الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٥١ مساءً

لماذا ننهض بالسعودية لغير السعوديين؟

جمال خاشقجي
السبت ، ٠٢ يناير ٢٠١٦ الساعة ١٠:٢٠ صباحاً
حضر الزميل الكاتب في هذه الصحيفة فهد الدغيثر ورشة «التحول الوطني» التي دشنت إطلاع الرأي العام السعودي على أهم خطة تطوير وتنمية ستشهدها المملكة، ويتوقع أن تعلن تفاصيلها رسمياً خلال أسابيع قليلة.
عاد منها متحمساً، فهو يلح دوماً على ضرورة الإصلاح ورفع الإنتاجية في جل مقالاته وبين أصدقائه. لكنه طرح في مقالته أهم سؤال وتحدٍّ يواجه الخطة. سؤال مباشر ودقيق: «ما الحاجة إلى دفع مرتب 8 آلاف ريال لشاب سعودي إذا كان هناك من يقوم بالمهمة بألفي ريال من إحدى دول آسيا؟».
الإجابة عن هذا السؤال ستحدد أي مسار سيغلب في الخطة، إذ ان الأهداف الكبرى متداخلة، فهي تريد تقليص الاعتماد على النفط بتنويع مصادر الدخل ومضاعفة الناتج القومي، ما يؤدي إلى توفير 6 ملايين وظيفة (للمواطنين طبعاً) مع تحسين جودة الحياة (للمواطنين طبعاً).
وتعمدت أن أكرر «للمواطنين»، لأنه ما من زعيم سياسي في أي بلد إلا ويسعى إلى تحسين حياة مواطنيه أولاً. إنها حقيقة جلية، ولكن عندما يكون ثلث المقيمين في المملكة العربية السعودية من غير المواطنين، فإن ذكر ذلك ضروري.
هذه المسألة حضرت بقوة مرة أخرى مع إعلان الموازنة السعودية الاثنين الماضي، والتي اختلفت عن أي موازنة سابقة، إذ بدت أكثر بمثابة مقدمة لخطة تنموية أكبر سميت بـ «مشروع التحول الوطني». وهي الخطة التي يقودها ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وخصها الأستاذ الدغيثر بمقالته وفصلها في شكل دقيق.
شملت الموازنة والقرارات التي واكبتها أوامر برفع كلفة البنزين وشتى المحروقات، إضافة إلى الكهرباء والماء، أو بلغة أخرى «خفض الدعم» عنها، وبالطبع سيتأثر بها السعودي والمقيم، وبالتأكيد لا يمكن التفريق بينهما بوصفهما مستهلكيَن يقيمان في البلاد نفسها، ولكن الذي يهم الدولة سياسياً هو إرضاء مواطنيها وخدمتهم لا إرضاء غيرهم، وربما لو استطاع أحد أن يأتي بصيغة محاسبية ترفع الدعم كاملاً عن الخدمات الموجهة إلى المقيمين بالكامل لحققت الموازنة السعودية وفورات هائلة، ولكن لا يمكن ذلك محاسبياً، وسيكون غير صحيح سياسياً.
بالتالي لا يملك المخطط الاقتصادي في وزارة التخطيط السعودية غير التعامل مع رقم الـ30 مليوناً، مواطنين ومقيمين، عندما يحسب الإنفاق المترتب على الخدمات وتحلية المياه ودعم المحروقات والكهرباء وعدد السيارات والطرق والنقل العام والمباني والإسكان. لكن حبذا لو نطرح السؤال الجريء: «كم وكيف ستتغير خططنا؟ وما حجم التوفير الذي ستحققه الدولة لو نجحنا في تنفيذ التوجيه القديم الصادر عن مجلس الوزراء قبل نحو عقد من الزمن بألا يزيد عدد المقيمين في المملكة على 20 في المئة من عدد السكان؟».
حينها سيُعاد رسم كل الخطط. وربما تعود «خطة التحول الوطني» إلى ورش العمل للتخطيط لسعودية قوامها 24 مليون إنسان، وليس السعودية الهائلة التي يقطنها اليوم أكثر من 30 مليوناً، متجاوزة بذلك «البصمة البيئية» التي قدرها الله لها بأضعاف عدة، ولا تزال مطاراتها تستقبل يومياً مزيداً ومزيداً من العمالة الوافدة.
لكن على المخطط الاقتصادي نفسه في الوزارة أن يحسب تداعيات ارتفاع أسعار السلع والخدمات بعد قرار رفع أسعار المحروقات. سيكون ذلك محتملاً لو توجهت هذه الزيادة إلى جيوب مواطنين في قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، إذ ستدخل حينها في دورة رأس المال الوطني، وتنعكس أرقاماً إيجابية في الناتج القومي كما تريد خطة التحول. لكنها ستتوجه إلى جيوب عمالة وافدة وأجانب يملكون مساحة كبيرة في قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة من خلال التستر، وشيئاً شحيحاً من المال ينتهي إلى السعوديين الطفيليين الذين يتسترون على هؤلاء في مقابل تأجير هويتهم وسجلهم التجاري وللأسف حصتهم من الوطن. سينعكس ذلك بالتأكيد نهاية هذا العام في قيمة الحوالات الخارجية، عندما نقارن بلايينها التي تمت في العام 2015 بتلك التي جرت في العام 2016.
