الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٤٠ مساءً

جواد البشيتي في أُحْجية وحُجَج "القضاء والقَدَر"

د. أحمد عبيد بن دغر
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
جواد البشيتي-حوار

هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟ هذا السؤال الكبير والقديم ليس من نمط الأسئلة الذي يستطيع المرء إجابته إجابة حاسمة قاطعة، تُنهي قلقه الفكري، وتُنهي معه الحاجة إلى الاستمرار في "السؤال"، وإلى الاستمرار في البحث عن "الجواب".

هذا السؤال لم يأتِ من فراغ، بل ولَّدته حاجة الإنسان إلى معرفة واختبار "حدود الإرادة الحرَّة" لديه، فعجْز الإنسان، المُثْبَت والمؤكَّد، عن أن يكون حرَّاً في كل أفعاله وأعماله، أي عجزه عن أن يفعل كل ما يريد، وكل ما يرغب في فعله، هو الذي حمله على إثارة مسألة "التسيير والتخيير".

وأحسب أنَّ الفهم الخاطئ لمعنى "الحرِّية"، أو "حرِّية الإرادة الإنسانية"، قد خلق عقبات فكرية عديدة في طريق البحث عن جواب للسؤال، أو عن حل مرضٍ لهذه المشكلة التي ما زالت تؤرِّقنا منذ زمن طويل، والتي ما زالت تؤثِّر تأثيرا قويا وجليِّا حتى في حياتنا اليومية، فنحن ما أن تحل بنا مصيبة، كان ممكنا اجتنابها ودرأها، حتى نعزِّي أنفسنا بقول من قبيل "كانت قضاءً وقدراً".

"كل شيء مكتوب"، و"لا مهرب من المكتوب"، فسائق السيَّارة، في تهوُّر وطيش ونزق، صدم بسيَّارته طفلا، فقتله. ولكنه بدعوى أنَّ "كل شيء مكتوب"، وأنَّ الحادث من صنع "القضاء والقدر"، يفلت من العقوبة التي يستحق.

نحن "أحرار"، ونحن "مقيَّدون"، في الوقت نفسه. ولسوف نستمر في هذه الحال المتناقضة إلى الأبد، وليس من معنى للحرية، أي "حرِّية الإرادة الإنسانية"، إلا إذا فهمناها على أنَّها "ثمرة وعي الضرورة (الطبيعية والتاريخية)".

هل أنا حرٌّ في تحضير كوب من الشاي؟ الإجابة هي "نعم" و"لا" في الوقت نفسه، فأنا، ومهما كنتُ حرَّاً، لا أستطيع أن أُحضِّر كوبا من الشاي إذا ما "رفض" الماء أن يغلي عند تعرُّضه للتسخين، أو إذا ما "رفضت" مادة الشاي أن تنحل في الماء المغلي.

إنني أستطيع أن أفعل ما أريد، أي أن أكون حرَّاً في أفعالي وأعمالي، إذا ما أخذتُ بالأسباب، ووعيتُ "الضرورة (الطبيعية والتاريخية)" الكامنة في الفعل الذي أريد، فالفعل، في حياتنا الاجتماعية والتاريخية، نصفان: نصفه منِّي (من وعيي وإرادتي..) ونصفه من "الواقع وقوانينه الموضوعية"، وينبغي للنصف "الذاتي" أن يطابق ويوافق النصف "الموضوعي" وإلا ذَهَبَتْ التطورات بالتوقُّعات، وحبط سعينا.

ويكفي أن نستمسك بهذا الفهم حتى ننتقل إلى "السؤال السليم".. سؤال "كيف ندرأ عن أنفسنا هذه الكارثة المحدقة بنا؟"، فالتاريخ ليس بالشيء المصنوع سلفاً. إنَّه شيء قيْد الصنع. أمَّا "القضاء والقدر" فليس بالمشجب حتى نعلِّق عليه فشلنا وهزائمنا ومصائبنا!

