الرئيسية / كتابات وآراء / قبل أن تصبح "صعدة" دارفور أخرى!

قبل أن تصبح "صعدة" دارفور أخرى!

د. أحمد عبيد بن دغر
الأحد , 01 يناير 2023 الساعة 12:00 صباحا


خلال الأسبوع الأخير على الأقل كانت أخبار اليمن في الصحف العربية تبث تحت العناوين التالية: اشتباكات ضارية مع «الحوثيين» والجيش يكثف هجماته بالمدفعية والصواريخ ـ حرب شوارع في صعدة والمتمردون يهاجمون منشآت حكومية ـ مائة قتيل خلال 24 ساعة ـ قصف آخر معاقل المتمردين بعد رفض الحوثي عفوا بضمانات ـ تصعيد في صعدة وهجومان انتقاميان في صنعاء ـ السفارة الأميركية تغلق أبوابها بعد البريطانية... الخ. هذه العناوين لا تبدو جديدة للمتابع للشأن اليمني، وانما تكاد تكون استنساخا لعناوين أخرى طالعناها ابتداء من شهر يونيو (حزيران) الماضي، حيث ما زلت احتفظ بقصاصة تضمنت أول خبر في انفجار الصراع في شمال اليمن، نشرته صحيفة «الأهرام» القاهرية في 22/6/2004، كان عنوانه كالتالي: مواجهات دامية بين القوات اليمنية وانصار زعيم ديني بمحافظة صعدة. وفي ثنايا تصريح لمدير أمن محافظة صعدة العميد محمد صالح طريق، قال ان السلطات تصدت لمحاولات التخريب والأفكار الدخيلة التي دعا اليها أنصار عضو مجلس النواب السابق حسين بدر الدين (الحوثي)، الذين دأبوا على إثارة النعرات الطائفية، وحشد المواطنين ضد السياسة اليمنية والأميركية من خلال المساجد. وهو ما أدى إلى قتل ستة عسكريين على الأقل ومقتل عدد غير معروف على الجانب الآخر.
هذا الذي نشر في منتصف العام الماضي اصبح خبرا ثابتا تردده الصحف بذات المضمون مع اختلاف في التفاصيل، فدائما ثمة قتال يخوضه الجيش بالطائرات والصواريخ، وبمشاركة من الحرس الجمهوري ضد «متمردين» في صعدة، والقصف مستمر في جانب، والرد لم يتوقف من الجانب الآخر، والقتلى يتساقطون على الجانبين. ورغم ان الصحف نشرت في 11/9 من العام الماضي ان العمليات العسكرية انتهت بمقتل حسين بدر الدين الحوثي، لكن تبين ان القتال تجدد مرة أخرى هذه المرة تحت قيادة بدر الدين الحوثي، الأب البالغ من العمر 80 عاما.
ماذا يكون شعور المواطن العربي وهو يتلقى مثل هذه الأخبار كل صباح؟أقر في هذا الصدد بأن المعلومات شحيحة للغاية عن الحاصل في شمال اليمن، وهو ما يستلفت الانتباه، حتى ليبدو معه أن ثمة تعتيما عما جرى ويجري، وان الأزمة ليست مقصورة على الصدى العربي المفترض للحدث، ولكنها أيضا قائمة فيما يخص المعرفة بالحدث، حيث لا بد أن يستغرب المرء في ظل ثورة الاتصال الحاصلة، وفي أجواء الحديث عن الشفافية والتأكيد على حق الناس في المعرفة، باعتباره من حقوق الإنسان التي يتسابق الجميع في العالم العربي على التمسح فيها والتعلق بها، أن يحدث قتال شرس لمدة عام في بلد عربي مجاور ـ ليس في جواتيمالا ولا بوركينا فاسو ـ ثم لا نعرف عنه إلا النزر اليسير من المعلومات التي تصدر عن المصادر الرسمية دون غيرها. وهي المصادر التي لا تقول لنا سوى أن ثمة متمردين ومخربين في الشمال رفعوا السلاح في وجه السلطة، التي اضطرت إلى قمعهم وتأديبهم حفاظا على الأمن وحرصا على استقرار الجبهة الداخلية.. هل هذا كل شيء؟
في محاولة فهم ما يجري، لم يكن أمامي سوى الاعتماد على المصادر الشفوية، التي تمثلت في روايات من اعرف من بعض الأصدقاء اليمنيين في الداخل. وخلاصة ما قاله هؤلاء أن حسين الحوثي كان عضوا في مجلس النواب، وانه كان مقبولا من القيادة السياسية وليس بعيدا عنها، ولانه كان منخرطا في بعض الأنشطة السياسية المعارضة في صنعاء، فقد أرادت عناصر في القيادة إضعاف تلك القوى وتفتيتها، فشجعته على الانفصال، لإنشاء تنظيمه المستقل ـ الشباب المؤمن ـ وهناك من يذهب إلى أنها قدمت له تمويلا لذلك الغرض.
