الجمعة ، ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٢٥ صباحاً

حميـــد شحـــرة.. كـــان ابنـــاً لأنـــاس طيبـــين

د. أحمد عبيد بن دغر
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
محمود ياسين

لم يكن حميد قصة نجاح مدهشة. كان صديقاً وكنت أبكي في المقبرة وكان الناس يكرمون دموعي ويفكرون في مصاحبة الرجل الوفي الذي كنته.. شكراً يا حميد.. اكرمتني حياً وميتاً. وفي مقيل العزاء كانوا يومئون للرجل المحترم الأصيل وهو يتكئ على نزاهته محتفياً بالإنسان الذي استعاده على حافة قبرك الكريم..
أذكر يا حميد أنني حدثتك عن ديستون هوفمان وهو يخبط رأسه على الدبابة ويصرخ: جون.. ماتت ابنتي ولست قادراً على البكاء. فهتف جون: «أنت تبكي الآن يا ديفيد...». وهكذا عزيت نفسي وأنا أتلوى من فرط عجزي عن بكائك مساء رسالة نعيك من نصر طه مصطفى حتى أنني خلعت الجاكت وارتديته مرات كثيرة بحثاً عن ملاذ اعتبرته خيانة لك.. وهمست أخيراً: أنت تبكي الآن يا محمود.
استعدت خيانة صغيرة وأنه ما كان عليَّ التفوه بتلك الترهات عن تخليك عن شخصية الحالم وكيف أنك لم تعد تكترث لغير النجاح وتلك تهمتك وذنب ابن البائع المتجول الذي ما كان عليه انجاز مؤسسة واستقدام مطبعة -لم أكن نزيهاً ساعتها- وتساءلت أثناء محاولات البكاء: أتراهم أخبروه؟ ليتهم لم يخبروك شيئاً. على أنني قلت اشياء أخرى كانت لائقة بك وما تفوهت بالترهات إلا لأنني اعتقدت خسران صديق أمسى رجل اعمال. وما كنت رجل أعمال كل ما هنالك أنك قمت بأعمال رجل يعيش بكبرياء الجريح الذي لا ينام... ثم إن الثلاجة بنكهة الفولاذ وما كنت لازورك مجازفاً بما تبقى من عمري تحت رحمة صورة صديق ميت وأطرافه باردة... وعلى حافة القبر أدركت أنه ما من حميد بعد وأن الآخرة فكرة رائعة قد أراك فيها مجدداً وأن ابناء الناس الطيبين يرحلون مثخنين بشموخهم الحزين... وأن هذا العالم ظالم ولا انساني، ينتزع ابناء الناس الطيبين من بوابات النجاح مستكثراً فرحة لمحها في عيونهم.. ترحل وتبقى الذكريات يا حميد وذاكرة النهايات المأساوية ورثاء القمم الباردة والرجل الذي منحته ثمن بطانية لا يزال في شتاء صنعاء ربما يمر عليه حميد لم يمت بعد..
كنا ثلاثة ولطالما تعثرت بوجلي فمددت يدك المكسوة بالشعر وافسحت لي بينك وبين جمال وكانت امرأة قد مدت يدها المعروقة ومنحتك اخوة رضيعها مقابل علبة دواء كنت قد سألتك اثناء شرائها: هل تعاني التهاب المفاصل يا حميد...؟ أشياؤك لم تبارح طريق عودتك والمساء كعادته قارس كالموت وهو لم يعد رضيعاً لقد أصبح غلاماً يمد يده إلىجوار يد أمه ولم تكف مفاصلها عن الالتهاب.
نسي الناس عبدالله سعد، كاهن اعترافاتك الأخيرة، وتذكروك جيداً كما يفعل الناس عادة مع المشاريع الطموحة...
بكى سعيد ثابت لأجلك ونشج مثل طفل هائل، واختنق نصر بعبرات صغارك الذين اصبحوا جزءاً من عائلته. أطفالك بخير، غير أن «احمد»، النسخة الأصلية منك، قد تضرر قليلاً وأجريت له عملية ناجحة.. وقال «مالك» إنه يشكر نقابة الصحفيين ولا أظنه قد أدرك الكارثة. البارحة اتصل علي الجرادي وكان متحمساً للغاية اخبرني أن حميد الأحمر اشترى بيتاً جميلاً لعائلتك وأنهم أسموا ابنك الذي ولد في القاهرة «محمود».