كل الجهد التأويلي الذي بُذِل ويُبذل لم ينجح، ولن ينجح، في التوفيق بين "التسيير" و"التخيير". ونوضِّح ذلك في المثال الآتي: في هذا المكان، وفي هذا الزمان، سوَّلت لي نفسي "الأمَّارة بالسوء" الإتيان بـ "فاحشة". و"الفاحشة"، أي القبيح الشنيع من قول أو فعل، تُغْضِبُ "الخالِق"، الذي سيُعاقبني على هذا الذنب الذي اقْتَرَفْت "يوم الحساب". سيُعاقبني؛ لأنَّني خالفْتُ ما نهاني عنه، فـ "الخالِق" حرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطَن.

والسؤال الذي يُوَلِّدَهُ هذا المثال، والذي ينبغي لهم إجابته، هو الآتي: هل أنَّني "فاجَأْتُ" الخالِق إذ أتيتُ بهذه "الفاحشة"؟ إنَّكَ لا "تُفاجأني" إذا أنتَ أتيْتَ بفعلٍ كنتُ "أَتَوَقَّع" أن تأتي به، أو كنتُ "أَعْلَمُ عِلْمَ اليقين" أنَّكَ ستأتي به في هذا المكان، وفي هذا الزمان. ولا ريب في أنَّ "الخالِق" كان "يَعْلَم عِلْم اليقين" أنَّني سأرتكبُ هذا "الذنب"، منذ "الأزل"، أي قَبْلَ خَلْقي، وقَبْلَ خَلْق السماوات والأرض، فإنَّ من صفاته "العليم"، و"علاَّم الغيوب"، فهو العالِمُ بما كان وما يكونُ قَبْلَ كَوْنِه, وبِمَا يكونُ ولَمَّا يكُنْ، قَبْل أنْ يكون. وهو لم يَزَل عالِماً ولا يَزالُ عالماً بما كان وما يكون, ولا يخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء، أحاطَ عِلْمُه بجميع الأشياء، باطِنِها وظاهرِها، دقيقِها وجليلِها.

إنَّ إتياني بتلك "الفاحشة" كان في عِلْمِهِ منذ الأزل. وأنا، في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان، أي حيث أتيتُ بـ "الفاحشة"، ليس في وسعي أن آتي بما يُخالِف هذا "المعلوم"، فمخالَفَة ما نهاني "الخالِق" عنه، أي إتياني بتلك "الفاحشة"، هي كل ما في وسعي أن أفْعل.

لقد أرَدَتُ الاتيان بتلك "الفاحشة"، فهل أملكُ من "حرِّية الإرادة" ما يمكِّنني من أن أريد غير ما أراده "الخالِق"، أو ما يُخِالِف ويضاد إرادته؟! إنَّني لا أستطيع أن أكون "مؤمناً" إلا إذا آمنتُ بأنَّني لا أستطيع أن أُريد إلا ما أَرادهُ "الخالِق".

إتياني بتلك "الفاحشة" إنَّما كان في "عِلْمِهِ" منذ "الأزل"، كما كان من "إرادته"، فليس لـ "المخلوق" أن يريد شيئاً لم يُرِدْهُ "الخالِق"، أو يُخالِف إرادته ويعارضها. حتى تمرُّد "إبليس" على "الخالِق" كان في عِلْم "الخالِق" ومن إرادته، ولو شاء "الخالِق" لظلَّ "إبليس" على طاعته له.

وغني عن البيان أنَّ إدراج "الفاحشة" التي ارْتَكَبْت في "عِلْم" و"إرادة" الخالِق يعني أنَّ إتياني بها هو "أمرٌ قرَّره الخالِق"، وليس لي أن أُخالِفَ، في قولي وفعلي، وفي كل ما يدور في خلدي، "قرار" الخالِق، فأنا كنهرٍ لا يملكُ تغييراً لمجراه.