وبعد أن قطع شوطا في تأسيس حركته، اختلف الحوثي مع الحكومة خصوصا في أعقاب احتلال العراق حيث أعلن الرجل معارضته للاحتلال، ومضى هو واتباعه يجهرون بتلك المعارضة بمختلف السبل، حتى اصبحوا يرددون في مختلف المناسبات هتافات تنادي: الموت لأميركا. بمضي الوقت تطور الخلاف السياسي وأدى إلى تباعد المواقف بين جماعة الحوثي والسلطة، وغذى ذلك الخلاف وعمق الاختلاف المذهبي التقليدي في اليمن، بين الشوافع والزيدية الذين يشار إليهم في اليمن باعتبارهم «هاشميين»، وهو اختلاف ظل من قبيل التنوع الذي يثري المجتمع ولا يفتته، لكنه كان يطفو على السطح في فترات الضعف والتوتر. ورغم أن الزيدية يعدون من الناحية الفقهية أقرب إلى أهل السنة، إلا أن الحوثي وجماعته ذهبوا بعيدا حتى اصبحوا اقرب إلى الشيعة الاثني عشرية، وأغلب الظن أن هتافهم الموت لأميركا وإسرائيل كان من أصداء ذلك التقارب، لانه ذات الشعار الذي رفعته الثورة الإسلامية في إيران طيلة ربع القرن الأخير.
الخلاف الذي تداخل فيه السياسي مع المذهبي تطور إلى ملاحقة أمنية واشتباك بالسلاح، وكما يحدث في مثل هذه المواجهات فان رفع السلاح شق طريق الدم - شأن طريق الندامة ـ الذي إذا عرف أوله فغالبا ما تتعذر معرفة آخره.
ولذلك جرى ما جرى في الصيف الماضي، وانتهى الأمر بقتل حسين الحوثي، لكن القتل جدد النار ولم يطفئها، فقاد الأب العجوز معركة «الشباب المؤمن» ضد السلطة، والتي ما زالت دائرة حتى الآن، وما برحت عجلتها الشهيرة تحصد الأرواح وتخرب الديار وتهلك الزرع والضرع. وفيما فهمت فان الأب كان قد ذهب إلى صنعاء ساعيا إلى الإفراج عن المعتقلين من أبناء صعدة وحركة الشباب المؤمن ولكنه لم يلق تشجيعا أو استجابة ربما لمظنة ان قتل الابن أنهى دور الحركة، فعاد الرجل لكي يقود «التمرد» ويعاود الاشتباك مع السلطة للضغط عليها.
قد لا تكون بعض هذه الروايات دقيقة، لكن ما وجدته محل اتفاق بين جميع من رجعت إليهم أن دور السلاح في المسألة كان اكبر بكثير من دور السياسة، وان جهود أجهزة الأمن ظلت مقدمة على مساعي القوى السياسية، كما أنني لا أستطيع أن أتجاهل ملاحظة أحد السياسيين اليمنيين المستقلين الذين حدثتهم في الموضوع، أن الأمر في صعدة إذا لم يتم احتواؤه فقد يتفاقم، ويتحول إلى «دارفور» أخرى. تشد انتباه العالم الخارجي والمنظمات الدولية، وتهدد استقرار اليمن وتفجر فيه صراعات أخرى.
ما الذي يستطيع العرب أن يفعلوه لكي يتجاوز اليمن تلك الأزمة بمختلف تداعياتها واحتمالاتها؟ يستحق الأمر تفكيرا متعمقا من كل معنى بالشأن العربي والإسلامي أيضا، غير انني أذكر في هذا الصدد بأن الأزمة التي حدثت بين اليمن والسعودية في عام 1934 اسهم في حلها تدخل عدد من الشخصيات العربية المهجوسة بهم الأمة، من أمثال الأمير شكيب ارسلان من لبنان ومحمد علي علوبة (باشا) من مصر وعبد العزيز الثعالبي من تونس وعلال الفاسي من المغرب وكان ذلك قبل أن تولد الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي، وقبل ان يكون لعصبة الأمم دور يذكر في الساحة الدولية، المدهش والمحزن انه حين توفرت تلك المنظمات والآليات أصبحنا نحتار في حل أي مأزق عربي، من قضية الصحراء بالمغرب إلى قضية صعدة في اليمن، مرورا بالحاصل في دارفور وإريتريا ناهيك من العراق.
في هذا السياق يخطر لي السؤال التالي: ترى هل يستطيع اتحاد علماء المسلمين الذي لم تصبه شيخوخة بعد، أن يفعل شيئا يعيد الوئام إلى اليمن ويهدئ خواطر الغاضبين في صعدة، قبل أن تتحول إلى «دارفور» أخرى؟
* نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية