في ذكرى مولده الثمانين التي حلت في هذا العام 2017 كتب شاعر اليمن عبدالعزيز المقالح أحدث قصائده التي يبدو أنه تمثل فيها قصيدة الشاعر الجاهلي زهير بن أبى سلمى التي يقول فيها “سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش، ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ”.
بدا أن المقالح أيضا أدركه السأم وأثقل قلبه الحزن وهو يودّع 2016 ببكائية رثى فيها وطنه المكلوم بالحرب والصراعات وانهيار الأمثولات الجميلة في الحياة والبشر التي رافقته لعقوده الثمانية، قبل أن يراها تذوي أمام عينيه مثل زهرة ربيعية داهمها الخريف على عجل.
لكنّ حزن الشاعر وسنيّه الثمانين التي رسم فيها أحلام بلاده وحنينه إلى القرية والأصدقاء والمدن، لم يشفعا له أمام موجة الاصطفافات التي تجتاح اليمن، والتي جعلت المقالح، لمرة أخيرة ربما، هدفا للتخوين وهو في ثمالات عمره، بعد أن ظل ضحية للتكفير لمرات متتالية في مسيرته الثقافية شاعرا وناقدا ملأ الدنيا وشغل الناس.
ولد عبدالعزيز صالح المقالح عام 1937 في قرية والدته “الصول”، وهي إحدى قرى محافظة إب التي يطلق عليها اليمنيون “اللواء الأخضر” لخضرتها الدائمة وجمال طبيعتها على مدار العام. وفي هذه الأجواء بدأ حياته طفلاً قروياً ميالاً إلى المناظر الطبيعية وشغوفاً بالحكايات التي ترويها العجائز ويحفها اللون الأخضر من كل الجهات.
قضى ست سنوات فقط من عمره هناك، قبل أن ينتقل إلى صنعاء. لكن تلك السنوات القليلة ظلت غائرة في أقصى زوايا ذاكرة الشاعر الذي عاد ليسترجعها في العام 2000 من خلال ديوانه “كتاب القرية” الذي شارك القراء من خلاله ذكرياته الدفينة، وعوالمه التي وصفها مرارا بأنها الأكثر دهشة واكتشافا واختزالا لتفاصيل حياتية جديدة.
عن رحلته بين عالمين من القرية إلى المدينة يقول “الصورة الأولى التي التقطتها الذاكرة لصنعاء كانت في الظهيرة حين لمحتها، من على ظهر الجمل الذي حملني في رحلة السفر الأولى من قريتي إلى صنعاء. وعندما اقتربنا منها وبدأت نوافذ البيوت تتضح بجلاء هبطت من ظهر الجمل وبدأت أسير على ترابها الناعم بقدميّ العاريتين”.
نشأ عشق المقالح للكتابة والقراءة منذ الطفولة، حيث كان لديه هوى جارف نحو الكلمات المكتوبة، والفضل في ذلك يعود إلى مكتبة والده التي كانت تزخر بكتب التراث إلى جانب نماذج من الكتابات المعاصرة في ذلك الحين، وقد تأثر كثيراً بما قرأه في تلك المكتبة التي شكلت ثقافته وتكوينه وزرعت فيه بذرة الكتابة التي اكتسبها من التنقل بين دفات الكتب التي قضى أيامه المعرفية الأولى بين جنباتها.
وعن تلك التجربة يقول “أتذكر أن من بين هذه الكتب ‘مقامات بديع الزمان الهمداني’ و’مقامات الحريري’ وبعض كتب الجاحظ إلى جانب كتب السير الشعبية وكان أهمها بالنسبة إليّ سيرة ‘سيف بن ذي يزن’ التي امتلكت مشاعري الغضة في وقت مبكر وتجلت آثارها في ما بعد في ديوان ‘رسالة الى سيف بن ذي يزن’ وزادت الصلة بيني وبين الكتاب عبر مراحل الدراسة غير المنظمة ثم الدراسة المنظمة التي بدأت في الجامعة وما تلاها من مراحل الدراسات العليا”.
في قلب المشهد
بدأ المقالح كتابة الشعر في منتصف الخمسينات، وترافق ذلك مع اشتغاله في إذاعة صنعاء حيث تنسب إليه الكثير من الشهادات أنه قام بإذاعة البيان الأول لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 وقد ساهم مبكراً في نشر الوعي الثوري والأدبي في اليمن، لكنّ دواوينه الشعرية وكتاباته ظلت قيد الدفاتر ولم يهيأ لها النشر إلا بعد انتقاله إلى مصر.