وهذا "القرار الإلهي" هو ما يسمَّى "القضاء والقدر". وعلى كل من يؤمن بـ "القضاء والقدر" أن يؤمِن، أيضاً، بأنَّ "إرادته الحرَّة" هي جزء لا يتجزأ من هذا "النظام الإلهي"، أي من "القضاء والقدر". ويكفي أن نؤمن بأنَّ "إرادتنا الحرَّة" جزء لا يتجزأ من "القضاء والقدر" حتى ينتفي "التخيير"، ويسود "التسيير" سيادة مطلقة.

في دفاعهم عن "التخيير"، يأتون بالمثال الآتي: أنتَ تَعْرِفُ ابنكَ جيِّداً، و"تتوقَّع"، بالتالي، أن يأتي بفاحشة الزِّنى"، فيأتي بها. أنتَ لم تكرهه أو تجبره على الزِّنى. أنتَ كنتَ "تتوقَّع"؛ لأنَّكَ كنتَ "تَعْلَم" الحقائق السلوكية لدى ابنكَ.

في هذه الطريقة يحاوِلونَ إقناعِكَ بأنَّ "الخالِق" يَعْلَم، منذ الأزل، الفواحش التي سنأتي بها، ولكنَّ عِلْمَهُ هذا لا يعني أنَّه قد أكرهنا أو أجبرنا على الاتيان بها. هذه المحاوَلة لا بدَّ لها من أن تفشل؛ لأنَّ أصحابها لن ينجحوا في أن يجيبوا إجابة مقنعة عن السؤال الآتي: إذا كان "الخالِق" يَعْلَمُ عِلْم اليقين، منذ الأزل، أنَّني سأرتكبُ هذا الذنب، فهل أستطيع أن أمنع نفسي من ارتكابه؟!

المثال الذي جاؤوا به ليس بالمثال الموفَّق، فهذا الابن قد يُفاجئ والده، أي قد يمتنع عن الزِّنى، ويَذْهَب، بالتالي، بـ "توقُّع" والده. ولكنَّ الإنسان لا يستطيع، أبداً، الاتيان بما يذهب بـ "توقُّع" الخالِق، أو يُخالِف "عِلْمَهُ".

و"خالِقُ كل شيء"، وحتى تظلَّ عبارة "خالق كل شيء" محتفِظَةً بمعناها، لا يمكن أن يكون خالِقاً لـ "الخير" و"الأخيار" فحسب، فهو يجب أن يكون، أيضاً، خالقاً لـ "الشرِّ" و"الأشرار"، ولكل ما يأتي به البشر من فواحش.

ويقولون أيضاً: إنَّ الإنسان قد يفعل ما لا "يرضي" الخالق، أي ما يُغْضب الخالِق، ولكنَّه لا يستطيع أبداً أن يفعل ما يُخالِف "مشيئة" الخالِق، فالخالق أعطانا "الحرِّية في عصيانه"، ولكنَّه لم يُعْطِنا "الحرِّية في أن نعلو على مشيئته (إرادته)"، فـ "مشيئتنا ضمن مشيئته".

هذا هو "اللغو" بعينه. إنَّ إتياني بـ "فاحشة" كان بـ "مشيئتي"، أي بـ "إرادتي". و"مشيئتي"، مهما كانت، لا بدَّ لها من أن تكون "ضمن مشيئة الخالِق"؛ لأنَّ غير ذلك معناه أنَّ لديَّ "الحرية في أن أعلو على مشيئة الخالِق"، وأنَّ الخالِق ليس بـ "خالِقٍ لكل شيء"، فهو خالِق، فحسب، لكل ما يُعدُّ "خيراً"، بحسب المعايير الدينية.

إنَّ مشكلة "التسيير والتخيير" لا تُحل بقول من قبيل إنَّ الخالِق قد خَلَق للإنسان "عقلاً" حتى يُميِّز به "الصواب" من "الخطأ"، و"الخير" من "الشرِّ"، و"الحق" من "الباطل"، وأرْسَلَ الأنبياء والرُسُل مُبشِّرين ومُنْذرين حتى يَعْرِف الإنسان "الحلال" من "الحرام"، وما "يرضي" الخالِق مِمَّا "يغضبه".

