الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٥٣ صباحاً

إيقاعات وجدانية ,,,, من وحي الثورة (3)

عباس القاضي
الثلاثاء ، ٢٢ نوفمبر ٢٠١١ الساعة ٠٣:٤٠ مساءً
يستعد عبده غَبَش لتنفيذ ما وعَدَ به الرجل . خطوات تفصل بيته عن المسجد لكنها بمقاييس القلوب تعني آلاف الأميال, وأول عقبة يواجهها ملابسه التي لا تعرف الماء, إلا في موسم الأمطار, إذا صادفه المطر, وهو في طريقه إلى البيت, فتصاب ثيابه بالبلل, فيعتبر ذلك غسولا لثيابه , والتي تتكون من قميص(شميز) ومئزر, أما الوضوء فهو وإن سمع به إلا أنه لا يعرف كيفيته, كل ما يعرفه أن من يذهب إلى المسجد يجب عليه أن يغسل وجهه وقدميه وهذا ما فعل.

لبس عبده غَبَش ثيابه التي أصابها المطر في الموسم الماضي, وأصلح من الغترة( الشال) التي لا يُعرَف لونُها الأصلي لتعتمرَ رأسه, ثم خرج من بيته, يبدأ أول خطوة نحو الحياة كما وصفها سابقا , في ذهابه إلى المسجد. كان يمشي ببطء, لا سكينة ولا خشوعا, ولكن خوفا ورهبة من الآتي, كيف يتصرف قولا وفعلا, وهو الذي لم يدخل مسجدا قط, قرر أن يمشي على هيأته هذه حتى إذا ما رأى رجلا يقترب من المسجد أسرع خلفه, فيدخل بعده ويفعل مثلما يفعل الرجل, وفعلا رأى رجلا يحث الخطى إلى المسجد, فكأنما رأى صيدا ثمينا, باعد بين خطاه ليلحق به, دخل الرجل المسجد و عبده غَبَش خلفه, ثم جعله أمامه إلى اليسار قليلا, رفع الرجل يديه لتكبيرة الإحرام , فرفع عبده غَبَش مثله, ثم أسقط يديه وجعلهما فوق صدره ليس مُهِمًا من هي فوق الأخرى, وكان عليه أن يقرأ في سره وهنا تذكر آية سمعها في عزاء الحاج مالك قبل ست سنوات من المقرئ الشيخ / محمد حسين عامر- رحمه الله – وهو يقرأ سورة " النازعات " فحفظ مطلع السورة ,والنازعات غرقا , فمازالت هذه الآية تطن في أذنه, أسعفته هذه الآية في هذا الموقف الذي لم يكن في حسبانه, وظل يرد الآية : والنازعات غرقا, والنازعات غرقا, والنازعات غرقا, حتى رأى الرجل يركع, فركع مثله, مرددا والنازعات غرقا, في ركوعه, وكان يَشقُر( ينظر خفية ) الرجل بعينيه ليرى ما هي الحركة التالية, رفع الرجل من الركوع ففعل مثله , وهكذا حتى سلم الرجل, وسلم مثله, انتظر قليلا حتى أقيمت الصلاة واستوت الصفوف, فظل يتأخر, حتى استوى آخر صف وفرد, وفَضَّل أن يكون الجدار على يمينه, هذه المرة القرآة جهرية وهي على الإمام , حتى إذا ما قال المأمومين: آمين, صاح بعدهم : آمين, في الركعة الثالثة قرأ والنازعات غرقا, وكذالك في ركوعه وقيامه وسجوده وتشهده, ليس معه غير هذه الآية, بعد الصلاة يرى الناس يتمتمون, فقال لنفسه :هذا دعاء, استحضر ما كان قد حفظه منذ أن كان صغيرا يتسول, وبدأ يدعو هامسا : الله يسترك, الله يعافيك, الله يحفظك, الله يجنبك المصائب, الله يصلح لك أولادك, يا محسنين, يا مصلين على النبي.
قام الناس يؤدون الراتبة, ففعل كما فعل المرة الأولى من تقليد شخص كان أمامه.

ثم كان الدرس في تزكية النفوس ودواء القلوب, وعبده غبش يقول في نفسه لو أنه يعلمنا الصلاة والاستعداد لها, وكان الذي يلقي الدرس لديه فراسة المؤمن, وهو يَجول في بصره على الحضور رآه وهو ساهم النظر والحيرة بادية عليه, خاصة عندما لاحظ شيئا نفذ إلى قلبه, وهي دمعة تنساب من عين عبده غبش, وكأنها تتوسله لتلبية حاجته, قطع الدرس ونادى ذلك الشيخ الذي دعا عبده غبش إلى المسجد وضنه ملك الموت, وهمس في أذنه, ثم عاد لمواصلة الدرس بينما الشيخ اتجه نحو ه, ومد يساره إلى يمين عبده غبش ليستنهضه, فقال له: ماذا تريد ؟ قال الشيخ: تعال معي, أكلمك منفردا, فذهب معه إلى زاوية من زوايا المسجد, وجلس بين يدي الشيخ , فقال له الشيخ : ما حاجتك ؟ بما ذا تفكر ؟ وهنا أجهش عبده غبش بالبكاء قائلا : أنا فداك أنا عند الله وعندك أريد منك أن تعلمني الصلاة, ماذا أقول وماذا أفعل؟؟ أحس أن قلبي يكاد يطير شوقا لأن أصليَ مثلَكم, وأنا خدَّامكم ثلاثين سنة -هي كل عمري - من أجل الدنيا مقابل الفتات سأخدمكم بقية عمري من أجل ديني, أريد أن أعود إلى الصندقة التي أسكن فيها وأُعَلِّم زوجتي علياء, أنا أحبها يا شيخ لقد تركََت أهلها من أجلي, أريدها أن تكون معي في الآخرة.

تأثر الشيخ بكلام عبده غبش أيما تأثير حتى دمعت عيناه وقاسَمَه أن لا ينام ليلته تلك حتى يعَلِّمه ويحفِّضه ما يجب, من أجل إتمامها, قال له : أخي عبده, نعود الآن لنستمع بقية الدرس, ثم نصلي العشاء بعده نبدأ التدريب والتحفيظ حتى تحسن أداء الصلاة.

عادوا إلى الدرس ولكن كلمة هزت كيانه وهي كلمة أخي قالها الشيخ من قلب صادق جعلته يحس أنه أنتقل إلى مستوى لم تكن على باله, أحس بنشوة أحس بغبطة , وهنا أدرك أنه كان موفقا عندما قال لزوجته علياء: إن الطريق إلى المسجد هو الطريق إلى الحياة.

نترك عبده غبش وهو في هذا الوجد وهذا الشوق للآتي وإلى مرحلة جديدة في حياته , لنركِّز على تلك الكلمة التي خرجت من فم الشيخ بتلقائية وعفوية وصدق فهزت كيانه ,لنقارنها بنفس اللفظ يا أخيييي الذي يقولها " القمعري " عندما يخاطب أحد الفرقاء السياسيين ولكنها تخرج من فمه كلدغة الأفعى, وكما يقولها ابنه صاحب الكيس الدعاية والذي لا يشبه أباه

شكلا , وإنما يشبهه سلوكا , عندما يواجهه أحدهم , فيقول له : أنا لا يمكن أن أتآمر عليك, فأنت عندي مثل أخي, ولكنه يدرك هذا أنها كانت سُمًّا زُعافًا