الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٣٩ مساءً

تأملات في عظمة الدول النموذجية...!

معتز الميسوري
الأحد ، ١٩ فبراير ٢٠١٢ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
*عظمة الدول، أمس واليوم وغداً، ليس في قوتها العسكرية، وبطشها، واقتصادها، ورفاهيتها. عظمتها في الالتزام بالقوانين التي وضعتها لتنظيم حياتها وعلاقاتها. القوانين التي تم التوافق عليها تحديداً. القانون ليس عدلاً مطلقاً، إنه أداة من أدوات الوصول إلى العدل أو ما يدل عليه. إنه محاولة أو مقاربة له. وليس إنجازاً استثنائياً أن تضع قانوناً شاملاً جامعاً يراعي كل صغيرة وكبيرة.

الإنجاز أن يرى ذلك القانون طريقه وأثره على الأرض بالممارسة والتفعيل.
عظمة الدول في قدرتها وحرصها على التجانس لا التنافر والفرقة. عظمة الدول في خوفها ألاَّ تلتزم بما ألزمت نفسها به، لا أن تطمئن لتكرار العَوَر والخلل والتجاوز ليصبح مع مرور الوقت عرفاً وعادة. عظمتها في قدرتها على أن توفر ما يضمن لشعوبها الدافع للإنجاز والإبداع والخلق، وألاَّ تصاب (الشعوب) بالإحباط والسأم واليأس. عظمتها في الاعتراف بأخطائها - حين تحدث - لا الذهاب والإمعان في مزيد منها.
لما استُخلف عمر بن عبدالعزيز، رضي الله عنه، دخل عليه سالم السُّدّي (من أهل أم عمر بن عبدالعزيز)، وكان من خاصّته، فقال عمر: أسرَّكَ ما وُلّيت أم ساءك؟

فقال: سرَّني للناس، وساءني لك.
قال: إني أخاف أن أكون قد أوبقت نفسي (أي أهلكتها).
قال: ما أحسن حالك إن كنت تخاف. إني أخاف عليك ألاَّ تخاف.
قال: عظني.
قال: أبونا آدم أُخرج من الجنة بخطيئة واحدة.

وعظمة كل دولة بما تقدم، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الفرد. عظمته بما يقدم ويضيف ويراكم ويساهم في إحداث نقلة وإنجاز بذلك التقديم والإضافة والتراكم والمساهمة. والأخذ بحق هو الحق على أن يكون أخذاً لا ينفصل في نهاية المطاف عن دورة العلاقات الإنسانية في الرد والتفاعل اقتناعاً وانسجاماً وحفظاً للحمة المجتمعات في صور من التكافل البديع الذي لن ترى له صورة أو شبيهاً في مجتمعات أخرى لا رابط لها بخير الأديان وخاتمتها.

ثم إن العظمة لا تتحدَّد بالمظهر. مظهر الدول والأفراد. فثمة زيف أحياناً في الواجهات والمظاهر. لا يكشف كل ذلك عن حقيقة ومضمون الداخل. حقيقة ما قبل وما بعد الشكل.

العظمة تلك القيمة التي تشعرك بالأثر ومعنى أن تكون مشدوداً لما لا تعرف له تفسيراً. مشدوداً للذروة في البسيط من الشاهد، ومشدوداً للقوة في المعاين من البسيط، ومشدوداً لها لأنها تكمل ما تراه وتعترف به نقصاً أو قلة حيلة.

عظمة الدول ليست في استيعاب أكبر لسجونها، وليست في انعدام الهامش من الحركة والحرية، وليست في سيادة البطش، وليست في مشاريع الفصل والتمييز. عظمة الدول في النقيض من ذلك احتكاماً إلى القانون، ولا شيء غير القانون الذي تجمع عليه الأمة وترتضيه، وليس القانون الذي تُعد وتفصل بنوده تبعاً لما يرتئيه الحاكم متماشياً مع تكريس سلطاته وتأبيدها.
ما يشذ عن ذلك هو وهْم مشاريع دول. هو وهْم حضور ووهْم قيمة ووهْم معنى. والوهْم في نهاية المطاف لا يصنع عظمة. إنه يكرِّس السراب ويكرِّس الوهن والهشاشة في أجلى الصور.

لا ارتجال في القول، حين يقرر أحدهم، أن الدولة العربية الحديثة قامت على أركان من الوهم. ولأستدرك هنا بالقول: الدولة العربية قامت في كثير من أحلامها على الوهم. لا أركان في الأمر، والعناوين التي رفعتها باعتبارها أركاناً، وهي كذلك لو قدِّر لها أن ترى طريقاً في واقع الأمة والممارسة، لم تكن في واقع الأمر إلا تحايلاً على ضعف وتفكك وتخلف الأمة التي ورثت تعاقب سلطات عليها كانت وظيفتها وإنجازها الأول وليس الأخير، هو الأخذ بها إلى مزيد من الجهل والإظلام والتوجيه الممنهج في أسوأ صوره.

بقايا حبر...//
لا يمكن قراءة انحسار العظمة في هذه الأمة والدول التي ننتمي إليها بعيداً عن الممارسة التاريخانية للسلطات فيها، والتي باتت طريقة وأسلوباً ومنهجَ عمل للذين تعاقبوا بعدها، على رغم التحول في الأزمان والأفكار وتطور القيم وتحولها؛ إلا أنها ظلت بالروح الذاوية ذاتها والشهوة ذاتها. روح تتطلع إلى الاستيلاء استقواء بالبطش، وهي من دونه أضعف من أن تحرك ساكناً، والشهوة في طلب المزيد من ذلك الاستيلاء. وكل ذلك لا يمكن له أن يصنع عظمة، إنما يصنع مزيداً من تعميق الجهل والإظلام والتخلف.