هذا القول لا يحل تلك المشكلة؛ لأنَّ الإنسان ليس حرَّاً في "المفاضَلة"، فـ "مفاضلته" ستنتهي، دائماً، إلى أن يشاء ما شاء الخالِق، فمشيئته ستظل ضمن مشيئة الخالِق، ولن تعلو عليها، أو تُخالِفها، أبداً، فالخالِق لا "يَعْلَم" فحسب، وإنَّما "يُريدُ ما يَعْلَم".

والخالِق لا "يُريد" فحسب، وإنَّما "يفعل ما يُريد". إنَّ الخالِق هو الذي "خَلَقَ كل شيء".. وهو، بالتالي، الذي خَلَق "إرادة" البشر و"أفعالهم جميعاً".

قد ترمي، ولكن ما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ الخالِق رمى. هنا يكمن لغز "القضاء والقدر"، وهنا يكمن حله أيضاً، فالإنسان يفعل ما يشاء، ولكنَّ "مشيئته ضمن مشيئة الخالِق"، لا تنفصل عنها، ولا تعلوها، أبداً.

هذا هو "التسيير والتخيير" في معناه الديني، فهل من معنى "لا ديني" له؟ لنتخيَّل أنَّ لدينا ذرَّات أُوكسجين "مفكِّرة"، وأنَّ ثلاثاً منها "أرادت" أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، "جزيء ماء"، فهل تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة مع ما "أرادت"؟ الجواب هو: ستفشل، حتماً، في "فِعْلِ ما تريد"، فتكوين "جزيء الماء" يحتاج إلى ما هو أهم بكثير من "إرادتها". إنَّه يحتاج إلى أن تتَّحِد كل ذرَّة من ذرَّات الأُوكسجين الثلاث مع ذرَّتي هيدروجين. أمَّا لو "ارادت" ذرَّات الأُوكسجين الثلاث أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، غاز "الأُوزون" فسوف تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة تماماً مع ما "أرادت".

على هذا النحو فحسب يمكننا، وينبغي لنا، فهم "إرادة" الإنسان و"نتائج" الفعل الذي أراد، فـ "حرِّية الإرادة الإنسانية" لا تَظْهَر وتتأكَّد، ولا تقوم لها قائمة، إلا عندما تأتي "النتيجة"، أي "نتيجة الفعل الإنساني"، متَّفِقَة مع "التوقُّع"، أي عندما تأتي "نتيجة الفعل الذي أرَدَت" متَّفِقَة مع "ما أرَدَت".

عباس بن فرناس رغب في الطيران كالطيور وأراده، فحاوَل، ولكنَّ محاولته باءت بالفشل، كما فشلت ذرَّات الأُوكسجين الثلاث "المفكِّرة" في أن تصنع، باتِّحادها، "جزيء ماء". ولم ينجح البشر حيث فشل عباس بن فرناس إلا عندما اكتشفوا القانون الطبيعي للطيران، فصنعوا، بما يتَّفق معه، وسائل الطيران.

"الحرِّية" هي أن "أفعل" ما "أُريد"، وأن يتمخَّض فعلي هذا عن "النتائج التي أُريد وأتوقَّع". قد أُريد، أو أَرْغب في، اجتياز هذا النهر. ولكن هذا "العامل الذاتي" لا يكفي، وحده، لحل مشكلة "الحرِّية"، فما نيل المطالب بالتمني.