أصدر عددا من الدواوين في الفترة القاهرية، وكان واضحا عليها آثار الحنين لوطنه ومن تلك الأعمال “لا بد من صنعاء” (1971)، “مأرب يتكلّم” بالاشتراك مع السفير عبده عثمان (1972)، “رسالة إلى سيف بن ذي يزن” (1973)، “هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي” (1974)، “عودة وضاح اليمن” وقد صدر في السنة التي سبقت عودته لصنعاء مجددا في العام 1976.
توغل المقالح في المشهد الأدبي المصري في الوقت الذي كان يستكمل فيها دراساته الأكاديمية حتى حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس في العام 1977. وقد شكلت فترة القاهرة التي امتدت من منتصف الستينات من القرن العشرين إلى سنة 1977 المرحلة الثانية المهمة في تكوينه وفتحت لها آفاقا جديدة ولا متناهية نحو القراءة والكتابة والعيش في حميمية المشهد الثقافي العربي والصالونات الأدبية وحتى المعارك الثقافية والنقدية والجدل حول الأنماط والأشكال الأدبية التي كانت في ذروتها في تلك الفترة الزاخرة من حياته والتي تحدث عنها في إحدى اللقاءات الصحافية قائلاً “لقد كانت فترة الدراسة في القاهرة بمثابة البوابة الواسعة على الآداب بمختلف أشكالها، كما كانت وسيلة مثالية للتعرف على الشعراء والكتاب ليس في مصر العربية وحدها، وإنما في معظم الأقطار العربية، فقد كانت القاهرة في الستينات والسبعينات ملتقى دائما للأدباء العرب من كل الأقطار. فكما تعرفت على صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبوسنة وحلمي سالم وحسين طلب وآخرين، فقد تعرفت أيضا على عدد من الشعراء العرب منهم الراحلون عبدالوهاب البياتي ونزار قباني وشفيق الكمالي، كما تعرفت على عدد من الشعراء الأحياء أمثال حميد سعيد من العراق وعلي كنعان وعلي الجندي ومحمد عمران من سوريا، وتعرفت أيضا على الشاعرة والناقدة المتميزة نازك الملائكة وعلى شعراء من المغرب ومن تونس وليبيا والسودان ولبنان، وكان لهذا كله أثره الكبير في اتساع دائرة الاهتمامات الأدبية شعراً ونقداً ومازلت حتى هذه اللحظة أغترف من معين اثنين أولهما الطفولة وثانيهما معين القاهرة”.
بوابة اليمن الثقافية
عاد المقالح إلى وطنه وانخرط في تدريس الأدب بجامعة صنعاء حتى شغل منصب أستاذ الأدب والنقد الحديث في كلية الآداب بجامعة صنعاء بدرجة أستاذ في العام 1987.
اتسمت تلك المرحلة إثر عودته من القاهرة إلى صنعاء بتكريسه كواحد من أهمّ الشعراء والكتاب العرب في القرن العشرين وبوصفه بوابة اليمن الثقافية، كما مكّنته علاقاته الواسعة بالمثقفين والكتاب والأكاديميين العرب من تقديم خدمات كبيرة للمشهد الثقافي اليمني، وفي المقابل احتضان العديد من الأدباء والمثقفين العرب الذين شهدت بلدانهم اضطرابات في فترات لاحقة.
لقد كانت مهمته أيسر من خلال تبوّئه العديد من المناصب الأكاديمية والثقافية في اليمن مثل تولّيه رئاسة جامعة صنعاء ما بين عامي 1982 و2001، إلى جانب رئاسته لمركز الدراسات والبحوث اليمني الذي لازال فيه حتى اليوم، والمستشار الثقافي للرئاسة اليمنية ورئاسة مجمع اللغة العربية في اليمن.
حظي المقالح بتقدير مماثل على الصعيدين العربي والدولي من خلال اختياره كعضو في مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق وعضوية مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، وعضوية الأكاديمية الدولية للشعر في إيطاليا.
