كتابتها، دُون شُعورٍ أو خجل، بعض حَمَلَة الأقلام، ممَّن يخوضون في المُحرَّمات الوطنية ويعبثون بالمُقدَّسات والثوابت، فأكادُ لا أُصدِّق ما أقرأ.
إنَّ أبناء الوطن الواحد، وأحياناً أبناء البيت الواحد، يختلفون في قضايا السياسة والاقتصاد، كما يختلفون في القضايا الاجتماعية وفي اختيار الأساليب التي تُقاوم الفقر الذي ينهش ملايين المُواطنين، والفساد الذي يُؤرِّق الأجفان، كما يختلفون في السياسات العامَّة تجاه بعض القضايا، ويختلفون - كذلك - في كبار الأُمور وصغارها، لكنَّ ذلك الاختلاف لا يصل إلى درجة الاستهانة بالوطن، ولا إلى التحريض على أن يتقاتل أبناؤه ويتناحروا، فيتضاعف الإرباك ويزداد الفقر ويعمّ الفساد، ويجد كُلّ مُواطنٍ نفسه غريباً في وطنه وغير مرغوبٍ فيه بين مَنْ كان يعتبرهم أهله ومُواطنيه، يتمّ ذلك في غياب أدنى حدٍّ من الولاء الوطني، ووفق حساباتٍ شديدة الخطأ ومُنافيةٍ لكُلّ الْقِيَم الوطنية والأخلاقية ولكُلّ النظريات السياسية حتَّى الفوضوية منها.
الدُّكتور «جمال الدِّين أحمد السالمي» في كتابه عن دور القيادات السياسية اليمنية في تحقيق الوحدة
{ يتناول الكتاب دور القيادات السياسية في إعادة الوحدة اليمنية، ابتداءً من عام 2691م إلى عام 0991م، وإذا كانت الكُتب التي تناولت الوحدة من الكثرة بمكان، فإنَّ هذا الكتاب - من وجهة نظري - يُعدٌُّ من أفضلها وأكثرها دقَّةً وموضوعية، لا لأنَّه دراسةٌ علميةٌ نال عليها الدُّكتور «جمال الدِّين السالمي» درجة الماجستير فحسب، وإنَّما لأنَّه يرجع فيه إلى مئات المصادر والمراجع، وإخضاعها للتحليل والنقاش العلمي المنهجي البعيد عن الانتقائية والانحياز ... يقع الكتاب في (054) صفحةً من القطع الكبير.
تأمُّلاتٌ شِعْرِيَّة:
أيُّها الشُّهداء
اخرجوا من أعاليَ جنَّاتكم
كي تروا بعض ما أسقطته
ثُقوب الزمان الكئيب
على عصرنا من سوادٍ كثيفْ.
ما يزال على الأرض من دمكم
ما يصدّ العدوّ،
وما يكشف الخائنين ويمنع أحقادهم
أن تُلوِّث هذا الفضاء
النظيفْ
* عن صحيفة الثورة