ينبغي لي أن أبدأ "الفعل"، وهو عبور النهر. قد أُريد، أو أرغب في، اجتيازه "مشياً على الأقدام"، فهل أنجح؟ كلاَّ، لن أنجح، فإذا أنا حاولت فسوف أَغرق. فشل هذه المحاولة سيقنعني بأنَّني لستُ "حرَّاً" بَعْد، فإرادة الإنسان وحدها لا تكفي لجعله قادراً على إنجاز مهمة ما، أو عمل ما، ولجعله، بالتالي، يشعر بأنَّه "حرٌّ". لاجتياز النهر، ينبغي لي (وعبارة "ينبغي لي" فيها معنى "الاضطرار" وليس فيها نزر من معنى "الاختيار") أن أتعلَّم السباحة، أو أن اتَّخِذَ شيئاً (جذع شجرة) وسيلةً لاجتياز النهر. وقد أصنع زورقاً من أجل ذلك.

ما معنى هذا؟ معناه أنَّ ثمَّة "قوانين"، لم أخلقها لا أنا ولا البشر، لا بدَّ لي، أوَّلاً، من اكتشافها ومعرفتها. وبَعْدَ "وعي" هذه "الضرورة الطبيعية" أبحث عن "الوسائل والطرائق"، التي تسمح لي بـ "السيطرة" على "القانون الطبيعي الموضوعي" في طريقة تمكِّنني من اجتياز النهر. وقد ابْتَكِر أو اخْتَرِع بعضاً من تلك الوسائل والطرائق.

قَبْلَ، ومن أجل، أن أكون "حرَّاً"، ينبغي لي أن "أعي (وأكتشف)" هذا "القانون الموضوعي"، وأن أعمل، من ثمَّ، بما يتَّفِق معه، فأنا "أَخضع له" قَبْلَ ومن أجل أن "أُخْضعه لي"، و"أُسيطر عليه". هذا "القانون" لم أخْلقهُ إذ اكتشفته، ولن ألغيه إذ تحكَّمتُ فيه وسيطرتُ عليه.

الآن، والآن فحسب، أستطيع أن "أفعل ما أُريد"، أي أستطيع أن أكون حرَّاً في هذا المعنى فحسب، وفي هذه الناحية فحسب. إنَّ "القانون الطبيعي" يشبه وحشاً مفترساً، فإمَّا أن يفترسكَ وإمَّا أن تروِّضه.

وغني عن البيان أنَّ ترويضه لا يعني قتله. "فيضان النهر" كان، قديماً، من الوحوش المفترسة، فلم ينجح البشر في ترويض هذا الوحش؛ لأنَّهم لم يعرفوا الطريق القويم إلى ترويضه، فتوهموا أَنَّهم يستطيعون ذلك بـ "قوَّة" بعض "المعتقدات الدينية". وقد ظلَّوا عبيداً للنهر وفيضانه، يَحوِّلون عجزهم عن فهم الفيضان والسيطرة عليه إلى مزيدٍ من الاعتقاد بالمعجزات، حتى "وعوا" هذه "الضرورة الطبيعية"، وعرفوا كيف يسخِّرونها لهم من خلال بناء "السدود".

"القانون الطبيعي الموضوعي" نراه، دائماً، في "نتائج" كل فعل إنساني، أكانت هذه النتائج تنطوي على معنى"النجاح" أم على معنى "الفشل"، فـ "النجاح" هو أن تأتي "النتيجة" متَّفِقة مع "التوقُّع". وحتى تأتي "النتيجة" متَّفِقة مع "التوقُّع" لا بدَّ لـ "الفكرة" من أن تُوافِق "الواقع الموضوعي". وهذا التوافق يَظْهَر ويتأكَّد في حال واحدة فحسب هي أن تأتي "النتيجة" متَّفِقة مع "التوقُّع".

أمَّا "الفشل" فمعناه أنْ تذهب "النتيجة" بـ "التوقُّع". على أنَّ هذه "النتيجة السلبية"، أي النتيجة التي رأَيْنا فيها معنى "الفشل"، لم تَظْهَر عرضاً أو مصادفة، فـ "الضرورة الطبيعية (أو القانون الطبيعي الموضوعي)" هي التي جاءت بها، فهذه الضرورة كامنة في كل أفعالنا، وفي كل ما يتمخَّض عن أفعالنا من نتائج، أكانت هذه النتائج "نجاحاً" أم "فشلاً" بمعيار "التوقُّع".