وطيلة توليه لتلك المناصب، عمل على جذب كثير من الأكاديميين والمثقفين والكتاب والمبدعين العرب إلى اليمن وكان ذلك وفقا لبعض الناشطين في المشهد الثقافي اليمني إنجازاً يوازي إنجازاته في الإبداع والتأليف، حيث أثرى المكتبة اليمنية والعربية بحوالي خمسة وأربعين كتاباً بين إبداعات شعرية ومؤلفات أدبية ونقدية وثقافية، ومثّل اليمن في معظم المؤسسات والمجاميع الثقافية العربية.
ونال العديد من الأوسمة والدروع والجوائز اليمنية والعربية والعالمية مثل جائزة اللوتس في العام 1986، وأوسمة الفنون والآداب في شطري اليمن قبل الوحدة، وحصل على جائزة الثقافة العربية، من اليونسكو في باريس في العام 2002 وجائزة الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية في العام 2003. وجائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) خلال العام 2004، وجائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في العام 2010.
تكفير وتخوين
على الرغم من الإنجازات الأدبية والثقافية التي حققها المقالح والاحتفاء العربي والعالمي بمنجزه الأدبي، إلا أن حياته لم تخل من الكثير من المنغّصات الخاصة، فعبر رحلته مع الكتابة والتنوير والريادة، كان وبصفته رئيسا لجامعة صنعاء ورئيساً لمركز الدراسات والبحوث اليمني، طوال الوقت هدفاً للجماعات السلفية والإخوانية التي ما فتئت تكفّره وتخرجه من الملّة والدين وقد كفّر أربع مرات بين مطلع ثمانينات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
المرة الأولى كانت في العام 1984 حين شنت جماعة الإخوان المسلمين حربا شعواء ضده وقتذاك في جميع أنحاء اليمن بسبب قصيدة له ورد فيها لفظ الجلالة مقترنا بالرماد في سياق انتقاد مظاهر الفساد والتي قال فيها “كان الله قديماً حباً كان سحابة كان نهاراً في الليلِ وصار الله رماداً صماً رعباً في كف الجلادين”.
المرة الثانية سنة 1988 وقد كانت الجماعات السلفية وراء التكفير هذه المرة، حيث صدر كتاب للشيخ عوض القرني تحت عنوان “الحداثة في ميزان الإسلام “، وفيه تم استهداف المقالح بالتكفير الصريح.
والمرة الثالثة تم تكفير المقالح بسبب تأليفه لكتاب “قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة في اليمن”، وكان ذلك في ثمانينات القرن الماضي أيضا.
أما المرة الرابعة فكانت سنة 2004 عشية إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية، وبُعيد اختتام مؤتمر “حوار الحضارات” الذي شهدته صنعاء ودعا فيه إلى “تعزيز الحوار الثقافي والحضاري” وإلى “نشر قيم التفاهم والتسامح” و”إشاعة ثقافة السلام ورفض ثقافتي العنف والتكفير”.
وقد كان وقع تكفير المقالح في المرة الرابعة بمثابة صدمة قوية للكتّاب والمثقفين اليمنيين فقد صار رمزاً يمنياً وعربيا وإنسانياً كبيراً وكانت المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون وقتذاك قد كرّمته بدرعها “تقديراً لإسهاماته المتميزة في حقل الأدب والثقافة”.
لكن الجماعات المتطرفة “كافأته” مكفّرة إياه بصلافة مفضوحة، كما يقول الناقد العربي عبده وازن، الذي علّق يومها على تلك الحادثة في مقاله بعنوان “ماذا يعني تكفير الشاعر عبدالعزيز المقالح؟”، مضيفا “بدا للمثقّفين اليمنيين والعرب أن هذا التكفير، الذي كان يبدو حلقة من حلقات التكفير التي طالت مفكرين عرباً كثراً، يبدو في حالة المقالح أمراً (اعتباطياً) وظلامياً بحق. فالمقالح شاعر أولاً وأخيراً وناقد أدبي ومثقف طليعي ولا علاقة له بالسجال الديني أو الفقهي الذي يثير حفيظة الأصوليين المتشددين والمتعصبين، ولا يمكن أن يؤخذ عليه أيّ كفر أو تجديف، بل هو من المتأثرين بالصوفية والفلسفة الدينية والميتافيزيقية، ومن المعتقدين بإنسانية الإنسان وبالصفاء الروحي والقدرة الإلهية”.
