الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٥٧ مساءً

«مولانا» التنويري.. الذي نُريد

إحسان الفقيه
الثلاثاء ، ٢٤ يناير ٢٠١٧ الساعة ١١:٠٣ مساءً
يقول المثل الصيني: «قل لي وسوف أنسى، أرني وربما أتذكّر، أشْرِكني وسوف أحفظ».
ربما كانت تلك الشراكة بين المُشاهد والدراما، التي تعني تصوير الفعل الإنساني، هي التي تنقش في أعماقه منظومة القيم والمفاهيم التي يتضمنها ذلك العمل، ذلك لأن الجمهور يعيش بحواسه مع الكلمة المُجسّدة، التي تُستخدم فيها لغة الجسد، أو التعبير غير اللفظي، وبخاصة إذا كانت تعبر عن «مأساة»، ولذا عندما تناول أرسطو الدراما عبر عنها بـ«المأساة» على اعتبار أنها الصيغة العليا للدراما.
الأعمال الدرامية بمختلف أنماطها، سواء أكانت مسرحية أم تلفزيونية أم سينمائية، لعبت دوراً بارزاً في تشكيل وعي الشعوب، وصناعة أنماط مختلفة من التفكير، وأسهمت بقوة في توجيه الرأي العام إزاء القضايا المختلفة.
شخصية العالِم أو الداعية الإسلامي، كان أحد العناصر البارزة التي تناولتها الدراما العربية وفقاً للتجاذبات الفكرية في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي تحكّمت في القوالب التي يظهر بها الداعية أو المُصلح الديني، لكنها في مُجملها تنحصر بين المدح والذم.
قليل من الأعمال الدرامية تناولت ذلك العنصر بأسلوب طرح النموذج، أي تقديم الصورة المثلى التي ينبغي أن يقدم بها الداعية نفسه، كان أبرزها وآخرها فيلم «مولانا». مولانا، الذي يجسده الفنان عمرو سعد، داعية مثقف يرفض الجمود وينفتح على الجماهير ويشق طريقه كأحد نجوم الفضائيات، وصاحب روح مرحة ودعابة، وكلها أمور طيبة لا تقدح في شخص الداعية، بل هي مطلوبة.
وبعيداً عن الاتهامات اللاذعة التي وُجّهت إلى الفيلم، والتي قطعت بأنه مؤدلج ضد علماء الدين، أتساءل: هل كان الفيلم مُوفّقاً في طرح نموذج الداعية الإسلامي؟
حقيقة، يصطدم سياق الفيلم بحواجز كثيرة تتعلق بالسيناريو ذاته، من فقدان الحبْكة، والتوظيف التقليدي الواضح للسيناريو بوصفه منصات رسائل تناولها كثير من النقّاد والمتابعين، لكن لفت نظري أمران، ربما كانا علامة فارقة في تقويم هذه الشخصية.
الأمر الأول: الجرأة على التراث، إذ خاضَ الشيخ حاتم الشناوي (مولانا) في صدر تاريخ الأمة، واعتبر أنه منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تحوّل الدين إلى سياسة ومصالح، ضارباً بعرض الحائط تلك الأحاديث النبوية الصحيحة التي تُبرز أفضلية جيل الصحابة والتابعين، وأن للخلفاء من بَعد النبي صلى الله عليه وسلم هَدياً مُتّبعاً، وغضّ نظره عن صرح الحضارة الإسلامية، التي بدأت في عهد الخلفاء بعد أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم قواعدها.
الثاني: الجرأة على الأحكام والنصوص وإخضاعها للعقل، مستدعياً الفكر المعتزلي، الذي يُقدم العقل على النقل، علماً بأن «العقل السليم والنص الصحيح لا يتعارضان». وإننا لنتساءل: لماذا يُفترض في الداعية العصري التنويري أن يثور على النص والتراث؟