من يَعْلَم "القانون الموضوعي" ويعمل بمقتضاه ينجح، أي يتوصَّل إلى "نتائج" تُوافِق "توقُّعه". ومن يجهل هذا القانون (ولا يعمل، بالتالي، بمقتضاه) يفشل، أي يأتي عمله بـ "نتائج" تذهب بـ "توقُّعه".

وهنا يكمن الفرق الجوهري بين "الحرِّية" و"العبودية"، بين "التخيير" و"التسيير". و"الحرِّية"، كما "المعرفة"، هي "سلَّم" يصعده الإنسان (البشر) درجة درجة، ولن يصل أبداً إلى نهايته (درجته العليا) لأن لا نهاية له.

والإنسان، الذي لا يُوْلَدُ حرَّاً على غير ما يتوهَّم كثيرون، لن يملكَ من "الحرِّية"، و"المعرفة"، أكثر مِمَّا ورثَ وأنْتَجَ، ولسوف يظل في صعود أبدي لا نهاية له من "العبودية" إلى "الحرِّية"، ومن "الجهل" إلى "المعرفة". هذا الإنسان الذي خرجَ توَّاً من رحم أُمِّه إنَّما هو "العبودية القصوى" و"الجهل الأقصى".

"الضرورة" تكمن في كل الأشياء والظواهر التي "نراها"، فما نشأ، أو ظَهَرَ، إنَّما هو ما اجتمعت "أسباب" وجوده، فوُجِدَ. أي شيء لا بدَّ له من أن ينشأ ويَظْهَر إذا ما اجتمعت وتهيَّأت أسباب وجوده.

هذه هي "الحتميَّة" التي لا ريب فيها، ولا يُشكِّك فيها إلا كل أعمى بصر وبصيرة. فالشيء الذي كان ينبغي له أن يُوْجَد ولكنَّه لم يُوْجَد إنَّما هو الشيء الذي لم يستوفِ أسباب وجوده التي لا يمكننا أن نحيط بها كلها عِلْماً، فبعضها اكتشفناه، وبعضها لم نكتشفه بَعْد.

والشيء الذي كان ينبغي له أن يُوْجَد ولكنَّه لم يُوْجَد إنَّما هو الشيء الذي أجْهَضَتْهُ "قوى وأسباب طارئة"، نسمِّيها "المصادَفة"، فهذه الشجرة كان ينبغي لها أن تُثْمِر عن قريب؛ لأنَّ أسباب إثمارها كادت أن تكتمل، ولكنَّها لم تُثْمِر؛ لأنَّ ريحاً عاتية قد اقتلعت جذرها. هذه الريح هي المثال الذي فيه يكمن معنى "المصادَفة".

"قوى المصادَفة"، أي تلك الريح، هي التي حالت بين الشجرة وبين إثمارها الحتمي إذ اقتلعت جذرها. ولكنَّ الريح ذاتها كانت من نسج "الحتميَّة" ولم تكن من نسج "المصادَفة"، فقد اجتمعت وتهيَّأت أسباب وجود هذه الريح فوُجِدَت. و"هلاك الشجرة ذاته" مع "الطريقة التي هلكت فيها" هو، أيضاً، من نسج "الحتميَّة"، فليس من "واقعة" لا تكمن فيها "الضرورة".

ونفي "الضرورة" إنَّما هو ذاته نفي "العِلْم"، فنفي "الضرورة" يفضي، حتماً، إلى القول بأنَّ "كل شيء ممكن"، فالماء في غليانه يمكن أن يتبخَّر، أو يتجمَّد، أو يتحوَّل إلى معدن الذهب، أو إلى كائن حي. وغليانه ذاته يمكن أن يَنْتُجَ من أي شيء. يمكن أن يَنْتُجَ، مثلاً، من "ثلج" نضعه في الماء.

