الرئيسية / كتابات وآراء / التجديد الفكري وفضائل التجديد

التجديد الفكري وفضائل التجديد

د. أحمد عبيد بن دغر
الأحد , 01 يناير 2023 الساعة 12:00 صباحا
يمن برس - أحمد شهاب:

التقدم الكاسح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية الأخيرة دليل آخر على استمرار قدرة الإسلاميين والتيارات المحافظة على حيازة ثقة الشارع الإسلامي، وإلى رغبة الشارع في التخلص من الإرث الكمالي ومن هيمنة المؤسسة العسكرية، وميلهم إلى حكم مؤسسي عادل يسير بالبلاد والعباد إلى واقع أفضل، ولعل المفارقة الأبرز في التجربة التركية أن الحزب الإسلامي المحافظ كان أكثر ديموقراطية وشفافية من كل الحكومات العلمانية السابقة.
في تركيا وفي غيرها من البلدان الإسلامية لا يزال الشارع يرجح كفة الإسلاميين والمحافظين عند أي منازلة سياسية، ربما لأن القضية الأبرز التي تواجه المجتمعات المعاصرة هي الفساد في صوره المختلفة، وهي قضية لم يثبت أن القوانين والأنظمة استطاعت أن تحد منها أوتجد لها حلا ناجعا، وفي الذهنية الشعبية أن القوانين لا تحد من الفساد وإنما تضفي حماية وغطاء قانونياً على تجاوزت المفسدين من كبار رجالات الدولة والمسؤولين.
المتدينون قد يمثلون حلا في اعتقاد الكثير من الناس للحد من الفساد لارتباطهم بمنظومة القيم والمبادئ الدينية، ولأن مواجهة الفساد ومحاربة الرذائل من أهم ما يجب أن يؤديه المسلم في حياته الخاصة والعامة، وينتظر أن تكون ذمة المؤمنين أكثر نظافة من غيرهم، كما تلعب الصورة المنطبعة عن تواضع القادة في العصر الإسلامي ورغبتهم عن ملذات الدنيا دورا مهما في دفع حركة الشارع نحو المتدينين كنموذج مقارب للمثال التاريخي، وقد أحسن الإسلاميون في مناطقنا استثمار هذه الخاصة لتحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب والمنافع الخاصة والعامة، من خلال تمثل المقولات والشعارات التاريخية أو من خلال الارتباط والانطلاق من المؤسسات الدينية، أو حتى من خلال احتذاء طريقة انتقاء وارتداء اللباس.
بالنسبة للمثال التركي فإن قادة الحراك السياسي الجديد تميزوا بالشفافية ونظافة اليد، وخلال التجربة السابقة أثبت الحزب أنه البديل المناسب لحالة الفساد المتفشية في الواقع التركي، وعفاف قيادته من استثمار الوظيفة العمومية التي كانوا يشغلونها منحهم مصداقية إضافية أمام جمهور عريض أطلق عليهم وصف " الحزب الأبيض " في اشارة الى نزاهة الحزب ومصداقية أعضائه.
التميز التركي برز من خلال قدرة تيار يمين الوسط الذي مثله حزب العدالة والتنمية على تقديم نموذج آخر للإسلام يختلف كليا عن النموذج العربي إن صح التقسيم، فنموذج التجربة الإسلامية التركية استطاعت الابتعاد عن الشعارات والعناوين الصارخة البعيدة عن فرص التطبيق والتنفيذ على ارض الواقع، وبدا من خلال التجربة السابقة أن تحسنا ملحوظا طرأ على واقع الدولة بقيادة حزب العدالة والتنمية، كما استطاع الحزب أن يثبت عمليا إمكانية تلاقي الإسلام مع الحداثة لا بصفتها ارتدادا عن المبادئ وانقطاعا عن الماضي وإنما بصفتها حضورا وتقدما وانجازا جديدا يضاف إلى الخبرة الإسلامية ويدعمها.
كذلك وجد الأتراك في التيار الإسلامي المعتدل والمعترف بالتعددية الدينية والتنوعات الفكرية مخرجا من إشكالية الهوية حيث كانت منذ سيطرة العلمانية المتعسفة ولا تزال تمثل قلقا وهاجسا وطنيا عاما، والإسلام وحده كما يعتقد الكثيرون من الأتراك هو الذي يمكن أن يحقق وحدتهم القومية والاجتماعية، كما يمكنه أن يعيد التوازن إلى الهوية الثقافية التي أنهكها تحجر النخبة العلمانية، لا سيما إذا اتصف القائمون على إدارة الدولة بالاعتدال والطرح الحضاري للإسلام وابتعدوا عن التشنج والانفعال في طرح الأفكار والتعامل مع الآخر.
تبنى الإسلاميون الأتراك فكرة المصالحة بين الإسلام والديموقراطية، ونادوا بالمزيد من الحقوق والضمانات الشخصية، وساقوا بلادهم نحو البناء المؤسسي المرتكز على رد الاعتبار إلى قوى المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية، ولم يعتبروا ذلك انجازا حزبيا ولا حتى إسلاميا وإنما انتصارا وطنيا يستطيع كل مواطن تركي أن يستثمر نتائجه ويتلمس آثاره.