لقد أصبحت تلك الثورة معيار الاعتدال والوسطية في الداعية الإسلامي لدى كثير من الأوساط والشرائح، فاحترام التراث وتبجيل النص النبوي الصحيح أصبح من سمات الدعاة المتخلفين المتحجّرين، صار الجُنوح والتطرّف الديني، الذي شكّلته عوامل مختلفة، فزاعة دفعت البعض للبحث عن صيغٍ جديدة يقدَّم من خلالها الدين وتفاصيل أهل التديّن «النموذج» ضمن قوالب تُلائم التعايش مع المنظومة الدولية والتبايُن الفكري والثقافي والحضاري، فتسرّب إلى نفوس بعض المسلمين أن الإسلام بالفعل هو منبع الإرهاب والتطرف، وأنه ينبغي تطويره لمصلحة التعايش الإنساني، وبهذا أصبح الإسلام مُتّهماً بما هو منه براء!
الكارثة الكبرى تكْمُن في عدم التفريق بين منهج الإسلام وسلوك بعض المُنتسبين إليه، فالمنهج في صورته النقية، التي جسّدها الرعيل الأول، حمل إلى البشرية كل معاني السلام والعدل والرحمة والوسطية، وكان علينا أن نصرخ بالعودة إلى النبع الأول، بدلاً من «الطنطنة» حول تطوير الخطاب الديني بمعناه المطاطي الذي يطاول ثوابت الدين.
كان ينبغي أن يكون الفكر التنويري دعوة للعودة إلى الأصل والمنبع لا الثورة عليهما، أن يكون ربطاً بالتراث لا انقطاعاً عنه.
لكن «مولانا» الداعية التنويري الذي قدّمه الفيلم يفتح الطريق أمام ردِّ كثير من الأحكام التي لم تثبُت إلا في السنة.
مولانا التنويري الذي قدّمه الفيلم، يخلط الأوراق، يزيل الحدود الفاصلة بين إعمال العقل والغلو فيه. مولانا التنويري الذي قدّمه الفيلم، يطرح ما تهواه الأذواق ويرضاه الجمهور، لا ما يفيد الناس وينفعهم.
إذاً، من هو الداعية الذي يصلح أن يكون «مولانا» التنويري؟
هو الداعية المُنفتح الذي يستوعب الخلاف والمخالفين ويتسع صدره للحوار، نعم.
هو الذي يصل بخطابه إلى حاجة الناس ولا ينفصل بهم عن واقعهم، نعم.
هو الذي يخرج على القولبة والنمطية والجمود، نعم.
هو الذي لا يُضيّق واسعاً، ولا يحجُر على الآراء المخالفة التي تستند إلى أدلة صحيحة واجتهادات تقع وفق آليات وضوابط الاجتهاد، نعم.
هو الداعية المُتبسّط الودود الذي يُشعر الجمهور بأنه واحد منهم، وأنه لا يحمل سلطة كهنوتية، وهو الداعية الذي يهتم بمظهره، ويُظهر للناس جمال الدين في الاهتمام بتلك الخِلْقة التي كرمها الله تعالى، لكنه في الوقت نفسه هو الداعية الذي لا يخلط بين الثوابت والمتغيرات، يفرّق بين أصول الدين وفروعه.
هو الداعية الذي يحترم العقل ويقدّس صحيح النص في آن واحد، ويُنزل العقل منزلته ويوظفه في ما خلق له من فهم النصوص والوصول إلى الحق.
هو الداعية الذي يُوقّر رموز الأمة ويأخذ الناس إلى تلك المساحة بلا غلو ولا مغالاة. هو الداعية الذي يُراعي فقه الأولويات، وعلى هذا الأساس يطرح مادته. هو الداعية الذي يُوسّع على الناس ولا يتوسع معهم في قاعدة سد الذرائع إلا بحقها، فإنما «العلم رخصة من ثقة»، كما قال ابن المبارك.
هو الداعية الذي يهتم بإصلاح الناس لا الحكم عليهم، فإنما أهل العلم دعاة لا قضاة.
هو الداعية الذي يربط بين الدين وبين الإعمار والرقي والازدهار والنهوض.
هو الداعية الذي يقدم للناس حلولاً عملية، لا أن يختزل لهم الحل في أن يقول: «اتقوا الله».
هو الداعية الذي يصون لسانه عن التجريح واحتراف التصنيف.
هو الداعية الذي يطرح الإسلام بشموليته، ولا يجعل القوم أسارى دائرة مغلقة.
هو الداعية الذي يُطوّر خطابه الدعوي بما يتناسب مع روح العصر، وبما يتلاءم مع نوعية الشرائح التي يخاطبها.
هو الداعية الذي يبحث عن دوائر الالتقاء ويعززها، لا أن يكون همَّه الطَّرْقُ على حدود الخلاف.
هو ذلك الداعية، وهو مولانا التنويري الذي نريد.


"الحياة"