كل "واقعة" إنَّما هي "نتيجة"، فليس من "واقعة" معدومة "الأسباب". وكل "نتيجة" هي، في الوقت ذاته، "سبب"، فكل "واقعة" تؤثِّر، ولا بدَّ لها من أن تؤثِّر، في غيرها من "الوقائع". على أنَّ مبدأ أو قانون "السببية" لا يكتمل معنىً إلا إذا فهمنا الطريقة التي بها تؤثِّر "النتيجة" في "سببها".

وعلى سبيل التوضيح نقول: في الاقتصاد، نرى أسعار البضائع تزداد ارتفاعاً. وهذه الظاهرة تُدْعى "الغلاء". وبَعْدَ حين، نرى أنَّ الأسعار شرعت تهبط بَعْدَ صعود بلغ نهايته، فليس من "تزايدٍ" لا نهاية له. فما الذي حوَّل "الغلاء" إلى "رخص"، وجَعَلَ "الأسعار" تهبط بَعْدَ صعود؟ إنَّ هذا "الغلاء"، أو هذا "الارتفاع في الأسعار"، هو الذي أنْتَج أسباب وعوامل "الرخص"، أو "الهبوط في الأسعار".

"السعر المرتفع" للبضاعة هو الذي يؤدِّي، حتماً، إلى تضاؤل "الطلب"، وإلى "زيادة العرض"، فـ "الربح العالي"، الذي يتضمنه "السعر العالي"، يشجِّع المستثمِرين على زيادة إنتاج هذه البضاعة الغالية.

نستنتج من ذلك أنَّ "السعر" لا يمكنه أن يرتفع من غير أن يُنْتِجَ ارتفاعه، في الوقت نفسه، الأسباب المؤدِّية حتماً إلى هبوطه. و"السعر" لا يمكنه أن يهبط من غير أن يُنْتِجَ، في الوقت نفسه، الأسباب المؤدِّية حتماً إلى ارتفاعه، فهذا "الهبوط"، أو "الرخص"، يزيد "الطلب"، ويحمل المستثمِرين على تقليل إنتاج هذه البضاعة الرخيصة.

إنَّ "الغلاء" هو الذي أنْتَجَ ما يلغيه، أي ما يُحوِّلهُ إلى "رخص". وإنَّ "الرخص" هو الذي أنْتَجَ ما يلغيه، أي ما يحوِّلهُ إلى "غلاء".

وهنا يكمن معنى "التطوُّر الذاتي" للشيء، والذي يتأثَّر، إيجاباً أو سلباً، بـ "العامل الخارجي"، فـ "الغلاء" في حدِّ ذاته يُنْتِجُ، حتماً، ما يؤدِّي إلى إلغائه، أي تحوُّله إلى "رخص". أمَّا "العامل الخارجي" فـ "يُسَهِّل" أو "يُصَعِّب" هذا "العمل" الذي يقوم به "الغلاء" من تلقاء نفسه.

وأحسب أنَّ "العِلْمِيَّة" في التفكير والنظر تدعونا إلى فهم الشيء، كل شيء، على أنَّه "المُنْتِج" من تلقاء نفسه للأسباب المؤدِّية، حتماً، إلى زواله، أي إلى تحوُّله إلى نقيضه.

ينبغي لنا، دائماً، أن نحاول معرفة "كيف يؤدِّي الشيء، أي كيف يؤدِّي وجوده ونموِّه وتطوِّره وتفاعُلِه مع غيره، إلى ما يلغيه"، فلو أنَّكَ، على سبيل المثال، حاولتَ معرفة الأسباب التي أدَّت، حتماً، إلى سقوط حجر قَذَفْتَهُ في الهواء لاكتَشَفْتَ أنَّ الحجر في ارتفاعه، وبارتفاعه، قد أنْتَجَ أسباب سقوطه، فالحجر ما كان ممكناً أن يرتفع من غير أن يُنْتِجَ، في الوقت نفسه، أسباب سقوطه.