وترافقت حملات التكفير التي طالت المقالح مع ما يمكن أن توصف بأنها مرحلة التمرد على الشكل والمضمون في تجربته الشعرية، وهي المرحلة التي شهدت صدور أكثر أعماله إثارة للجدل مثل ديوان “الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل” (1978) و”الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة” (1981)، “أوراق الجسد العائد من الموت” (1986)، قبل أن تبدأ مرحلة أخرى يمكن أن نطلق عليها مرحلة التأمل والتصوف واستعادة الذكريات في شعر المقالح والتي جاءت بعد توقف وبدأت من ديوانه “أبجدية الروح” (1998)، “كتاب صنعاء” (1999)، “كتاب القرية” (2000)، “كتاب الأصدقاء” (2002)، “كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان” (2004)، “كتاب المدن” (2005).
ورغم ذلك ومنذ عودته من القاهرة في سبعينات القرن العشرين لم يغادر المقالح صنعاء، حتى أشيع عنه الخوف من الطيران، لكنه فضّل كما يبدو الاكتفاء بتحليقه الشعري الذي وصل من خلاله إلى أماكن لا تصلها الطائرات.
لحظة صمت وبكاء
لازال يمارس عادته اليومية في قضاء وقته بين منزله ومكتبه، يتابع أخبار الحرب في بلاده بأسى بالغ، يرفض محاولات استقطابه أو انتزاع أيّ موقف منه لصالح أيّ طرف، كما لا يجهد نفسه في نفي القصائد السياسية المنتحلة التي تنسب له بين تارة وأخرى، لكنه وعلى الرغم من صمته البليغ والمعبّر، لم يلق ما يستحقه من احترام المتحاربين الذين لم يقفوا لحظة تأمل بمحراب صمته ووقاره وسكينته التي تليق بمفكر وشاعر في الثمانين من عمره، كما لم يحترموا فلسفته الخاصة في الشعر والحياة، التي تأبى مجاراة كاتب مأجور يحاول استدراجه لمعركة لا تليق برجل يقضي آخر أيامه في البكاء على أطلال وطن وترديد مناجاته الأخيرة ربما:
دثّريني
وشدِّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحدٌ من ضحايا الحروب
التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:
الحروبُ إذا دخلت قريةً
أكلتْ أهلها الطيبين
ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ
أو شجرْ.
بدا أن المقالح أيضا أدركه السأم وأثقل قلبه الحزن وهو يودّع 2016 ببكائية رثى فيها وطنه المكلوم بالحرب والصراعات وانهيار الأمثولات الجميلة في الحياة والبشر التي رافقته لعقوده الثمانية، قبل أن يراها تذوي أمام عينيه مثل زهرة ربيعية داهمها الخريف على عجل.
لكنّ حزن الشاعر وسنيّه الثمانين التي رسم فيها أحلام بلاده وحنينه إلى القرية والأصدقاء والمدن، لم يشفعا له أمام موجة الاصطفافات التي تجتاح اليمن، والتي جعلت المقالح، لمرة أخيرة ربما، هدفا للتخوين وهو في ثمالات عمره، بعد أن ظل ضحية للتكفير لمرات متتالية في مسيرته الثقافية شاعرا وناقدا ملأ الدنيا وشغل الناس.
ولد عبدالعزيز صالح المقالح عام 1937 في قرية والدته “الصول”، وهي إحدى قرى محافظة إب التي يطلق عليها اليمنيون “اللواء الأخضر” لخضرتها الدائمة وجمال طبيعتها على مدار العام. وفي هذه الأجواء بدأ حياته طفلاً قروياً ميالاً إلى المناظر الطبيعية وشغوفاً بالحكايات التي ترويها العجائز ويحفها اللون الأخضر من كل الجهات.
قضى ست سنوات فقط من عمره هناك، قبل أن ينتقل إلى صنعاء. لكن تلك السنوات القليلة ظلت غائرة في أقصى زوايا ذاكرة الشاعر الذي عاد ليسترجعها في العام 2000 من خلال ديوانه “كتاب القرية” الذي شارك القراء من خلاله ذكرياته الدفينة، وعوالمه التي وصفها مرارا بأنها الأكثر دهشة واكتشافا واختزالا لتفاصيل حياتية جديدة.
