الرئيسية / تقارير وحوارات / لطفي أمان.. رومانسي يبكي بنت الرسول
لطفي أمان.. رومانسي يبكي بنت الرسول

لطفي أمان.. رومانسي يبكي بنت الرسول

11 نوفمبر 2015 07:51 صباحا (يمن برس)
ألقت الصراعات المذهبية والتنافس على السلطة بين فرق المسلمين؛ بظلالها السوداء على عديد من جوانب الحياة في الشرق الإسلامي.
 
ولم تسلم من ذلك حتى بعض الجوانب الإنسانية، فعلى سبيل المثال كان للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أربع بنات، ثلاث منهن هن السيدات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، غفل عنهن التاريخ إلا لماما، بينما تسلطت الأضواء على البنت الرابعة السيدة فاطمة -رضي الله عنهن- وعلى نساء من ذريتها أقل شأنا، حتى أضفت بعض المذاهب عليها قداسة خاصة لتمرير أطروحاتها في الإمامة وحصر السلطة في سلالتها.

لم يكن هذا التباين التأريخي في تنميط بنات النبي عليه الصلاة والسلام عادلا، فلم تكن بناته الثلاث استثناء في الإيمان والابتلاء، ففي مقياس الإسلام كلهن آمن بالإسلام وشهدن لأبيهن بالنبوة. وفي الهجرة كانت بنات النبي الأعظم سواء، مع امتياز رقية بهجرتين إلى الحبشة والمدينة مع زوجها عثمان بن عفان.

أما في التضحية والمعاناة فقد اختلف نصيب كل واحدة منهن، فرقية وأم كلثوم تعرضتا لمحنة إنسانية بطلاقهما من زوجيهما المشركين ابني أبي لهب نكاية في أبيهما النبي، وزينب اضطرت لمفارقة زوجها المحب بسبب تحريم بقاء المسلمة في عصمة غير المسلم، وظلت وفية له حتى أسلم وعادا إلى بعضهما في ظل الإسلام.

لكن قبل ذلك تعرضت السيدة زينب لمحنة مأساوية وهي في طريقها للحاق بأبيها في مهجره، فقد تعرض لها أحد أشقياء العرب، وأرعبها بالرمح وأفزع الناقة التي كانت تحملها مما أدى إلى إجهاض جنينها، وظلت تعاني من تلك الحادثة مرضا مزمنا حتى توفاها الله في السنة الثامنة للهجرة، فكانت أكثر بنات النبي ابتلاء في أبيها العظيم.
 
انبعاث المأساة شعرا
في ديوانه "ليل إلى متى؟" تعرض الشاعر اليمني لطفي جعفر أمان (عدن 1928-1971) في إحدى أجمل قصائده إلى واقعة الاعتداء على زينب بنت النبي الأعظم، فخلد المأساة في عمل أدبي فني عظيم نادر في موضوعه لم يحظ للأسف بما يستحقه من تقدير.

ولطفي أمان أحد أبرز شعراء اليمن في القرن العشرين، كان نجم المدرسة الرومانسية في الشعر بلا منازع، إن لم يكن ممثلها الأوحد، وتأثر برموز المدرسة الرومانسية كعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، والتيجاني يوسف بشير، وأصدر ديوانه الأول "بقايا نغم" على نهجهم وهو شاب صغير في العشرين من عمره، فحجز لشعره مكانا رائدا في تاريخ الشعر.

ومع توجهه الرومانسي، فإنه كان شديد الارتباط بهموم وطنه وأمته، فلم يهمل قضية وطنه المحتل آنذاك في قبضة الاستعمار البريطاني، ولا مأساة فلسطين العربية، وحتى الأطفال خصهم باهتمامه من خلال المقطوعات الشعرية التي تقررت في المناهج التعليمية للصغار.. كل ذلك جنبا إلى جنب اهتماماته كشاعر رومانسي.

وكان أمان أبرز شعراء الأغنية العدنية، ومن التاريخ الإسلامي كانت قصيدته "مصرع زينب بنت الرسول الأعظم". وفي كل إبداعاته الوطنية والقومية والإسلامية كان وفيا لتوجهه الشعري، فصبغ شعره برومانسية اللفظ الرهيف، والصوت المهموس، والصور الهادئة والأخيلة الحزينة.