لقد قدم إسلاميو حزب العدالة والتنمية أوالديموقراطيون الجدد في تركيا أنموذجا لما يجب أن تكون عليه الجماعات الإسلامية الأخرى للخروج من مأزق الانكفاء أوالصراع الدائم مع الحياة العامة، وكشفوا عن إسلام آخر قادر على التعايش مع العصر ورافض للانغلاق على الذات ويتقدم إلى الأمام بخطى واثقة، ويستلهم من العلم الحديث ما يعينه على تطوير الواقع وتعميم الفائدة لكافة أبناء المجتمع دون تمييز بين المواطنين بسبب انتمائهم الديني أوالمذهبي أوالعرقي. والتزامهم بقيم الإسلام لم يمنعهم من السعي لإنتاج ممارسة سياسية راقية قوامها التجديد والإبداع الخلاق بمساهمة وصناعة أبناء المجتمع ونخبه الفاعلة.
والإسلاميون مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى للاهتمام ببناء الدولة وتنمية الاقتصاد الوطني ومكافحة الفساد ودعم المجتمع المدني والالتزام بالديمقراطية وتنميتها بدلا من التشكيك بالمفاهيم الحديثة او التردد في الأخذ بفضائلها، واعتذار بعض الإسلاميين بأن هذه المفاهيم متناقضة مع الدين، لا يدل على أن الدين لا يتقبل المفاهيم الحداثية، بقدر ما يدل على أن ثمة إسلاميين متقدمين وآخرين متخلفين. وبظني أن من أهم نقاط التميز في تجربة الحركة الإسلامية في تركيا، والتي تفوقت من خلالها على نظيرتها العربية :
أولا : قدرتها على صناعة خطاب سياسي جديد ومثمر يمتاز بفهم الساحة المحلية، ويدرك الهم الوطني العام، ويرسم بذكاء شديد خارطة الصعاب التي تواجهها البلاد في المرحلة الحالية والمقبلة، ويضع الحلول العلمية والعملية لها. والتخطيط لمستقبل بلادها كحاضن للجميع بعيدا عن الانتماءات الحزبية الضيقة، كما انطلقت من وعي عميق بالمصالح الخارجية والمعادلات الدولية وسارت على توازنات دقيقة استطاعت من خلالها تحقيق الكثير من الانجازات بوقت قصير نسبيا، ونقلت كرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي إلى ملعب الدول الأوروبية، ووضعتها في موقف المتسائل عن مدى التزامها بمبادئها في التعايش السلمي والتعددية والحوار الحضاري إن كانت لا تقبل دخول تركيا لأسباب تتعلق بهويتها الإسلامية ؟
ثانيا : قدرتها على تطوير الخطاب الديني المعاصر، من خلال التخلص من عقدة الشعارات التي عنونت مسيرة الجماعات السياسية في العالم الإسلامي بصورة عامة والعربي بصورة خاصة، والانتقال إلى خطاب إصلاحي محلي ساهم في صياغته المثقفون الأتراك، عنوانه الأساسي الإسلام المتصالح عمليا مع العصر والحداثة، وقد كان لهذا الخطاب أثر كبير في ثلاثة اتجاهات، أولها في تحفيز قطاع الشباب والمثقفين والفنانين وبعض التيارات المحلية للانخراط في صفوف الحزب ليضيف إلى رصيده قوة تنوع شملت اغلب فئات وشرائح المجتمع. وثانيها في تخفيض حدة العلمانية اللادينية والمتعسفة ومواجهتها بفكر تجديدي يلتزم الحداثة ويتميز بالنشاط والحركية، بل ويتقدم عليها بالاطروحات الحية والمبادرات التحررية، حتى قال البعض إنها جاءت بالعلمانية المؤمنة. وثالثها في الابتعاد عن لغة العنف والمعارك السياسية، وهي إحدى أبرز تجليات الخطاب الإصلاحي الجديد في تركيا المعاصرة، فقد تميز بقدرته على إعادة تعريف هويته الفكرية والسياسية بما ينسجم مع واقع الدولة التركية الداخلي وعلاقاتها الخارجية، وقد أفادت هذه المرونة الحزب في صياغة أفكار حديثة مدنية تتعايش مع الذات والآخر، بل وامتلك القدرة على احتواء واحتضان المختلف مهما بدا بعيدا ومتناقضا، وهوما ساعده على تجنب الانزلاق في دوامة العنف التي انساقت خلفها العديد من الجماعات الإسلامية في العالم العربي، وأثبت للعالم أن الإسلام قادر على التعايش مع الآخر متى ما كان المسلم يمتلك ذهنا منفتحا، وبالتالي أغلق الباب أمام محاولات التصعيد التي أرادها الجيش لقلب نظام الحكم على الإسلاميين وثبتت حكومتها.
إن التجربة الإسلامية في تركيا ليست خالية من الأخطاء أو أرفع من النقد، ولن يستعصي على أحد البحث عن العيوب والنواقص في هذه التجربة أو غيرها، لكنها في المجمل تجربة تُقدم مادة عملية تستحق الدراسة والتأمل من قبل القوى والجماعات الإسلامية في العالم العربي، فهي تقدم درسا بليغا في طرق الخروج من التقليد إلى الحداثة، ومن الصراع إلى التعايش، ومن الانشغال بالهامش إلى التركيز على الجوهر.


[email protected]