عن رحلته بين عالمين من القرية إلى المدينة يقول “الصورة الأولى التي التقطتها الذاكرة لصنعاء كانت في الظهيرة حين لمحتها، من على ظهر الجمل الذي حملني في رحلة السفر الأولى من قريتي إلى صنعاء. وعندما اقتربنا منها وبدأت نوافذ البيوت تتضح بجلاء هبطت من ظهر الجمل وبدأت أسير على ترابها الناعم بقدميّ العاريتين”.
نشأ عشق المقالح للكتابة والقراءة منذ الطفولة، حيث كان لديه هوى جارف نحو الكلمات المكتوبة، والفضل في ذلك يعود إلى مكتبة والده التي كانت تزخر بكتب التراث إلى جانب نماذج من الكتابات المعاصرة في ذلك الحين، وقد تأثر كثيراً بما قرأه في تلك المكتبة التي شكلت ثقافته وتكوينه وزرعت فيه بذرة الكتابة التي اكتسبها من التنقل بين دفات الكتب التي قضى أيامه المعرفية الأولى بين جنباتها.
وعن تلك التجربة يقول “أتذكر أن من بين هذه الكتب ‘مقامات بديع الزمان الهمداني’ و’مقامات الحريري’ وبعض كتب الجاحظ إلى جانب كتب السير الشعبية وكان أهمها بالنسبة إليّ سيرة ‘سيف بن ذي يزن’ التي امتلكت مشاعري الغضة في وقت مبكر وتجلت آثارها في ما بعد في ديوان ‘رسالة الى سيف بن ذي يزن’ وزادت الصلة بيني وبين الكتاب عبر مراحل الدراسة غير المنظمة ثم الدراسة المنظمة التي بدأت في الجامعة وما تلاها من مراحل الدراسات العليا”.
في قلب المشهد
بدأ المقالح كتابة الشعر في منتصف الخمسينات، وترافق ذلك مع اشتغاله في إذاعة صنعاء حيث تنسب إليه الكثير من الشهادات أنه قام بإذاعة البيان الأول لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 وقد ساهم مبكراً في نشر الوعي الثوري والأدبي في اليمن، لكنّ دواوينه الشعرية وكتاباته ظلت قيد الدفاتر ولم يهيأ لها النشر إلا بعد انتقاله إلى مصر.
أصدر عددا من الدواوين في الفترة القاهرية، وكان واضحا عليها آثار الحنين لوطنه ومن تلك الأعمال “لا بد من صنعاء” (1971)، “مأرب يتكلّم” بالاشتراك مع السفير عبده عثمان (1972)، “رسالة إلى سيف بن ذي يزن” (1973)، “هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي” (1974)، “عودة وضاح اليمن” وقد صدر في السنة التي سبقت عودته لصنعاء مجددا في العام 1976.
توغل المقالح في المشهد الأدبي المصري في الوقت الذي كان يستكمل فيها دراساته الأكاديمية حتى حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس في العام 1977. وقد شكلت فترة القاهرة التي امتدت من منتصف الستينات من القرن العشرين إلى سنة 1977 المرحلة الثانية المهمة في تكوينه وفتحت لها آفاقا جديدة ولا متناهية نحو القراءة والكتابة والعيش في حميمية المشهد الثقافي العربي والصالونات الأدبية وحتى المعارك الثقافية والنقدية والجدل حول الأنماط والأشكال الأدبية التي كانت في ذروتها في تلك الفترة الزاخرة من حياته والتي تحدث عنها في إحدى اللقاءات الصحافية قائلاً “لقد كانت فترة الدراسة في القاهرة بمثابة البوابة الواسعة على الآداب بمختلف أشكالها، كما كانت وسيلة مثالية للتعرف على الشعراء والكتاب ليس في مصر العربية وحدها، وإنما في معظم الأقطار العربية، فقد كانت القاهرة في الستينات والسبعينات ملتقى دائما للأدباء العرب من كل الأقطار. فكما تعرفت على صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبوسنة وحلمي سالم وحسين طلب وآخرين، فقد تعرفت أيضا على عدد من الشعراء العرب منهم الراحلون عبدالوهاب البياتي ونزار قباني وشفيق الكمالي، كما تعرفت على عدد من الشعراء الأحياء أمثال حميد سعيد من العراق وعلي كنعان وعلي الجندي ومحمد عمران من سوريا، وتعرفت أيضا على الشاعرة والناقدة المتميزة نازك الملائكة وعلى شعراء من المغرب ومن تونس وليبيا والسودان ولبنان، وكان لهذا كله أثره الكبير في اتساع دائرة الاهتمامات الأدبية شعراً ونقداً ومازلت حتى هذه اللحظة أغترف من معين اثنين أولهما الطفولة وثانيهما معين القاهرة”.