أبدع لطفي أمان من مأساة الاعتداء على زينب وآلام أبيها العظيم وغدر المعتدي الأثيم عملا أدبيا فائق الجمال، يصلح لأن يكون سمفونية خالدة لو وجدت من يحول هذه القصيدة إلى عمل موسيقي راق، بما أبدع فيها من تصوير وخيال، وأحاسيس في غاية الرقة والإنسانية.
 
تبدأ القصيدة بلوحة فنية جميلة أحيت مفردات الطبيعة الجامدة التي جرت عليها وقائع المأساة بما يتناسب مع الجريمة النكراء:
الليل ملتحفٌ بجبته المهيبة بالسواد
أحداقه العمياء تدفن في مغاورها الوهاد
فالبيد غرقى دلجة قد كفنتها بالحداد

وفي تفاصيل هذا المشهد كانت ابنة النبي تسير في ركبها تسوقها الذكريات، ويحدوها الشوق للقاء الأب/النبي/الإنسان هناك في يثرب، والذي صوّرته القصيدة وهو ينتظر قدوم فلذة كبده على أحر من الجمر:
أبنيتي.. يرعاك ربي
هذا نداء الشوق ملحاحا يناديك قلبي
ستضاء يثرب كلها إذ ألقاك جنبي

لكنّ الشر كان موجودا أيضا في المشهد، يتربص بالأب الإنسان والابنة المشتاقة في ثنايا الليل البهيم، ليمنع اللقاء ويصبغ القلوب باللون الدامي بدلا من فرحة التلاقي:
وتتوه في نظراتها الصحراء والظلم الرهيبه
شيء يجلجل في حناياها ويعصف كالرياح
شيء تحس لهوله ولجنبها وقع الرماح

العفو الجميل

وفجأة يُخرج الحقد أسوأ ما فيه، ويضرب ضربته في بنت النبي في الصحراء دون وازع من رحمة ولا قيم القبيلة والرجولة:
هي لحظة وكأنما الصحراء إعصار ونار
الركب منفرط.. وضوضاء.. ومعركة تدار
هي لحظة والموت يضرب باليمين واليسار
وتقع الجريمة الشنعاء التي كانت تستهدف النبي الأعظم قبل أن تستهدف ابنته:
مرقت غواية الحقد بهبة الجاني "هبار"
يا رب! من؟ وانهدّ هودجها كما انهد النهار
وأريق أطهر ما يراق من الدماء على القفار

وتقع مأساة حقيقية لبنت النبي لا يكاد يذكرها رواة القصص كثيرا، وتتغلب عليها أساطير المذاهب والصراعات على العروش التي راحت تؤلف قصصا أخرى لتدعم مذاهبها، ونسوا مأساة زينب كما نسوا مآسي كثيرة للإنسان المسلم العربي تسببوا فيها بتكالبهم على مغانم الدنيا والسلطان.

وهناك في المدينة كان النبي/الإنسان/الأب ينتظر على أحر من الجمر لقاء ابنته الحبيبة بعد مرارات الفراق، لكن الأخبار تصل بالفاجعة الأليمة، ويحمل قلب النبي ألما جديدا:
وينكفئ النبي على مدامعه الغزار
وتنوء بالحزن الثقيل مطية الليل البهيم
ويطل يوم لا جديد فيه تبلله الدموع

وتصل القصيدة في نهايتها إلى أعظم عبرة يقدمها النبي الإنسان، عندما يقدم (المجرم) "هبار" إلى المدينة، لكنه هذه المرة يأتي مسلما موحدا بالله مؤمنا بالنبي الذي أجهض ابنته يوما ما:
وكأنما انتفض النهار
لما أطل ملثما وكأنه شبح أغار
حسر اللثام مروعا فإذا به الجاني هبار
أمحمد هذه قناتي
أحسم بظباتها حياتي
أو فاعف عني يا رسول الله للإثم الجسيم
وتتجلى العظمة والنبوة في أجمل معاني التسامح والعفو:
فاهتز روح القدس في أعطاف أكرم من كريم
وَسَخَا النبي بعفوه في لحظة الضعف العظيم
كم هي قصيدة جميلة وجديرة بأن يقرأها الناس ويعيشوا بها ومعها قصة الابتلاء والصبر.. والعفو الجميل.
 
______________
* كاتب صحفي يمني 

شارك الخبر