فلماذا نبقي هذا التشوه في اقتصادنا؟
سيقول قائل: «وكيف يمكن أن نزيد الإنتاج ونضاعف الدخل القومي من دون هذه العمالة؟». هنا مكمن المعضلة التي تحتاج إلى توازن بين مزيد من المصانع والمزارع والخدمات وزيادة إنتاج، ومعها زيادة في أعداد العمالة الوافدة، وتحميل أكبر على موازنة الدعم والبنية التحتية. يجب أن نقتنع بأن هذه العمالة لا تستولي فقط على وظائف السعوديين. إنها تفعل ذلك ومعه ما هو أسوأ، حين تحول بينهم وبين اكتساب المهارات التي تصعدهم إلى درجات أخرى في الوظائف والتجارة والكسب. من هو في السوق يكسب الخبرة، ومن هو خارجها يخسرها، كالفرق بين طالب في مدرسة وآخر محروم منها.
بيئة العمل في السعودية منذ استيلاء الوافدين عليها قبل ثلاثة عقود، أضحت بيئتهم. السعودي الطموح غريب فيها. إنه سمكة مياه حلوة تخوض بحراً مالحاً أو العكس، لم يعودوا مجرد عامل بقالة تحول إلى مالك بصيغة التستر، ولا عامل في مصنع. إنهم يكتسبون الخبرة، ويستقلون لاحقاً بأعمالهم الخاصة. يصعدون إلى أعلى ويتحولون إلى ملاّك. ونحن السعوديين تعودنا أكثر فأكثر عليهم. مضوا إلى الأعلى بجوارنا. لكل مدير سعودي مساعد أجنبي، يصبح تدريجاً هو الذي يعرف أكثر. تجدهم الآن في شركات المحاسبة والمحاماة، بل حتى في الدوائر الحكومية، في شكل خبير متعاقد يفاوض ويصوغ العقود ويراجعها، بل يضع حتى الخطط للمستقبل، ولعل بعضها معني بتوظيف السعوديين.
يجب أن تتصدر هذه المسألة «خطة التحول الوطني» بكل حساسيتها وتداخلاتها السياسية. وتصبح قضية وطنية أهم من غضب رجل أعمال متنفذ يصرخ قائلاً: «هكذا ستقضون على الصناعة السعودية! ألا يكفي أن رفعتم أسعار اللقيم الذي كان يساعدنا في التنافس عالمياً؟ ستضطروننا إلى حمل مصانعنا ونرحل». لِيقُلْ له مسؤول كبير: افعل. فأي مصنع لم يصمم لتشغيل سعوديين ويحتاج دوماً إلى طاقة مدعومة من الدولة لا نريده. يصرخ مزارع كبير: «ومن أين آتي بعمالة سعودية تقبل ألف ريال في الشهر؟». لنقُلْ له: لا نريد مزيداً من المزارع التي لا تقوم إلا بسواعد عمالة رخيصة. إنكم ابتداء تستهلكون ماء ثميناً، كان الأحرى أن نحتفظ به أو نحليه بأقل من كلفة تحلية مياه البحر، ونشربه، أو نحتفظ به في الأرض لجيل يأتي من بعدنا ويلعننا عندما يموت عطشاً.
ثالث يصرخ: «ماذا عن الأمن القومي، أين شعار نأكل ما نزرع ونلبس ما نصنع؟». لِنقُلْ له: هذا كلام عتيق، فاتفاق التجارة العالمية فتح لنا ولغيرنا أسواق العالم كله، ولم يعد أحد يحتكر سلعة أو صناعة. أبحث عما تقيم به صناعتك أو زراعتك من دون عمالة وافدة أو دعم أكبر مما يستطيع اقتصاد البلد.
يجب أن نضع خطة موازية لمشروع «التحول الوطني» لتحرير السوق والاقتصاد السعودي من العمالة الوافدة. لتكن متدرجة عادلة، لكن المهم أن نبدأ. لا يعني ذلك أن ننغلق على ذاتنا. لنرحب بالأجانب الذين يضيفون ميزة حدية إلى اقتصادنا، مثلما يفعل الأميركي والأوروبي. فرغم أرقام المهاجرين التي تبدو كبيرة فإنها بلغت أقصاها 12 في المئة في الولايات المتحدة وألمانيا، وبقية الدول دون ذلك بكثير. أما نحن فالثُلث، والثُلث كثير.
إنها معركة طويلة وصعبة، لكن لن نكسبها إلا حين نؤمن بأن الاقتصاد الذي يقوم على سواعد غير أبناء الوطن من أسفله إلى أعلاه ليس بالاقتصاد الصحي القابل للاستمرار، فنحن دولة مترامية الأطراف بكل تعقيدات الدول الكبرى، ولسنا مدينة في دولة.
إذاً لا يجوز أن ننهض بالسعودية لغير السعوديين.

* الحياة السعودية