بوابة اليمن الثقافية
عاد المقالح إلى وطنه وانخرط في تدريس الأدب بجامعة صنعاء حتى شغل منصب أستاذ الأدب والنقد الحديث في كلية الآداب بجامعة صنعاء بدرجة أستاذ في العام 1987.
اتسمت تلك المرحلة إثر عودته من القاهرة إلى صنعاء بتكريسه كواحد من أهمّ الشعراء والكتاب العرب في القرن العشرين وبوصفه بوابة اليمن الثقافية، كما مكّنته علاقاته الواسعة بالمثقفين والكتاب والأكاديميين العرب من تقديم خدمات كبيرة للمشهد الثقافي اليمني، وفي المقابل احتضان العديد من الأدباء والمثقفين العرب الذين شهدت بلدانهم اضطرابات في فترات لاحقة.
لقد كانت مهمته أيسر من خلال تبوّئه العديد من المناصب الأكاديمية والثقافية في اليمن مثل تولّيه رئاسة جامعة صنعاء ما بين عامي 1982 و2001، إلى جانب رئاسته لمركز الدراسات والبحوث اليمني الذي لازال فيه حتى اليوم، والمستشار الثقافي للرئاسة اليمنية ورئاسة مجمع اللغة العربية في اليمن.
حظي المقالح بتقدير مماثل على الصعيدين العربي والدولي من خلال اختياره كعضو في مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق وعضوية مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، وعضوية الأكاديمية الدولية للشعر في إيطاليا.
وطيلة توليه لتلك المناصب، عمل على جذب كثير من الأكاديميين والمثقفين والكتاب والمبدعين العرب إلى اليمن وكان ذلك وفقا لبعض الناشطين في المشهد الثقافي اليمني إنجازاً يوازي إنجازاته في الإبداع والتأليف، حيث أثرى المكتبة اليمنية والعربية بحوالي خمسة وأربعين كتاباً بين إبداعات شعرية ومؤلفات أدبية ونقدية وثقافية، ومثّل اليمن في معظم المؤسسات والمجاميع الثقافية العربية.
ونال العديد من الأوسمة والدروع والجوائز اليمنية والعربية والعالمية مثل جائزة اللوتس في العام 1986، وأوسمة الفنون والآداب في شطري اليمن قبل الوحدة، وحصل على جائزة الثقافة العربية، من اليونسكو في باريس في العام 2002 وجائزة الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية في العام 2003. وجائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) خلال العام 2004، وجائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في العام 2010.
تكفير وتخوين
على الرغم من الإنجازات الأدبية والثقافية التي حققها المقالح والاحتفاء العربي والعالمي بمنجزه الأدبي، إلا أن حياته لم تخل من الكثير من المنغّصات الخاصة، فعبر رحلته مع الكتابة والتنوير والريادة، كان وبصفته رئيسا لجامعة صنعاء ورئيساً لمركز الدراسات والبحوث اليمني، طوال الوقت هدفاً للجماعات السلفية والإخوانية التي ما فتئت تكفّره وتخرجه من الملّة والدين وقد كفّر أربع مرات بين مطلع ثمانينات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
المرة الأولى كانت في العام 1984 حين شنت جماعة الإخوان المسلمين حربا شعواء ضده وقتذاك في جميع أنحاء اليمن بسبب قصيدة له ورد فيها لفظ الجلالة مقترنا بالرماد في سياق انتقاد مظاهر الفساد والتي قال فيها “كان الله قديماً حباً كان سحابة كان نهاراً في الليلِ وصار الله رماداً صماً رعباً في كف الجلادين”.
المرة الثانية سنة 1988 وقد كانت الجماعات السلفية وراء التكفير هذه المرة، حيث صدر كتاب للشيخ عوض القرني تحت عنوان “الحداثة في ميزان الإسلام “، وفيه تم استهداف المقالح بالتكفير الصريح.
