السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٠٠ مساءً

القبيلة مشروع مدني

د. أحمد عبيد بن دغر
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
من الإرهاق ما يسخطنا على الذات وعلى الدرب، ومن الغضب ما يعمي عن الرؤية، ومن التعب ما يوهن اليقين ويوهي العزم، ويسقط القضايا من أيدينا في عرض الطريق ويذهب بنا بعيداً بحثاً عن النجدة.

في رسالة غاضبة لزميل عزيز يقترح فيها حلا فاجعاً للخروج من أزماتنا كلها كتبها تحت ضغط اختلالات إدارية في مؤسسة يعمل فيها، هو ما دعاه في لحظة حنق عاصفة لإعلان التمرد على كل الخيارات المدنية،الزميل يرى ألا حل سوى في العودة إلى منطق القوة وخيارات ما قبل الدولة،لا خلاص إلا في العودة إلى القبيلة،والبحث عن قبائل قوية،قادرة على فرض ما تريد متكئاً على مثل رآه قريباً وهو أبعد ما يكون عن موقفه المفاجئ هذا ،الزميل اعتمد على ما كان من رسولنا الكريم محمد –صلى الله عليه وسلم -من تجييش القبيلة حول مشروعه الكبير ، المثال هنا لا يسند طرحه فالرسول لم يذهب باتجاه القبائل لقبيلة مشروعه، بل ذهب لصهر القبيلة في مشروعه العالمي ، هنا القضية أن تحمل مشروعاً قوياً تذوب فيه جميع القوى،وتؤول إلى قوة واحدة، ذهب الرسول قائداً لا مقوداً ،والفرق مهم للغاية ، نحن اليوم عندما نفكر في القبيلة هل نفكر فيها كملاذ لشريد؟ سند لضعيف؟ ناصر لمهزوم ؟جوار لمخلوع ؟ هذا النسق من التفكير لا يرتب لغير علاقة استتباعية يفقد معها المشروع ريادته ويصير مجرد أداة.

ينسى العزيز وهو "عارف" أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- بدأ مع أفراد قلائل -مدنيين بعبارة أقرب- من أهل مكة، بسطاء مهمشين، وعراة من الجاه والسلطان والمال، ومن كل أسباب القوة والمنعة، هؤلاء هم الآباء المؤسسون كانوا جسر العبور الأول، الأساس الصلب، الذي شاد عليه الله رسالته،كسر بهم رسولنا هذا النسق من التفكير المؤسس على تصورات راسخة متوارثة لمفاهيم القوة والمنعة، وإمكانات السطوة والحضور .

قلب رسولنا المعادلة وقفز بمعان جديدة،غيرت موازين القوة تماماً، برز الإيمان والصبر والصمود، برزت الثقة والتضحية،برز الحب: حب الله وحب الرسول واتباع دينه، برز كل ذلك معادلاً لقريش كقوة قاهرة ،معادلاً لجبروتها وعصبيتها، برز الإنسان المؤمن كقوة جديدة، صاعدة، مؤسسة على منظومة جديدة من التصورات، والمبادئ، والمثل، لم يعد "بلال" ذلك العبد الضعيف،لم يعد "خباب" ذلك المستلب الخاضع،

لم يعد "ياسر" ذلك المولى المقهور انقلبت الموازين، موازين القوة والضعف،صار الإسلام شرط القوة، غدا المسلم هو القوي بإسلامه وإيمانه وصبره وتضحيته، لا بما توافر له من مواضعات القوة والغلبة والحماية.

أصبح المشروع هو منبع القوة، هو المحمي والحامي في آن،أصبحت القيم سر القيمة .

الخيارات اليائسة لا يمكن أن تقربنا إلا إلى الهاوية، نحتاج القبائل في مشروع كبير،القبيلة من مكوناته وروافعه،لا نريد التفكير في القبيلي كبندق،وقاطع طريق ورأس "ناشف" ،نريده مجاهداً مناضلاً صاحب رسالة ومبادئ ،نريده مواطناً حراً شجاعاً، يفكر بما هو أوسع وأرحب، وأرفع وأنفع، وهذا ما فعله الإسلام.

الصورة ليست كما يراها البعض ، القبيلة عندنا أحوج ما تكون إلى دولة النظام والقانون, دولة العدل والمواطنة، دولة الحق والحريات.

بدأ الرسول من مكة و لم ينته عند القبائل بل انتهى بهم إلى المدينة -حاضنة الدعوة ومهاد دولة الإسلام -وهنا يشرق الدرس العظيم.