والمرة الثالثة تم تكفير المقالح بسبب تأليفه لكتاب “قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة في اليمن”، وكان ذلك في ثمانينات القرن الماضي أيضا.
أما المرة الرابعة فكانت سنة 2004 عشية إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية، وبُعيد اختتام مؤتمر “حوار الحضارات” الذي شهدته صنعاء ودعا فيه إلى “تعزيز الحوار الثقافي والحضاري” وإلى “نشر قيم التفاهم والتسامح” و”إشاعة ثقافة السلام ورفض ثقافتي العنف والتكفير”.
وقد كان وقع تكفير المقالح في المرة الرابعة بمثابة صدمة قوية للكتّاب والمثقفين اليمنيين فقد صار رمزاً يمنياً وعربيا وإنسانياً كبيراً وكانت المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون وقتذاك قد كرّمته بدرعها “تقديراً لإسهاماته المتميزة في حقل الأدب والثقافة”.
لكن الجماعات المتطرفة “كافأته” مكفّرة إياه بصلافة مفضوحة، كما يقول الناقد العربي عبده وازن، الذي علّق يومها على تلك الحادثة في مقاله بعنوان “ماذا يعني تكفير الشاعر عبدالعزيز المقالح؟”، مضيفا “بدا للمثقّفين اليمنيين والعرب أن هذا التكفير، الذي كان يبدو حلقة من حلقات التكفير التي طالت مفكرين عرباً كثراً، يبدو في حالة المقالح أمراً (اعتباطياً) وظلامياً بحق. فالمقالح شاعر أولاً وأخيراً وناقد أدبي ومثقف طليعي ولا علاقة له بالسجال الديني أو الفقهي الذي يثير حفيظة الأصوليين المتشددين والمتعصبين، ولا يمكن أن يؤخذ عليه أيّ كفر أو تجديف، بل هو من المتأثرين بالصوفية والفلسفة الدينية والميتافيزيقية، ومن المعتقدين بإنسانية الإنسان وبالصفاء الروحي والقدرة الإلهية”.
وترافقت حملات التكفير التي طالت المقالح مع ما يمكن أن توصف بأنها مرحلة التمرد على الشكل والمضمون في تجربته الشعرية، وهي المرحلة التي شهدت صدور أكثر أعماله إثارة للجدل مثل ديوان “الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل” (1978) و”الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة” (1981)، “أوراق الجسد العائد من الموت” (1986)، قبل أن تبدأ مرحلة أخرى يمكن أن نطلق عليها مرحلة التأمل والتصوف واستعادة الذكريات في شعر المقالح والتي جاءت بعد توقف وبدأت من ديوانه “أبجدية الروح” (1998)، “كتاب صنعاء” (1999)، “كتاب القرية” (2000)، “كتاب الأصدقاء” (2002)، “كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان” (2004)، “كتاب المدن” (2005).
ورغم ذلك ومنذ عودته من القاهرة في سبعينات القرن العشرين لم يغادر المقالح صنعاء، حتى أشيع عنه الخوف من الطيران، لكنه فضّل كما يبدو الاكتفاء بتحليقه الشعري الذي وصل من خلاله إلى أماكن لا تصلها الطائرات.
لحظة صمت وبكاء
لازال يمارس عادته اليومية في قضاء وقته بين منزله ومكتبه، يتابع أخبار الحرب في بلاده بأسى بالغ، يرفض محاولات استقطابه أو انتزاع أيّ موقف منه لصالح أيّ طرف، كما لا يجهد نفسه في نفي القصائد السياسية المنتحلة التي تنسب له بين تارة وأخرى، لكنه وعلى الرغم من صمته البليغ والمعبّر، لم يلق ما يستحقه من احترام المتحاربين الذين لم يقفوا لحظة تأمل بمحراب صمته ووقاره وسكينته التي تليق بمفكر وشاعر في الثمانين من عمره، كما لم يحترموا فلسفته الخاصة في الشعر والحياة، التي تأبى مجاراة كاتب مأجور يحاول استدراجه لمعركة لا تليق برجل يقضي آخر أيامه في البكاء على أطلال وطن وترديد مناجاته الأخيرة ربما:
دثّريني
وشدِّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحدٌ من ضحايا الحروب
التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:
الحروبُ إذا دخلت قريةً
أكلتْ أهلها الطيبين
ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ
أو شجرْ.